يقول الإله:
من يبحثُ عني يجدني
ومن يجدني يعرفني
ومن يعرفني يحبني
ومن يحبني أحبه
ومن أحبه أفنيه
(تصوف من القرن الرابع)
كنا قد قرأنا يوماً هذا الكلام على الصفحة الأولى من رواية جديدة بعنوان ” الأخوة الأعداء”، لليوناني الكبير نيكوس كازنتزاكي، ترجمها لنا الرائد الكبير إسماعيل المهدوي. لكن العجيب في الأمر أني حين وجدت بعد سنين النسخة الإنكليزية للرواية، وقرأت في صفحتها الأولى الكلام نفسه مختوماً بعبارة: سيدنا علي بن أبي طالب، تذكرت الأستاذ المصري، الشيعي، اسماعيل المهدوي، وعرفت أنه خاننا جميعاً، ولا أدري حتى اليوم ما الذي دفعه إلى أن يطمس ذكر سيدنا علي في اقتباس معروف، بينما كان المترجم الإنكليزي أصدق منه، وأشجع.
كلما قرأت كازنتزاكي عاد بي الخيال إلى كوكبة خالدة من الرجال، كافحت من أجل الإنسان الجديد في كل العصور، ووهبت حياتها ثمناً لهذا الكفاح، فاستحقت الخلود. وحينما قرأنا كازنتزاكي أول مرة كانت الطائفية المقيتة قد توطدت في العراق، وكانت الهزائم العربية قد ألقت علينا كل السموم، وكان صوت الأمن هو الصوت المسموع، والمقروء. لكننا كنا ما نزال نحلم بغد الحرية، شأننا شأن كل الناس، من زمن عاد ونوح. لكن الحسناء الحرية أبت أن تمنحنا جسدها، أو روحها يوماً من الأيام، فكان خيرة أبنائنا يهبون أجسادهم الطاهرة قرباناً لها، لعلها تحنو، أو تستجيب. قوافلٌ تمضي إلى النقرة، وقوافل غيرها إلى قصر النهاية، وقوافل أخرى هنا وهناك، في كل ركن، وفي كل زاوية من الأرض، حتى غطت الدماء الأديم من النبع في زاخو، إلى المصب في شط العرب. دماءٌ، في دماءٍ، في دماءِ.في كل مرة نرفع الأكف المرتجفة الراعفة طالبين الأمن في الوطن، والرحمة على الأرض. وفي كل مرة لا نجد غير الخوف، والظلم، والجور، والمهانة. لا يرتسم في خيالنا غير صور الجثث المعلقة هنا وهناك، وغير صورة آبائنا يبتسمون في وجه الردى، وصدور أمهاتنا الحانية برائحة الزعفران. كانوا يقولون إن الإنسان العراقي ليس هو هذا الذي نراه أمامنا وقد أكلت السياط ظهره، بل هو القادم يوماً، وكنا في الانتظار، لا نطلب غير الإنسان الجديد الخالي من الشر.
عرفنا أن نيكوس كازنتزاكي قد ذهب يوماً إلى دير جبل آثوس حيث أقام أربعين يوماً حاجاً يبحث عن الخلاص، مستوضحاً أسرار القدر والإنسان. وكنا نحن في كل محرم نقيم الخيام، ونعلق الفوانيس، وما أن يأتي العاشر منه حتى نصرخ عالياً، وتصل أصواتنا إلى أعنان السماء، نخاطب أبي الشهداء: من اسمك، نتعلم.
عشنا وترعرعنا في ظل كفاح إنساني مرير، ولا نريد أحد أن يظلمنا. كنا نمضي مع قوافل النور المضيئة. حدثنا كازنتزاكي عن حاله ساعة الخلق والإبداع، فقال إنه يحدث له شيئاً في غاية البساطة والجمال، ويصبح كدودة القز حين تنسج شرنقتها، فتلتهم أولاً الأوراق لمدة شهر حتى تصبح بحجم الأصبع، ثم تتوقف فجأة عن الطعام، ويتحول لونها من الأبيض الرمادي إلى الأصفر الشاحب، وتطرأ عليها تغيرات عميقة، فيصبح جلدها الباهت شفافاً، وأحشاؤها خيوطاً من حرير. يهتز رأسها ويتحرك بحركات دائرية بطيئة، ويخرج من فمها خيط رفيع لا يرى، ويبدأ بناء الشرنقة. بعد أيام تغلق الشرنقة الحياة على دودة القز، وتموت. وما أن يأتي الربيع القادم حتى تثقب الفراشة الجديدة قبرها وتخرج بيضاء ناصعة بعينين سوداوين صغيرتين. هكذا الحال مع الكاتب، فثمة قانون خفي يحكم دورة الكتابة كما يحكم دودة القز. والإنسان عند كازنتزاكي لا يصرخ، ولا يضحك، لكنه يصون كرامته الإنسانية أولاً، وفي هدوء وصمت. إنه الإنسان الأبيّ الذي يشمخ على كل الصعاب، وينظر بلا خوف في ظلمة القبر وسعير الطغاة. لكن لا بأس إن لم ينجح، أولم يبلغ مرماه، ويكفيه فخراً أنه واجه قوى الظلام التي تريد سحق طموحه وتبديد أحلامه. علينا دائماً أن نفرض على أنفسنا كلام الروح وهي تقول: لا تبكوا، لا تصرخوا، ولا تهربوا من الآلام. وهذا هو منتهى الإحساس بالإنسانية، ذلك لأن الإنسان هو أبو الأمل، يعشق الجهاد محبةً بالجهاد. التقى كازنتزاكي وهو شاب بمكسيم غوركي، فكان هذا اللقاء يوماً حاسماً في حياته. كان كل شيء يقول له أن يتعلم الطاعة، وأن يتحكم بنفسه ومشاعره، وأن يتحمل المسؤولية. ينكر الحواس، وينبذ كل نقطة ضعف، وكل عاطفة تطفي في نفسه الثبات، وتذيب الشجاعة. فأي لقاءٍ هذا، وأي رجل كان غوركي؟ بل أي رجل هو كازنتزاكي ؟ .