نظرة وداع اخير
حملت كل ما تبقى من ممتلكاتي بعد مصادرة المنقول منها وغير المنقول، ودسستها في قميص جاءني بعد زيارة لتركيا قبل الاعتقال بعام واحد. كان قميصا مميزا وكنت اشعر انه جزء مني منذ اول يوم حصلت عليه وكنت اسميه مراد ولكن ليس بلا سبب. فقد كانت له نضارة الشباب بمربعاته الحمراء السوداء وباسم صانعه (مراد) المكتوب تطريزا على ياقته الداخلية وعلى الاكثر انه كان اسما لمصنع ولذلك اطلقت عليه هذا الاسم. قميص ظل مصاحبا لي لمدة طويلة وكان شاهدا على وجودي في لحظة سيأتي وقت للحديث عنها في حكاية مثل حكاية قميص يوسف ويبدو ان كل سجين رأي مرشح لان يكون يوسف، جميل في فكره، مثير في تقلب احواله، وشاهد ازلي على قيم الخير والجمال مهما حاول اخوته الاشقياء ان يطمسوها وطبعا لا غرابة ان صاروا بعدئذ نقباء قومهم او خالهم اخرون انبياء، لكنهم سوف يظلون مبرقعين بخطيئتهم ابدا وعندما يمر ذكر يوسف امامهم فسوف يبوحون بسر خبيئتهم النتن ويتشكلون ثانية وثالثة والى ما لا يعد ولا يحصى من المرات حسادا قتلة مجرمين حائرين في طمس جنايتهم التي عافها الذئب واستنكف منها. لن يتوبوا عنها ابدا فسوف يقض مضجعهم ذكره وينفجر غضبهم بوجه محبيه فيهبوا مثل مخبول فَزعٍ من كابوس ليرتلوا بسخف ممل كلمات نشيد مقرف بالٍ يحكي فشلهم وعجزهم وجبنهم وغريزيتهم الحيوانية “تالله إنك لفي ضلالك القديم”.
وانا اوظب مراد بعناية زائدة كي لا يفقد شيئا من محتوياته سرحت بنظراتي في وداع لرفيق شجاع لم الق نظرة الوداع الاخيرة عليه فقد سبقني مع اخرين بيوم الى المحكمة المهزلة ومن هناك اختفت اثاره للابد من دون الثلاثة الاخرين الذين كانوا معه. تلاشت اثاره كلها من هذه الدنيا ولم اعد بعدها اراه متوثبا متحفزا ولم يصر بمقدوري ان اُسمع اذناي كلماته المنبثقة من بحر التحدي ولا انتشي بضحكاته الساخرة من الادعياء. باسى وجزع وانا ارمق جدران المحكمة عاتبتها وهي التي احتضنت آلام وتأوهات عذاب غمد نصله عميقا فيّنا جميعا، عاتبت هذه الجدر وجدر زنازين كثر مررنا بها برفقته كيف له ان ينفرط منكن وانتن احتضنتن نغمات الدفء وكل الأثار التي نحتت شعارات الثورة وأبيات الشعر التي كان كل ما فيها يفيض حبا وجمالا وثورة، جدر دونت وصايا من غادر الدنيا سريعا وتاه جسده في كثبان رمل تطيح بها الرياح وتسافر بها الى الجهات الاربعة ولم تزل تضمهم الى حناياها تخبئهم في قلبها بعيدا عن اعين كل الناس حتى عن بواصر ذويه ومحبيه تخشى عليهم ان يضيعوا في المدافن مع الاخرين لان المقابر لا تليق الا بالموتى فكيف لها ان تحويهم وهم وحدهم الاحياء في هذا الكون الفسيح الوسيع. ارواحهم لم تزل سائحة في براري وصحارى الوطن تلاحق حلمها في الخلاص من سوأة ابن العاص المقيمة في مضامير السبق، ولم تزل ترنو الى يوم يخلو من حشود المهرجين كقردة وهي تنزو على منصة رئاسة خلقت للحكماء بنقاء فطرتهم لا للدهاة الثمل برجسهم.
عند غبش لا اعرف مطلعه امتلأ واخرون بالحياة استعدادا للرحلة الاخيرة، رحلة الى نافذة تشرع فيها للريح أجنحة تنقل رغبة المتمردين عشاق الحياة في رفض الموت. نافذة تنقل الى عالم الحقيقة عشاقا سلكنا معهم كل الدروب، الجد والهزل، الضحك والبكاء والمرح والشقاء. سافرت بهم الريح بعيدا عن الاوهام واقتربوا من ملامسة حقيقة الاشياء لينعموا هناك بالسكون الخالد والراحة الابدية وينثروا من علياهم على عالمنا بذور الحياة على الارض عسى ان يتلقفها زراع جدد مثابرون لتستمر الحياة على هذا الكوكب الضاج بالخطايا لعل يوما يأتي تتحقق فيها نبوءة الالهة ويصدق الكل حتى وان كان شيطانا مريدا ان الالهة تعلم ما لا يعلمه احد وانهم كانوا وحدهم العالمون بالأشياء وغيرهم الجاهل والمستكبر عليه ان يسجد لهم دوما ابدا سرمدا.
رحلة غادر فيها صحبة لنا كل هذه الأحلاف الخبيثة المتواطئة ضد غريزة التمرد فيهم لانهم كانوا حقيقة الانسان التي عجز عن بلوغها الموغلون في شهوات الجسد. رفاق كانوا هم الماء الذي اعطى الحياة لكل شيء ولا يزال يفعل. من رمادهم يصنع الشعراء قصائدا، وبدمهم يكتب الادباء روايات ومن أجسادهم ينحت المثالون نصبا. ولولاهم لحار المصممون الاذكياء في متاهة البحث عن اسماء المباني والشوارع والساحات وقاعات المثقفين، ولولاهم لتوقف المؤرخون عن تدوين تتابع الاشياء. لولاهم لكان الكون سكونا محضا بل عدما فهم اكسير الحياة. هم كانوا الكلمة في البدء وهم كانوا ايضا مسك الختام، هم قطر الغيث العذب الذي يسقي الجمر في قلوب الاحرار الولهين المتبعين آثار الحياة. هم ليسوا كغيرهم محض سراب يتوسل الصخر متملقا بعبارات فجة افتح يا سمسم عسى ان يحظون بكنوز الخرافة من سندباد الوهم والخيال، بل هم حقيقة الوجود نثروا على الصخر القاسي دمهم عبيطا فشقوا الانهار وانكفأت كل الاوثان خاضعة ذليلة لهم في كل آن ترتعد خشية من ذكرهم. فهل سمعتم يوما ان الطغاة يحاربون احدا غير الشهداء وهل رأيتموهم يسعون لمحو ذكر احد غيرهم مهما كان ؟ ليس بحمق هذا ولا خطل رأي من العتاة، بل لان الشهداء وحدهم هم حقيقة الخطر، لانهم احياء لا يمسهم سوى الخلود وما خلاهم اموات لن يعرفوا الحياة ان لم يلتمسوا سبيل الخالدين. وداعا صديقي كنت غفورا واغفر لنا لو اصابتنا سنة او نوم فقد تعبنا من ممارسة الانتظار للحوق بك وداعا والى لقاء.