23 ديسمبر، 2024 3:35 ص

من الذي أذل المؤمنين وسوّد وجوههم؟!

من الذي أذل المؤمنين وسوّد وجوههم؟!

أبدى بعض مؤيدي وعساكر أمير المؤمنين الحسن بن علي (رضي الله عنه) من اصحاب المطامع، وممن يزعم أنه من شيعته، أبدوا امتعاضهم ورفضهم لما أقدم عليه الحسن من الصلح مع معاوية ومن التنازل عن الخلافة!!. فخاطبوه: بأنه مذل المؤمنين وانه مسود وجوههم بفعلته هذه!!.(1). وهذا من أعجب العجب، في النقد والتجريح المجحف بلا وجه حق. ولا يبعد أن يكون قد صدر عن تجار حروب، أو متربصين بالإسلام. لايريدون وحدة الامة ولااجتماع كلمتها.
1- إذ كيف يستساغ الإنزعاج والنكارة على أمر هو كله خير. والنتائج التاريخية التي أفضى اليها الصلح تؤكد هذه الخيرية. فعلى سبيل المثال:
أ- صان الدماء من أن تُهدر وتُسفك، فيما لا طائل يرتجى للمصلحة العامة من سفكها.
ب- الإتفاق على قيادة سياسية واحدة للأُمة.
ج- انهاء الفرقة السياسية بين اهل الشام وأهل العراق، وتجاوز حالة التوتر والقتال وتوحيد الجهود ووحدة الصف.
د- تفرغ الدولة لمواجهة الأخطار الخارجية (الروم بالدرجة الأولى). وتفرغها داخليًا لقتال الخوارج (دواعش الماضي) وضرب واضعاف حركاتهم وتحركاتهم. وهم الذين أنهكوا الدولة على زمن أبيه علي بن ابي طالب (رضي الله عنه)، وشغلوها وأرهقوا المواطن وأرعبوه. فما زال خطرهم جاثم خلف خطوطه العسكرية في الكوفة. أفلا يستغل هؤلاء الفرصة ويستولوا على البلاد، إن وجدوا الفرصة سانحة بإنشغل الحاكم بعيدًا عنهم؟. ان الحسن وهو الشخصية الشجاعة بقدراته القيادية العسكرية، وحنكته السياسية والأخلاقية. بالتأكيد قد تنبه لخطورتهم ولم يسقطهم من حساباته. وآثر الصلح بعد ان وازن ألأمور والأخطار المحدقة. واختار ان لا يترك الفرصة للخوارج وللمتربصين بالأمة من الشعوبيين وخاصة الفرس. من السيطرة والعبث بمقدرات ودماء المواطنين.
هـ- ازاحة المعوقات الظرفية الطارئة، امام عودة الفتوحات وحركة الجهاد في سبيل الله، والانطلاق من جديد لتحرير الشعوب، بعد ان توقفت هذه الحركة المباركة منذ مقتل عثمان بن عفان (رضي الله عنه).
2- إنَّ صاحب الشأن وهو الحسن بن علي (رضي الله عنه وعن ابيه) لم يعرف عنه بنقل صحيح أنه صرّح بشيء من الأسى أو الأسف أو الندم او الاعتراض على معاهدة الصلح، لم ينقل عنه ذلك ولو على سبيل الإشارة أوالتلميح.
3- اليس الإنزعاج هذا (بعد أن استبان الأمر!) اعتراض على ارادة الله وقضاءه؟. وتكذيب لخبر النبي (صلى الله عليه وسلم)، في سيادة الحسن؟.. لقد حقق الحسن بالصلح قضاء الله وارادته، التي اخبر بها المصطفى (صلى الله عليه وسلم). حين قال النبي الموحى اليه من الله، مستبشرًا بحفيده: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ)(2). وما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) ليقول أمرًا غيبياّ إلا بوحي. ان سيادة الحسن مرتبطة بالصلح المبارك الذي سيقع على عاتقه حين افترقت الأمّة بعد زمن النبوة. وبما ان الصلح يتوافق مع حرص الرسول (صلى الله عليه وسلم) على وحدة الأمة وصون دمائها. فهو صلح خير، يحقق مقاصد النبوة والوحي.
لقد كان الحسن قريبا من النبي. فقد نشأ على عينه، الى ان بلغ سن الثامنة، وكلمات جدّه (عليه الصلاة والسلام) ترن في أذنيه، والنبي يربيه ويوجهه ويتوسم فيه الخير، ويُعِدّه ليصل الى هذه المرحلة، التي يستطيع فيها ان يجمع الأمة بعد فرقتها. الأمة التي حرص (عليه الصلاة والسلام) ان ظهرت فيها محنة الإفتراق، أن لا تدوم فيها لما بعد زمن حفيده الحسن.. ولا بد للأقدار الإلهية ان تجري الى خواتيمها المكتوبة.
