18 ديسمبر، 2024 9:14 م

من ذكريات الخدمة في الجيش العراقي

من ذكريات الخدمة في الجيش العراقي

بعد أن إنتهيت من دراستي الجامعية تم سوقي للخدمة العسكرية. كنت عندها في بداية الطريق متفائلاً وحالماً بوطن سوف يلبي طموحاتي وأنني سوف أتخذ منه حضناً حنوناً ملؤه الدفىء ومنه أنطلق إلى حياة كريمة.

لكوني خريج جامعي فإنهم إختاروا لي الصنف الإداري، وتم تسليمي مكتب الوحدة. في مساء يوم من أيام الخدمة هذه، جاءني مراسل الآمر إلى قلم الوحدة وأخبرني بأن الآمر يطلب حضوري عنده. سارعت إلى السيد الآمر وأديت التحية العسكرية وانتظرت ليتكرم هذا الآمر بالتحدث وشرح ما يريده مني. هو يشغل نفسه بين الأوراق ويجعلني أنتظر ليثبت لنفسه ولي بأنه الآمر وأن أمره هو الذي يسري عليّ وعلى كل الذين تحت أمرته. أراقب حركاته وأفهم جيداً إنه لا يعرف ما يريد من هذه الحركات سوى أن أكون واقفاً كالعبد. والمشكلة الكبيرة التي واجهتني أثناء الخدمة هو الإحساس بالنقص الشديد لدى بعض الضباط وخصوصاً هذا الآمر لعدم تمكنه من الحصول على شهادة جامعية. فالمعروف أن الكلية العسكرية تقبل بأقل الدرجات شريطة أن يكون المتقدم إليها من عائلة مقربة وموالية للنظام آنذاك.

على أية حال تفوه الآمر بعد ما يقارب 10 دقائق من وقوفي كالخشب. وقال لي عندما تنزل إلى كركوك إجلب لي قاموساً للغة الإنكليزية. ولتسهيل الأمر سألته في أي مجال تريد أن تستخدمه سيدي. بسؤالي هذا وكأنني قد كفرت به وبأبيه ومعتقده. هاجمني فوراً برد قاس وشرس. لم أتفاجئ بهذا الرّد بالطبع، لأنني أعرف أخلاق المقابل وما يعانيه من حالة نفسية غير مستقرة. رد عليّ قائلاً كيف تجرؤ وتسألني؟ أنت تنفذ الأوامر فقط ولا حق لك في السؤال.

في تلك الفترة من تسعينات القرن الماضي كان الأمراء من المقربين إلى النظام البعثي، ولا يعين أحد في منصب الآمر إلاّ إذا كان من المبشرين والذين يقدمون السّمع والطاعة. وليس لي ولا لأحد حق الرد على ضابط في الجيش العراقي، وإلاّ فإنك ستتهم بعدم الولاء للسيد الرئيس.

لم أجرؤ على الكلام أمام هذا الأمر، ولا أخفي عليكم أنني كنت أشفق عليه في أعماقي رغم كل شيء. نزلت إلى كركوك مع وجبة الإجازة، اشتريت على حسابي الخاص متعمداً قاموساً للمصطلحات الطبية. أنه لن يجد شيئاً في هذا القاموس سوى ما يفيد المجال الطبي وليذهب وليذهب ويبحث لأيام وأيام وليضطرب أكثر فأكثر فلن يجد ما ينفعه.

بعد العودة من الإجازة والإلتحاق إلى الوحدة، طلبت مواجه الآمر وقد قدمت له القاموس. طبعاً ليس من المعقول أن يشكر الآمر جندياً بسيطاً مهاناً عديم الاعتبار، وليس من العقل أن يتنزل الآمر ويشعر الجندي البسيط برضاه. إنه السلطان في وحدته ولا حول لأحد سواه. وضعت القاموس على طاولته وأشار هو بإصبعه لي وأمر بالإنصراف فإنصرفت.

تسرحت من هذه الوحدة بتاريخ 16 نيسان 1997 ولأنني من أبناء القومية التركمانية فقد اكتشفت أن الدولة التي خدمت من أجلها فإنها لا تعتبرني مواطناً من الدرجة الأولى أصلاً. رفضت هذه الدولة قبولي للعمل بشهادتي الجامعية فإضطررت إلى العمل في السوق خطاطاً ومترجماً قانونياً لمحكمة استئناف منطقة كركوك.

لم تكن أجهزة الكومبيوتر شائعة حينها وكانت الكتابات يدويه والحاجة إلى الخطاط ماسة. الجنود والضباط من هذه الوحدة التي تسرحت منها بدؤوا بالتردد على مكتبي لأخط لهم بعض السجلات وما إلى ذلك. وفي يوم من الأيام جاءني هذا الآمر بنفسه مع مجموعة من ضباط الوحدة. جلس عندي وقمت بالواجب وقدمت له بالغ الاحترام والتقدير. فإذا به يتحدث للضباط ويقول لهم: لقد ناديته في يوم من الأيام وطلبت منه أن يجلب لي قاموساً للغة الإنكليزية. وإذا به يجلب لي قاموساً لا يحتوي على أي شيء، ولم أجد فيه كلمة تنفعني! وأنا كنت أعتبرته خريجاً جامعياً يعرف بالقواميس والكتب.

قالها مستهيناً بي ليضحك الضباط عليّ ولإستصغاري أمامهم. لكنني سرعان ما أخبرتهم بأنني جلبت له عمداً ومتعمداً قاموساً للمصطلحات الطبية وتقصدت في جعله تائهاً وفي حيرة من أمره، بعد أن رفض الإجابة على سؤالي في أي شيء تريد إستخدامه. الضباط الحاضرين ضحكوا ضحكاً شديداً وعلموا أنني قد لاعبت هذا الآمر دون أن يدري. وقد أحس هو بجهله وأنه لا يفقه أبجديات القراءة والكتابة وأن الزمن هو الذي جعل منه شخصاً يتأمر عليّ. تيقن هذا الآمر بأن الذين يعلمون والذين لا يعلمون لا يمكن أن يستوون. نهض بعد أن استوعب الدرس وإنصرف مسرعاً ولحق الضباط الحاضرون به وبقينا نضحك ونضحك.