22 ديسمبر، 2024 10:06 م

من شقوق الظلام الحلقة السابعة عشر

من شقوق الظلام الحلقة السابعة عشر

نعم كانت الأمور تسير فعلا نحو هذه النهاية وبعد زيارة الأهل الغريبة بفترة تم نقل مجموعة من سكنة الزنزانة الى معتقل آخر يحتجز فيه بالعادة من حان وقت محاكمتهم. خرجوا فجرا وغابوا حوالي الاسبوعين او اكثر لا اذكر ذلك تحديدا الآن فقد مضى زمن طويل ولم يعد الوقت مهما حينها لانشغل بحسابه. لمَ أعبأ وقتها ولا بعدها بعملية إحصاء الأيام التي سوف أقضيها في السجن فهي كلها متشابهة. كنا نترقب فجر اربعاء قادم وهو موعد منتظم لنقل السجناء الى محكمة الثورة، الا انا دخلنا في نفق من انتظار مقلق وما كنا نخاله أمرا دوريا تحول الى ترقب عشوائي ولد في كوامن نفوسنا مدا عاليا من القلق والحيرة. غرقنا في تحليلات الموقف بفرضيات تخرج من بحر حيرة نخوض فيها ومن ثم نخرج بعدم ولكنا كنا نضع هذا العدم على شاطئ حواراتنا بعناية فائقة مثل صيد ثمين، كما لو كنا غواصين ماهرين استخرجنا لؤلؤا نادرا من بطن حوت. وهذا حال من يعدم كل حيلة ولكنه يأبى البلادة والكسل فيبني ولو من أوهامه عملا ربما يعاجله الحظ بضربة لم تكن في الحسبان. و في غفلة من احد الاماسي اندفع الى الزنزانة نفس من افترضنا أنهم حوكموا. اعترتنا الدهشة ! ومثل مطر غيمة استوائية هطلت عليهم اسئلتنا ولم نجن منها إلا خيبة الأمل. كانت اسئلتنا مثل غيث ينهمر على نهر فلا نبت يستتبع هطوله ولا يزيد النهر إلا بما هو كائن فيه بالخلقة. كنا في موقع واحد ولكن صفين متقابلين فكما نحن كانوا هم أيضا لا يعرفون حقيقة ما جرى، سوى حكاية موجزة بلا معنى. أخذوا الى المعتقل الخاص تمهيدا للمحاكمة وفي يومها ظلوا حبيسي شاحنة مغلقة أمام مبنى المحكمة ثم عادت الشاحنة بهم بعد سويعات بهم الى المعتقل الخاص وظلوا طوال الفترة المنصرمة هناك في ظروف عجيبة سأرويها لاحقا. وها هم قد عادوا.

ورحنا نتخبط بفوضى، حينا تثري فينا آمالا كبارا وتارة أخرى تخنقنا بقسوتها. نتأرجح بين صور مزدحمة مشوشة توارينا ساعة في طمر النسيان واخرى تطوف فوقنا مثل شبح تعيد إلينا الحياة. كان ليلا شتويا مخيما علينا ببرده القارس يذكرنا بهشاشتنا ويزيد مصيرنا غموضا، وكان علينا بعد عناء التفكير ومشقة الاسئلة السائبة ان نجبه هذه الحلكة المضاعفة اما بالقبول باننا على وشك أن نفقد كل شيء او نظل نتشبث بسراب الواحة النائمة خلف التل. لم يكن واردا ابدا زجر كلا الصورتين عن اعيننا الشاحبة المنهكة فقد علقنا بينهما بلا فكاك وفقدنا غريزة النسيان واستقرت شهوة القلق في قعر ذاكرتنا اليقظة ابدا.

إلى أن ايقظنا صوت ضابط في ساعة متأخرة، قال بضع كلمات باستعجال و بنبرة تشي املا. كلمات لازلت احفظها حرفيا كما قذفها في صخب تنازع الصور وتجاذب أطراف القلق، لتخمد الحيرة وتحيي أملا في مواصلة الحياة ولو في زنزانة.

– خفيفة، ان شاء الله. السيد الرئيس أمر بإيقاف الإعدامات.

تغير كل شيء وقرار الحكم علينا بالإعدام اندلف إلى زاوية بعيدة منكفئا وصار يحدونا أمل حقيقي بمواصلة البقاء، على الاقل كنت متيقنا من هذا في قرارة نفسي ولاحت لنواظري صورا تجرجرني للأمام وبتت أتهيأ لأخمد رغبة اليأس والعبث التي استوطنتني لاشهر. لم أقف على تبرير واحد افسر به هذا التحول في الحكم علينا وظل عصيا على الفهم ابدا لان كل شيء في البلد كان يجري بقرارات مزاجية لفرد واحد وليس من اليسير فهم دواعي صنعها بل كان احجية ولغزا اكثر الاحيان ولا وصف لها الا نوبات من انفعال وهلع. ولكن سأروي قريبا لكم امرا استطيع جازما القطع بحصوله متزامنا مع هذا التحول سأرويه بأمانة كما وقع ولن اعلق عليه حتى لا اوحي بشيء لا يمكن التثبت منه، الا انه لا يمكن ان اغفل انه قد حفر اخدودا عميقا فيَّ لا املك نفسي عن الانجراف فيه وان استجمعت كل غرائزي وايقظت سائر شهواتي ومهما ركنت الى الفرار منه اقع فيه.