ما هي الآراء العقدية والفقهية التي تمثل مدرسة آل البيت أو المذهب الشيعي الإثني عشري وثوابته؟ ومن هو الذي يمثل الموقف العملي للشيعة سياسياً واجتماعياً وسلوكياً؟
هذا السؤالان يُطرحان بكثرة في الأوساط الشيعية وغير الشيعية؛ بالنظر لتعدد الاجتهادات والآراء العقدية والفقهية والحديثية والتفسيرية، وكذلك تعدد المواقف داخل الواقع الشيعي. ولا شك أن تمثيل التشيع كمنظومة عقيدية فقهية، والشيعة كنظام اجتماعي ديني، هو موضوع إشكالي، وبحاجة إلى حوار معمق وشامل لكل جوانبه، استناداً إلى القواعد الشرعية، ثم القواعد العقلية وسيرة المتشرعة والعقلاء، وصولاً إلى تفكيك الإشكالية ومقاربتها، وتصحيح الواقع وفقها، دفعاً للفوضى الدعائية والتمثيلية، ومنعاً لتحول الواقع الشيعي الى (فُرجة) للخصوم، وإلى مرتكز لإحباط الذات وسلب الثقة عنها، وهو ما لا يليق بمدرسة النقاء والعقل والتوازن.
وينبغي ــ ابتداءً ــ الفصل بين ثلاثة مسارات مختلفة في موضوعاتها:
1- المسار العقدي والفقهي، وهو ما ينبغي أن يكون فيه ما يمثل التشيع من ثوابت تمثل الإجماع أو ما يشبهه، وليس المتغيرات التي تمثل رأياً خاصاً (منفرداً) بفقيه ومتكلم ومتحدث ومفسر؛ فالرأي المنفرد أو الشاذ في العقيدة والفقه والتفسير والدراية، لا يمكن أن يكون حجة على كل الشيعة أمام الآخر المذهبي والديني والفكري؛ إنّما يمكن للآخر أن يحتج على الشيعة بما أجمع عليه علماؤهم أو ما يقارب إجماعهم، ولا يحتج على الشيعة بالشاذ والمنفرد من آراء علماء الشيعة. نعم؛ هذا الرأي المنفرد والشاذ هو حجة على المتكلم والفقيه الذي يقول به، وحجة على من يقلده، وهو حر بذلك، لكنه ليس حجة على كل المذهب.
2- المسار الميداني العملي، وهو ما ينبغي فيه اتّباع أقوال الأئمة بشأن وحدة نسيج الشيعة وكيانيتهم، وما يفرضه ذلك من وحدة قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهو ما تؤيده سيرة العقلاء أيضاً. ولنتخيّل – مثلاً – أن نظاماً سياسياً أو نظاماً اجتماعياً أو دينياً أو مذهبياً؛ يمثله (١٠٠٠) شخص وأكثر، ولا يُعرف رأسه من قاعدته؛ فهل مثل هذا النظام أو المجتمع، يتمتع بأدنى معايير العقلانية والاحترام والرشاد؟. ففي كل الأنظمة؛ هناك آلاف الآراء والمعارضين والجماعات المتعارضة، ولكن يبقى للنظام من يمثله محلياً وعالمياً، وفق القوانين والأعراف والتقاليد المحلية والعالمية.
وهكذا بالنسبة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، الذي هو نظام مختلف كلياً عن الأنظمة الاجتماعية الدينية لجميع الأديان والمذاهب في العالم، تبعاً لاختلاف مدرسة آل البيت، التي تمثل الإسلام في أصالته وكيانيته العالمية الواحدة. وبالتالي؛ تحكم سيرة العقلاء أن لا يكون لهذا النظام مليون راعي وممثل وقائد.
3- مسار التقليد، وهو مسار مفتوح، يرجع فيه الشيعي لفتوى مرجعه، وإن تعدد مراجع التقليد، لأنه يعتمد على القناعة الخبروية لكل شخص، وهذا الرجوع هو حجة عليه. ولكن؛ لا يمكن أن يكون كل مرجع تقليد أو كل من يدعي المرجعية قائداً للنظام الاجتماعي الديني الشيعي وولياً للمجتمع؛ لأن القدرة العلمية على الإفتاء شيء، وموقع قيادة المجتمع الشيعي شيء آخر، وإذا ما حصل ذلك؛ سيكون لهذا النظام قادة بعدد مراجع التقليد والفقهاء.
