23 ديسمبر، 2024 5:56 م

من المحفور ..الى الحزمة

من المحفور ..الى الحزمة

(1)
تشتغلُ ورقتي على ما أسميته أتصالية التمويل الذاتي للقصيدة البريكانية، وسيكون أشتغالي تجريبيا،وليس تنظيريا،من خلال التقاط شواهدَ شعريةٍ، تشيّد إقامة تسلسل زمني لقصائد البريكان  ..ربما بالطريقة هذه أفعّل ثريا الورقة.
(2)
تأثيم العين
من ذاكرة عينيه ..يطلق الشاعر صقرا…ليقتنصَ الاستثناءَ الذي صار يتسيّد
قاعدةً،تهبط بمظلتها لتربضَ في مجرى سيرورة اليومي.مانحة ً نومنا
عتمة َ الاروقةِ التي تفشل الكهرباء والمرايا في توسيع مجالِها..
من ذاكرة العينين،يبدأ التمرد أو التأثيم الرؤيوي،وهكذا صارت الرؤية..(مذمومة ً
بأعتبارها الحاسة  الآثمة التي كانت الأداة في أسوأ المظالم الثقافية والاجتماعية../386/الأجساد الثقافية)(2)..فالقناص الذي في الشاعر  يرصد الاشياء في تحركاتها وفي ثبوتياتها..اذ ليس هناك رؤية تخلو من نظامٍ معلوماتي
(رؤية شيءما.. هي سعيٌ وراء معلوماتٍ،تمكّن المرءَ من معرفته/ص388)(3)
(3)
الأغتراب..كمهيمنة..
 يرى الشاعر ان كل الكائنات تعلن عن موتها بطريقةٍ واضحةٍ ،ملموسةٍ ،مرئيةٍ :
(تحتضر الطيورُ في الاوكار
 تنطرحُ الوحوشُ في الكهوف
تنكفىءُ الثعالبُ الشمطاءُ في الاوجار
تنجذبُ الافيال
الى مكانٍ صامتٍ في آخر الغابة
مزدحمٍ بالعاج والهياكل
حيثُ تموتُ موتَها /ص98)
(4)
إذن الحيوانُ يموضع موتهُ في جغرافيةٍ معلنةٍ يندلها الانسان..والحيوان
يستروح موته غريزيا ويسعى له طوعا..ذلك لأن..(الأسطح والأبنية التي تتألف منها بيئة حيوان ما،تحدد عديدا من الأفعال الممكنة لذلك الكيانِ العضوي)
أما المختلف فهو الإنسان الذي تكتمل عزلتهُ بإنتقال موتهِ من الكمون الى العلن :
(ووحدهُ يموت في داخلهِ الإنسان
 في العالم الباطن
في مركزِ السريرةِ الساكن
يموتُ في غيبوبةِ الذكرى
يموت في لحظةٍ
يكابد القيامة َ الكبرى/ص98)
(5)
كلاهما يموتان ..الحيوان والحيوان الناطق لكن للثاني ميتاتٍ لاميتةٍ واحدةٍ ..وكلُّها
(في ) نسقِ الكمون، والمعلن عنه فقط من خلال صوت القصيدة..
ويمكن تشريح الامر هكذا:
*موت الإنسان …في
    (1) داخله
    (2)…مركز السريرة الساكن
    (3)غيبوبة الذكرى
    (4)لحظة يكابد القيامة الكبرى..
نلاحظ انه نسقٌ ثلاثيٌ يكررانغلاقهُ :
الداخل/ الساكن/ الذكرى..
أنها تموضعاتٌ ..نكوصية ٌ /سالبة ٌ/ جوانية ٌ لايكسر افقها سوى النسق ِ الرابعِ العيانيّ المعلنِ عن الفضاء الجمعي : القيامة الكبرى..
(6)
بعد سبعِ سنواتٍ تتكرر التجربة ُ الشعرية ُ بمنظورٍ آخر أعني غربة َ الكائنِ وعزلتهُ المرصودة َ من قبل القنّاص محمود البريكان وحين نمسك سمكة َ القصيدةِ من ذيلها سنجد البرهان الأ تصالي بين القصيدتين
(ينظر القردُ،يلقي على كل شيءٍ
  نظرة ًساكنة/ص109)..
والذيلُ في الطراوة لايختلف عن رأس سمكة القصيدة
(داخل القفص الخشبي
 في مؤخرة الشاحنة
يقبع القردُ يبدو عليه الهدوء/ص107)..
