“وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُون”. لو افترضنا أن كل كتلة سياسية أو حزب أو مكون اثني في العراق يسمي نفسه ب “دولة” أو”جمهورية”، لصح القول أن تسمى جمهورية العراق ب”جمهوريات الاتحاد العراقي المتشاققة” على غرار “جمهوريات أ لاتحاد السوفياتي الاشتراكية المنحلة” والفرق بين هذا وذنك هو الفرق بين الأزمنة والأمكنة لكلا الطرفين، وبين واقع الحالين في المنطقتين، وبين طبيعة الأرض والمناخ وثقافة السكان وطباع الناس، وبين سياستي الاشتراكية والشقاق بما يسمى ب(الديموقراطية). اللافت يبدو أن الشقاق والمحاصصة والعمالة صرن سمة من سمات نظام بما يسمى بالحكم الديموقراطي في العراق، وصنو من أصناء الإرهاب والفساد، الأمر الذي جعل العراق في الوقت الراهن بأمس الحاجة للاصلاح والتغيير أملا في استقامة الأوضاع، وخوفا من أن تؤول الأوضاع إلى ما آلت اليه الأوضاع لجمهوريات الاتحاد السوفياتي المنحلة، واللاتي فككت على اثر تطبيق سياسة وبرنامج الاصلاحات “البيريسترويكا” الذي اطلقه رئيس الاتحاد السوفياتي المنحل “ميخائيل غورباتشوف”، وقد صاحبت “البيريسترويكا” سياسة ال “غلاسنوست” والتي تعني “الشفافية”، فأدتا هاتان السياستان على ما يبدو إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه إلى دويلات مستقلة سنة 1991. يذكر انه لم تستطع التغييرات الاقتصادية التي ادخلها غورباتشوف بإعادة تنشيط اقتصاد الدولة، فبحلول سنة 1990 كانت الحكومة قد خسرت السيطرة على الظروف الاقتصادية مما زادت نفقات الدولة بشكل حاد بسبب ازدياد عدد المقاولات الخاسرة، وانخفاض عائدات الضرائب، وبهذا كسرت قاعدة العرض والطلب، دون المساهمة بايجاد قاعدة بديلة، وبالتالي أدت سياسات غورباتشوف إلى خلق معوقات انتاجية جديدة لايمكن تداركها والسيطرة عليها. إن الظروف التي تعم العراق في الوقت الحاضر، ربما قد تكون مشابهة للظروف التي كان عليها الإتحاد السوفياتي آنذاك، والتي ادت إلى تفكيكه، ذلك لأن برنامج الاصلاحات في العراق صار بحكم المستحيل بسبب هذه الظروف-“إن لم يعجل بالتغيير الحقيقي والجذري والشامل والمستعجل”- ذلك بسبب فقدان سيطرة الدولة على دفة الأمور، وبسبب فقدان المركزية في ظل الطائفية والمحاصصة والفساد، وبسبب الافلاس الشعبي والنضوب الوطني والفكري الاستعراضي الزائف لمعظم السياسيين لدرجة عدم قدرتهم على ادارة أمور البلاد والعباد. فمنذ اليوم الأول للاحتلال الأمريكي من سنة 2003 اعتمدت سياسة الاحتلال آنذاك على سياسة التأسيس للمحاصصة والمكوناتية، ويكأن الكيان العراقي مبني على تكوين وإئتلاف عدة دول داخل الدولة العراقية، أو كأن الشعب العراقي في نظرهم أقرب شبها للخليط الاجتماعي أو التجمع السكاني، من خلال التاسيس لمجلس الحكم الانتقالي المحاصصاتي مما أضعف هذا النوع من نظام الحكم القرار الوطني العراقي الحاسم والحس الوطني العراقي المخلص الشريف لحساب الحزبية والطائفية والمذهبية والمكوناتية والمحاصصاتية، فمن تلك الوهلة ترعرعت ونمت وشمخت الاقطاعيات والتكتلات السياسية، وتضخمت وإضمحلت كذلك بقية الأمور الحياتية والإجتماعية والاقتصادية الاخرى، وعززت تلك التداعيات ايضا من أطراف دولية وإقليمية للسير قدما بهذا الاتجاه الكالح والمنهج المعوج، وما يعززها ضمنا ديباجة مواد وفقرات ومحتويات الدستور