من شجرة الميلاد إلى زحمة الطرقات وسخط العلماء

من شجرة الميلاد إلى زحمة الطرقات وسخط العلماء

مع اقتراب نهاية العام، وفي ظل التطورات المتسارعة في المنطقة، تزايدت التصريحات والمواقف من رجال الدين من السنة والشيعة الرافضة لاحتفالات أعياد رأس السنة الميلادية التي يمارسها بعض المسلمون، معتبرين أن هذه الاحتفالات تتناقض مع ثوابت العقيدة الإسلامية وقد تؤدي إلى شراك الكفر. وعلى الرغم من شدة تلك التحفظات، اعتبر البعض أن هذا الخطاب يمثل مفارقة واضحة مقارنة بتحديات الواقع الذي يعيشونه.

بين جدل هذه التحفظات والاعتراضات تظهر مفارقة أخرى تحمل طابعًا هزليًا، حيث يبدو أن الكثير من المسيحيين في العراق لديهم رغبة تفوق رغبة رجال الدين المسلمين أنفسهم في أن يتوقف المسلمون عن الاحتفال بهذه المناسبات، حيث تعد هذه الأعياد أيامًا ذات رمزية خاصة وأهمية روحية، حيث تجتمع العائلات حول الموائد، ويتلاقى الأقارب والأصدقاء في أجواء دافئة، أو يقضون أوقاتًا ممتعة خارج المنزل، لكن الواقع غالبًا ما يحول دون ذلك؛ حيث يجدون أنفسهم في منافسة مع الآخرين للحصول على شجرة ميلاد، أو يعانون لحجز طاولة في مطعم للعشاء مع عائلاتهم، حيث تكون الطاولات محجوزة مسبقًا. وحتى عندما يقررون قضاء أمسية هادئة مع أقاربهم، ينتهي بهم الأمر عالقين لساعات طويلة في زحمة الطرقات المكتظة بالمحتفلين من غير المسيحيين، أما الشباب الذين يتطلعون إلى سهرة استثنائية في أحد النوادي، فيفاجئون بأن أقرانهم من الشيعة والسنة، الذين نادرًا ما يجتمعون في مناسبات اسلامية مشتركة، قد اجتمعوا في يوم مناسبتهم.

هذه المشاهد رغم طابعها الساخر في كثير من الأحيان، ليست سوى واحدة من العديد من التناقضات والمفارقات التي تعكس التحولات الحاصلة في نمط الحياة الاجتماعية والثقافية في المجتمع العراقي والتي تأثرت بشكل كبير بالعولمة والرأسمالية،ومنها الاحتفالات برأس السنة، التي كانت ترتبط بتقاليد دينية خاصة ثم تحوّلت إلى تقليد أعمى متأثر بثقافة الاستهلاك والاستعراض التي أفرزتها العولمة والرأسمالية.

حيث تستغل هذه الأنظمة التجارية او الرأسمالية أي مناسبةسواء كانت دينية أو غير دينية، لتعزيز الربحية من خلال طرح العروض التجارية والتخفيضات، وبيع مستلزمات الاحتفالات وإكسسواراتها، مما يحفز الناس على تبني أنماط استهلاكية جديدة، هذا التأثير التسويقي لم يقتصر على الاحتفالات الدينية فحسب، بل امتد أيضًا إلى مناسبات اجتماعية وثقافية أخرى، حتى أصبح المجتمع، بفعل المحفزات التسويقية، يتطلع إلى أي فرصة لإظهار مشاعر الصخب والفرح والفوضى في الشوارع، بغض النظر عن طبيعة المناسبة أو الحدث.

كما لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا بارزًا في تعزيز ثقافة الاستعراض والرفاهية على حساب جوهر تلك المناسبات التقليدية، مثل أعياد الميلاد وغيرها، إذ يتسابق الأفراد على منصات التواصل الاجتماعي لإظهار مشاركاتهم في هذه المناسبات، في محاولة لعرض أنماط حياة عصرية مثالية، بناءً على الفكرة الرأسمالية التي ترى أن الاستهلاك هو الطريق الأقصر لتحقيق الذات وإبراز المكانة الاجتماعية.

مع تعقيد هذه الظواهر يجد الخطاب الديني، سواء كان سنيًا أو شيعيًا، نفسه عاجزًا عن التأثير في المجتمع في مثل هذه القضايا، وذلك بسبب اعتماده على قالب وعظي تقليدي يفتقر إلى إدراك تأثير السياقات الاجتماعية والفكرية المعاصرة، ونتيجة لذلكجاءت الردود عكسية وأخرى ساخرة خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، ردًا على تحفظات رجال الدين، مما ساهم في زيادة حالة الانفصال بين الخطاب الديني وجمهور المجتمع، ويأتي هذا وفقًا لما يعتبره البعض، ضمن سلسلة من إخفاقات الخطاب الديني في العراق، حيث تصدر بين الحين والآخر آراء دينية مثيرة للجدل من بعض رجال الدين تتعامل مع المجتمع كما لو أنه لا يزال عالقًا في القرون الوسطى، متناسين الحالة الفكرية والاجتماعية التي بلغها المجتمع، مما يستدعي خطابًا معاصرًا يتناسب مع متغيرات العصر.