(7)
نلاحظ ان مفتتح القصيدة هو الخلية ُالموقوتة ُ،المكتنزة ُ بكل العناصرِ الجينالوجية ِللقصيدةِ،ما ان نقرأ المفتتح حتى نكون مع القرد في محبسهِ المتنقلِ،ومثلهُ سنقبعُ نعم سنقبعُ،لا نقفُ ولانجلسُ ولا نتمشى بطيئا في هذا الفضاء المغلقِ/ المفتوحِ/ المتحركِ..وسيكون للشاعر دور السارد العليم
(يضطربُ القردُ
 لكنه يستعيدُ الهدوء
ويواصل تحديقه)..
(8)
ثم يقوم القرد، بقراءةالنص المفتوح للطبيعة عبر تبئيرٍ يصنّعهُ القفصُ للرؤية..
وهكذا سنحصلُ على المشهد من خلال عينيّ القرد وهما تبئّران المشهدَ  عبر القفص المثبت في المركبة المنطلقة:
(المزارع خضراء صفراء غبراء
   تحت ضياء النهار
النخيل،الصخور، النساء،الصغار
البيوت، القبور،التلال،الوهاد،
القرى،المدن/ ص108)..انه مشهدٌ نهاريٌ واضحُ الابعادِ،وحين يوسق الليلُ الاشياءً،لاتذكره القصيدة بالتسمية بل بالصفة
(في بؤرة الظلمات
 تتشكل الصورةُ ُ ذاتُ الألوانِ المائة
التي تكتشفها الشمس/ص183)(3)..في ليل القرد المّرحل عنوة نلاحظ..كيف يختلفُ أتصال القرد بلحظته،فالظلام هنا،لايكون مركزا،بل مخففا بفعل آية الليل
(ثم يأتي الظلامُ ويبدو القمر
تحت ضوءِ القمر
يحلم القردُ بالغابة ِ النائيةِ
وأراجيحها
يتنفس ديك الصباح
وتلوح المناظرُ لامعة/ص108)
..القرد هنا لايرى إلاّ بشرط ِتعطيلِ النظرِ،وتشغيلِ فعلِ التذكر،والذي من خلالهِ،يستعيدُ لحظة ًزمكانية ً،فيها مطلقُ حريتهِ غير المشروطة.. ثم سرعان َ ما ينتزعُ الزمنُ الحاضرُ، كلَّ مباهجه..
(تدخل الشاحنة
 غيمة من غبار)..

(9)
هل تختلف رحلة القرد،عن قفزات (الأسد في السيرك)..أسد مجرّد من هيبته في الغابة ذلك(الأسد الهرم يحدّق في الجمهور/ص111) أسد حين تنتهي حفلة السيرك،تستعيدهُ ذاكرةُ الغابةِ،من قفص السيرك:

(الأسدُ
هادىءٌ في القفص
تتوازى ظلالٌ الحديدِ على جسمِهِ
يتخايلُ بين الظلال
شبحاً غامضاً لإله القبائل
وجهاً مضيئاً لليل الطبول
ملكاً للسهوب وللغابة الصامتة/ص111)
(10)
القرد عارٍ من المعرفةِ،لايعرفُ ،ولا نحن القراءَ نعرف،ُ لكن  القردَ تقودهُ مشاعرهُ للمتوقع ( ينظر القردُ..يلقي على كل شيء
                  نظرة ً ساكنة/ ص109)
وحدهُ سارد حكاية القرد من يعرفُ ان القرد محضُ عينّة ٍ مختبرية ٍ
(لايعرفُ القردُ شيئا عن المختبر
 غرفةِ الاجهزة
والمجاهرِ والمبضعِ اليدوي
عيناتِ التجارب
من فجوات القفص
ينظر القردُ. يُلقي على كل شيء
نظرة ساكنة)..
(11)
قصيدة (رحلة القرد/1979) هذه القصيدة من ناحية النقلات المكانية ألا تعيدنا الى قصيدة (قصة التمثال في آشور/1970) ألا تتغذى قصيدة القرد من قصيدة(…تمثال آشور)؟كما تتغذى قصيدة(الأسد في السيرك) من قصيدة (رحلة القرد)..وفي قصيدة(مصائر/1989) في المقطع نلاحظ :
(-2-
هوذا النسر
نسرُ الجبالِ المنيعةِ والأفق ِ المنفتح
يتسمّرُ بين الطيورِ المحنطةِ الساكنة
يتفرس فيه التلاميذ ُ
في ريشهِ المتغض في شكل منقاره
في غرابة نظرته ِ
يالعينيه ِ! يُوهم في لحظة ٍ
أنه سيحلّق ثانية ً
فجأة../ص131-132)…
(12)
علاقة الكثرة/ التلاميذ،بالواحد/ النسر،ألا تعيدنا الى مفصل من قصيدة(..تمثال آشور)…
(هوذا النسرُ
نسرُ الجبال ِ المنيعة ِ والافق ِ المنفتح)
يقابلهُ في (قصة التمثال من آشور)
(معبود نينوى
سيدها/ص91)..