ولعل أصل التعددية في مرجعيات التقليد، وفي الآراء العقدية والفقهية، لا مشكلة فيه، وهو طبيعي؛ لكن المشكلة هي في تعدد الثوابت العقدية والفقهية التي تمثل كل التشيع، وكذلك التعددية في المواقف العملية الميدانية التي تمثل المجتمع الشيعي برمته. هذه التعددية في الجانبين ليست معضلة نظرية، بل معضلة يعاني منها الواقع الشيعي معاناة شديدة، محلياً وعالمياً، بعد أن بات كل من هب ودب يقول: رأيي العقدي والفقهي يمثل التشيع، وموقفي العملي يمثل الشيعة، كما يدعي بعض السياسيين أنه يمثل الشعب وأن موقفه هو موقف الشعب. في حين أن القوانين والأعراف هي التي تحدد من يمثل الشعب.
وبناءً على ما سبق؛ نخلص إلى أن الذي يمثل التشيع، في المجالات العقدية والفقهية والتفسيرية والروائية والرجالية، هو ما أجمع عليه المتكلمون والفقهاء والمحدثون والمفسرون والرجاليون الشيعة الإثني عشرية، أو ما يقارب إجماعهم، سواء في زمن واحد أو عبر الأزمان، وهو ما نسميه (الثوابت). أما الخروج على الإجماع أو شبه الإجماع، وهو ما يسمى بالرأي المتفرد والرأي الشاذ؛ فإنه لا يمثل المذهب، وإنما يمثل رأياً اجتهادياً شخصياً، وإن خرج من الفقهاء والمحدثين الأُوَل، كالصدوق والكليني والمفيد والمرتضى والطوسي، وصولاً الى الفقهاء المعاصرين. وأقصد بالإجماع هنا المعنى اللغوي، أي الاتفاق، وليس المعنى الاصطلاحي الأصولي الذي يعدّ الإجماع دليلاً من أدلة الاستنباط الأربعة، لأن هذا الإجماع لا قيمة له عند الشيعة من الناحية العلمية، ما لم يكشف عن قول المعصوم. ولذلك؛ ينبغي على من يريد معرفة الرأي الذي يمثل التشيع؛ أن يعرف اتفاق علماء الشيعة أو شبه اتفاقهم على أي موضوع.
وعلى المستوى العملي؛ فإن الذي يمثل الموقف الشيعي، هو الخط العام للمرجعية الدينية الشيعية العليا، أو ولاية الفقيه العامة، وليس الخطوط المرجعية الخاصة ولا الجماعات السياسية والدينية والمؤسسات الفكرية والثقافية، بغض النظر عن استقامة هذه الخطوط والجماعات أو عدم استقامتها على الخط الشيعي العام، لأن الفقيه المتصدي أو المرجع الأعلى هو قائد النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهو في كل العصور يتمثل بفقيه أو مرجع ديني واحد أو اثنين.. لا أكثر.
إما ما يقوم به بعض الباحثين والشيوخ الوهابيين والسنة أو بعض المنسوبين الى الشيعة، من نبش في الموروث الشيعي، وانتقاء الآراء الشاذة والمنفردة التي يتبناها بعض علماء الشيعة، أو الاستشهاد بآراء وتخريفات بعض الخطباء والناشطين الشيعة؛ فهو عمل شاذ ومتهافت وطائفي وشعبوي، هدفه ازدراء الشيعة وتسفيه عقائدهم وكيل التهم لهم، بعيداً عن المنهج العلمي.
وبالتالي؛ فإنّ ضرورة حصر التمثيل لا يختلف عليها عاقلان، وهو ما يستدعي بلورة معايير التمثيل الحصري للموقف العقدي والفقهي للتشيع، وكذلك ما يتعلق بالتمثيل الواقعي للمجتمع الشيعي، وفق ثوابت الإسلام المتمثلة بالقرآن وصحيح سنة رسول الله وآل بيته، وكذلك الاستعانة بسيرة العقلاء. أما مساحات الاختلاف فتكمن ــ عادة ــ في مصاديق التمثيل، ولكن؛ حين يتم وضع معايير للتمثيل وضوابطه، ثم تطبيقها بدقة وشبه إجماع على مصاديقها؛ فستنكمش مساحات الاختلاف إلى حدودها الدنيا.