الذي بني على خطأ، فنجم عن ذلك فشل أداء المؤسسات الحكومية العراقية، وانتشار الفساد بجميع انواعه، وفشل البرلمان حصرا وتعثره في اتخاذ القرارات المناسبة، ونجم عنه أيضا ضعف النزاهة والقضاء وانحراف وسائل الاعلام وتخبطها عن اداء رسالتها بما ينسجم مع أهداف السلطة الرابعة بسبب تحكم الكتل والأحزاب المسيطرة على المشهد. هذا وقد سارت الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، وتنحت الدولة العراقية إلى وضع اكثر شبها ب “اللادولة” أو إن صح التعبير بما يعبر عنها ب “المحمية” أو “الضيعة”، ذلك بسبب غياب القسم الأكبر من خصائص ومرتكزات الدولة وإضمحلالها لدرجة غلبة وسيادة المفسدين والمحاصصين لصالح الفوضى الخلاقة، “إذ لا سيادة كاملة للدولة سوى سيادة قهر المواطنين واذلالهم، ولا قرارات عامة تخدم الشعب وتحترم تطلعاته في العيش الكريم ببلد غني وآمن، ولا احترام للشرعية الدستورية والشعبية، ولا قوة وهيمنة وحزم للدولة على الجميع، ولا احترام للطابع الاقليمي والجغرافي للدولة العراقية على المستويين الخارجي والداخلي”. وعلى المستوى الشعبي والاجتماعي كما هو السائد في الشارع العراقي لوحظ تدني الأداء التشريعي والتنفيذي،وزعزعة الإجراءات القضائية، وتردي الأوضاع الامنية، واستشراء الفساد بجميع انواعه، وانتشار مظاهر الرشوة والوساطة، بجميع الاطر والانماط ،وتأثير البيروقراطية الادارية عبر الروتين القاتل، والسلوك الاستعلائي لبعض الموظفين وتعقيد الاجراءات، والنفوذ المادي والاعتباري لسذج الناس وجهالهم، والفرص المؤاتية التي وفرتها الظروف للحمقى والزمكانيين والمنافقين من عامة الناس، هيأت تلك الظروف مجتمعة التربة الخصبة لغرس تقاليد الوشائج الاصطفائية في ذاكرة الناس وعقولهم وأعرافهم لتعود بهم إلى الانتماءات الاولية، ليعرضوا مفاهيمهم في اسواق النخاسة السياسية، واسواق المزاد المؤدلج، على انهم شرفاء ومخلصي هذا البلد، الذين جاد بهم الزمان، ولتحل تلك المفاهيم، محل شرف الولاء والانتماء للوطن، وتعهد المصلحة الوطنية العليا. هذا وقد حذر سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيس تاني “دام ظله الوارف”، جميع الأطراف السياسية من الاستمرار على النهج الحالي في التعاطي مع قضايا البلد وأزماته. هذا ولا اشك ولا للحظة واحدة من أن أمريكا ومن معها من الصهاينة والأعراب والسلاجقة لا تريد للعراق إلا التقسيم، ولا اشك أيضا من أن “غورباتشوف العراق” على وشك الانقضاض في الوقت المناسب لتفعيل “البيريسترويكا العراقية” لتقسيم البلد إلى كانتونات متناحرة، عندها ستدق صافرة الحكم ايذانا بانتهاء هذا الشوط من اللعبة. ولاندري من سيتصدى مستقبلا لتبوأ دور”غورباتشوف العراق”… ؟ ومن الذي يقوم بهذه المهمة؟ ولاندري من سيكون بها وزيرا وجديرا؟ وإذا ما حصلت التجزئة والتقسيم”لاسمح الله” فإن حجر” البيريسترويكا” سيطال معظم دول المنطقة في الخليج والشام ودول بما يسمى بالشرق الأوسط الكبير. “وإذا أمسى التقسيم واقعا وحتما من حيث لايمكن تخطيه فلا بد اذن من المضي قدما بالاصلاحات الحقيقية والجذرية والشاملة والسريعة، والعمل كذلك على إصلاح شؤون وتعزيز دور الدولة، بالقدر الذي يفوق الاهتمام بالسلطة والمكاسب التي لا تسمن ولا تغني من جوع”. “ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيم”.