*في المفصلين السابقين ثمة أتصال كاريزمي بين النسر والتمثال..كلاهما في المركز..ومن المفصلين التاليين، سيتكشف لنا ان هذه الكاريزما ،حولّها الموت
محض ذكرى..
(13)

(يتسمّرُ بين الطيورِ المحنطةِ الساكنة)
يقابلهُ في(…آشور):
(في غرفةِ الزجاج
في متحفٍ
يقبعُ في مدينةِ ضائعة
ترسب في بلاد
مهجورةٍ
في قارة واسعة/91)
نلاحظ ان التمثال والنسر يقتسمان غربة زمكانية  جردتهما من هيبتهما
*في النسر نلاحظ :
(يتفرس فيه التلاميذ
في ريشه المتغضن في شكل منقاره
في غرابة نظرته)
*في (…التمثال من آشور)
(في غرفةِ الزجاج
منتصبٌ. تحدق النساء
في جسدي الخالي من التعقيد
(في وسط الحوض على التحديد)
يبتهج الاطفال
لأن أذني سقطت،وحاجبي مكسور
لأن في صدري
دائرة ً خالية ً(مفزعة ً في النور)
يبدو رجال ٌ،ربما يواصلون الهمس
عن ظفري الأيسر)…
(14)
ومن خلال تقصينا،سنىلاحظ أن ّ قصيدة َ (حلم الاسود/ ص181/ 1996)
تتغذى شعريا من قصيدتي(رحلة القرد/ص107/1979) و(الأسد في السيرك/ص110/1982-1983) والنقلة في( حلم الأسود) هي تلك النقلة
من الواحد/ الاسد الى الكثرة/ الاسود..نلاحظ اولا ان كليهما معرفتان وليستا نكرتين: وللأسود ذات الحلم الذي كان للأسد وهو الحلم الذي أشتغلت عليه
قصيدة( رحلة القرد)،أعني أستعادة الفردوس المفتقد …
(14)
حلم الأسود
(تحلم بأوطان
بسهوب ٍ شاسعة
وظباءٍ نافرةٍ
وبأشبالٍ مرحةٍ
تعبثُ بذيولها
وعندما تُطرح أمامَها كتلُ اللحمِ
تتذكر الاسودُ لذتَها المفقودة
لذة الافتراس/ص181/1996)
(15)
نلاحظ ان الاسود لاتفعّل سوى فعلي الحلم والتذكر والفعلان يصوغان واسطة َ نقلٍ لامرئيةٍ لكنها محسوسة بالنسبة للأسود: تحلم…. / تتذكر
لايخلو الحلمُ  وهويتنوعُ وفقَ الجملةِ الشعرية.،من شحناتٍ موجبةٍ ،لكن ّ فعلَ التذكر،فعلٌ صادمٌ يجعل الاسودَ أمامَ ماهي مشروطة الآن به،فهي من خلال التذكر
تفقد لذتَها الغذائية َ،فما تحصل عليه،يجعلُها تشعرُ بعجزها عن الافتراس..
حيث ُ يتم تجريدُ الحيوانِ من فردوسه وتسخيرهُ بذرائعَ بشريةٍ ،مرة ًعلميةٍ
(القرد)وأخرى ترفيهيةٍ (الأسد)؟..
(16)
  القصائد التي تناولناه لحد الآن ..ألا نجد تباشيرها في (حادثة في المرفأ/ص38 الكويت/1957) القصيدة تتناول مايجري لأحد العمال المجهولين الذين قصدوا الكويت،لتوفير أبسط أسباب الحياة لعوائلهم،ستأتخيل هذا العامل عراقيا،فر من ملاحقات الشعبة الخاصة ،وحرص على تضبيب ملامحه الميدانية هذا العامل الذي لايحقُ له الفرارُ من المحتوم الشرس،فقد أختارته الذراع الحديدية لرافعة الشحنات في المرفأ
(..هي الذراع
تهوي- توحشت الذراع!وجُن ّ وأنفجر الصرير
مَن يعرف الآن َ القتيل؟
لايعرفون
إلاّ اسمهُ. حتى أسُمهُ بتمامهِ لايعرفون !
ويقال أن له بنات في مكان يجهلونه
ناءٍ،ليس له بنون
في جيبهِ ظرفٌ عتيقْ
ورسالتانِ وفي جيوب ِ ردائهِ الخلقِ الرقيق
وجدوا نثارا من نقود
هي كلُ ما أستبقاه من أيام غربته الطويلة
ومن المهانة والضياع
قطعا مدورة ً صقيلة
بيضا سوى نقط ٍ بلون الجمرِ،من دمه المضاع)..
