المال العام وفق رؤى الدول المحترمة له قدسية كبيرة ويحاولُ قادة هذه الدول والمسؤولون فيها المحافظة عليه من الضياع لإدراكهم الكبير بقيمته البالغة . ولكن للأسف الشديد لم يكن في العراق محط احترام أغلب المسؤولين ، بلْ دائما ما يتعرّض للإهانة والهدر دون الشعور بأدنى قدرٍ من المسؤولية ، حتى أصبحَ هذا الموضوع جزءاً من الثقافة العامة لمن يتبوؤون المناصب بمختلف مستوياتها وخصوصا المناصب التنفيذية . وأعتقدُ أن أهم الأسباب التي تدفعهم لمثل هذا التصرف التفكيرُ الآني المرحلي لمعالجة القضايا دون النظر الى المستقبل البعيد . فالمسؤول يحاولُ ايهامَ الرأي العام بأنهُ يعمل ، ويحاولُ أيضاً النأي بنفسهِ عمّا يهدّدُ مركزه الوظيفي ، وليس انطلاقاً من تحمل المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه ، ولهذا يلجأ الى الحلول السريعة المؤقتة التي يراها أفضل وسيلة للخلاص من النقد والناقدين . كما أعتقد أن أغلب المسؤولين لم يكن لديهم الايمان المطلق بأدوارهم في عملية بناء البلد بقدر حجم الأمور الأخرى التي تشغل تفكيرهم وتجعلهم يتخبطون يميناً وشمالا للحفاظ على ما حصلوا عليه ويخشون عليه من الزوال . والمشاهدُ على هذا الأمر كثيرة جدا ، وربّما لا يسعُ ذكرها هذا المقال الصغير . ولكنني سأذكرُ بعضها وأتركَ الكثير منها للقارئ أو للمتابع الكريم . مثلاً عمليات الصيانة لشبكات الطرق وللمباني العامة وللجسور وللمنشآت الأخرى تخضع لاجتهادات وأوامر فوضوية غير مدروسة بعيدة كلّ البعدِ عن المفاهيم العلمية للصيانة . ممّا يجعل عمرَ الترميم قصيراً جدا ، وبالتالي الرجوع الى نقطة الصفر بأسرع ما يكون واعادة صرف الأموال من جديد ولفترة أخرى وبنفس الاسلوب . وهذا يقودنا الى استنتاج واضح صريح أن الفقرات المحتاجة للترميم أو للصيانة تستهلكُ من المال العام أكبر من سعرها الحقيقي نتيجة الهدر المتكرر لما يصرف عليها اعتباطا . وهذا بحدّ ذاته أكبرُ اهانة للمال العام وأكبرُ خيانة له وللبلد . كما أن بعض المشاريع يتم تنفيذها دون الاعتماد على معادلات الجدوى الاقتصادية ، وربّما يتم التوقيع على تنفيذها من أجل مآرب أخرى . وهنا تظهرُ النتائجُ الكارثية التي تكشف عن مدى الاستهانة بقيمة المال العام . ومن الأمثلة الأخرى قيام بعض الجهات الحكومية باستيراد بعض المستلزمات من الخارج مقابل دفع عملةٍ صعبة ، مع امكانية الحصول عليها من الأسواق المحلية أو تصنيعها داخل البلد بنفس الكفاءة أو ربّما أفضل منها . وهناك الكثيرُ من الأمثلة على هذا الموضوع ، وجميعها تشتركُ بصفات قبيحة جدا تتمثل بانعدام المسؤولية وخيانة الأمانة وفقدان الشرف الوظيفي أمام الله وأمام المجتمع وأمام التاريخ .