(17)
ما الذي دفع هذا العامل بالمجيء الى كويت الخمسينات ،سوى غربتهِ في وطنه
فأذا بالغربة الثانية تجهز على حياته، وتدهور حياةَ من يعيلهم هناك في وطنه
ان هذه النقلة َعن المكان، وهي أشبه بالتهجير منها بالهجرة،ستكون مهيمنة ً
تدفع بقصائد البريكان للتوغل جيالوجيا في تناولها شعريا..وستمّول قصائدهُ
ذلك التمويل الذاتي..
(18)
 الموت البشع في قصيدة (حادثة في المرفأ/ 1957) يعيدني الى قصيدة(قتيل في الشارع/ص31/1954)…وسبب الإعادة ان القصيدتان،تقتسمان أتصالية مزدوجة: العنف/ المجهولية
فأذا كان العنف في(حادثة في المرفأ/ 1957) بفعل مصادفة،فأن العنف في
(قتيل في الشارع/1954) مع سبق الاصرار والترصد..فالقتيل هنا شهيد من شهداء تظاهرات الفترة الملكية،كما يشير تاريخ صلاحية القصيدة للنشر: 1954
وكما يعلن مفتتح القصيدة:
(وتوارتِ الأصواتُ،وأبتعدت خطى المتظاهرين
وأنشقتِ السحبُ الثقالُ الغبرُ عن جسدٍ طريح
وسط َالطريقِ،وأطبقت أيدي قساة ٍقاتلين
غضبى تقلبُه وندَّ وراءها صوتٌ قبيح
– كلب قتيل أوجريح/ص31)
في المقطع الثاني، تقترب اللقطة الشعرية أكثر
(ورصاصة في الصدر تصبغ لون َ سترته القديمة)
والمجهولية تعلن في المقطع الثالث :
(لم يدر دارٍ من يكون،تباعدوا،كانت هناكْ
سيارة ٌغبراءُ رابضةٌ هناك على انتظار
كالكلب ِ كان الميتُ المجهولُ يُسحبُ بأحتقار
كالصيدِ يُحمل في الشباك/ ص31)..
(19)
شخصيا ترى قراءتي المنتجة ان هذا البيت الاخير (كالصيد يحمل في الشباك)
سيكون ماثلا في الذاكرة الشعرية للبريكان ،وستتغذى منه العديد من قصائده
غير التي تناولتها،أعني من ناحية المفهمة،حيث بين الراغب والمرغوب
هناك المنافس،الذي يشكل الضلع الثالث من مثلث الرغبة وفق (رينيه جيرار)
(20)
*مثلث رينيه جيرار
إن رصدنا للتغذيةِ الشعرية،أو للتجاذر بين القصائد،لانقصد من خلاله ان الشاعر
يكرر مهيمناتهِ الشعرية َ،بل هو يواصل حفرياته من جوانبَ أخرى للعذابِ البشري
الذي يمارسه الانسان على بني جنسه او على الحيوان او الحجر..ذلك لأن الرغبة َ
 لايمكن تحديدها وفقَ معادلةٍ متكافئةِ الطرفين بين الراغب والمرغب..
يشكلان أتصالية ً مطمئنة ً بينهما..بل لابد ان تأخذ شكل ذلك المثلث المتكون من
*الراغب/ فاعل الرغبة
*المرغوب/ موضوع الرغبة
*المنافس..
من هنا ترى ورقتنا المشاركة، ان القصيدة البريكانية،لاتشتغل سيرورتها،وفق المشيد الخطي،بل من خلال شبكة شعرية مترابطة خطيا،أي ان كل خط شعري يتصل ببقية خطوط الشبكة الشعرية البريكانية..
*المصادر
*أعتمدت ورقتني.. ،كتاب (متاهة الفراشة)/قصائد مختارة /1947-1998/إختيار وتقديم/ باسم المرعبي/منشورات الجمل/ط1/2003/كولونيا/ ألمانيا..
*هيلين توماس- جميلة أحمد/ الأجساد الثقافية – الإثنوغرافيا والنظرية/ ترجمة
أسامة الغزولي/ المركز القومي للترجمة/ القاهرة/ ط1/ 2010
*بخصوص رينيه جيرار ،أستفدنا من كتبه
*كبش الفداء/ ترجمة رينيه جيرار/دار شرقيات للنشر والتوزيع/ القاهرة/ ط1/ 1994
*الكذبة الرومنسية والحقيقة الروائية/ ترجمة /د.رضوان ظاظا/ المنظمة العربية للترجمة/بيروت/ط1/ 2008
*العنف والمقدس/ ترجمة/ سميرة ريشا/ المنظمة العربية للترجمة/بيروت/ط1/2009