تقريع البعض للإمام الحسن (رضي الله عنه):
لقد شبَّه احد الباحثين، أن من يلوم الحسن على صنيعه، انما يفعل كاؤلئك الذين يلومون آدم عليه السلام ويحملوه المسؤولية عن ﺇخراج البشر من الجنة. فهذا اللوم غير صحيح وليس في محله لا لآدم ولا للحسن. فآدم (عليه الصلاة والسلام) لم يُخرِج البشرية من الجنة. لأنهم لم يكونوا أصلًا فيها ليُخرجهم منها. ولأن آدم خلق للأرض ابتداءًا، ولم يخلق للجنة إبتداءًا وانما الجنة له في العاقبة بعد ان يستعمر الأرض ويستوطنها. كتب الله عليه ذلك في اللوح المحفوظ. وأخبر الملائكة به قبل أن يخلقه.
كما وإن آدم (عليه السلام) لم يوضع بعد خلقه في جنة الخلد. وانما أُنزل مع زوجه حواء في جنة مختلفة. فجنة الخلد ليس فيها محظور من طعام وشراب. وليس فيها وساوس للشيطان. وليس فيها معاصي. وليس فيها اختبارات. ومن يدخلها يكون خالدًا فيها ولا يُخرج منها أبداً. وإنما الجَنّة التي نزل فيها بعد خلقه ﺇنما كانت نموذج لِجنّة مرحلية يتدرب فيها آدم على التعايش مع زوجه. والتعرف على جوانب من النعم الحسية المادية. ونعمة الطاعة لله. وسوء عاقبة المعصية. والتعرف على العدو الأزلي، ومكائده كي يحذر من وساوسه، وألاعيبه، حينما تجمعهم الأرض قريبًا.
إذًا لا تثريب ولا تقريع على آدم (عليه السلام)، فقد تساوق مع مراد الله في خلقه، في ان يكون من أهل الأرض. وكذا لا تبكيت ولا بأس على الحسن (رضي الله عنه وأرضاه)، فقد تساوق مع القدر الذي تنبأ به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ان تكون الخلافة بعدة ثلاثون سنة (3). وأن يكون الحسن من أهل الصلاح، والإصلاح بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
حسنًا، دعك من كل ماتقدم من أسباب تستدعي الصلح!، ودعك من القناعة برغبة الحسن ونيته المبيَّتة للصلح والسلام، منذ ان أن بويع له بالخلافة!. واسأل نفسك: لماذا يلام وقد رأى ببصيرته وبصره، ان قسمًا كبيرًا من معسكره قد كاتب معاوية وأعلن الطاعة والانظمام الى معسكره؟. ولماذا يلام وقد رأى وخَبِرَ حال انصاره وهوجهم وتقاعسهم عن القتال وأنه لا رجاء لنصر يتم على ايديهم؟. ولماذا يلام وقد رأى سعيهم لمحاولة إغتياله؟. ولماذا يلام وقد شعر أن بعض قياداته القريبين منه يتآمر للقبض عليه وتسليمه لخصمه حين يقترب الجيشان من بعضهما؟. فلكل هذه الأمور السلبية وغيرها، هل يلام من يقف مثل موقفه ذاك؟. هل يمكن لقائد ذو نفسية سليمة، وعقل راشد، ان يغفل عن كل هذه المعطيات المُحَبِّطة، ويمضي بالبلاد والعباد قدمًا الى المجهول؟. ان هذا مما يأباه القائد الفَطِن الفذ أمير المؤمنين الحسن بن علي (رضي الله عنهما) البصير بالمآلات والصعوبات.
حرمة الدم عند الحسن، واستباحته اليوم:
وهنا يبرز سؤال: هل كان هنالك من سبيل أمام الحسن في تلك الظروف، أفضل وأكرم وانجح من ألاختيار الذي اختاره طوعا بلا ﺇجبار من أحد؟ وهل كان فيه مايشي بالذلة والمهانة؟. إنَّ السبيل الذي سلكه، سبيل لم يكن فيه ذلة او مهانة، وانما على العكس، بل فيه رفعة وكرامة، وتبييض لوجوه المؤمنين (4). وحقن لدمائهم، وصون لوحدتهم. فأين الذلة في ذلك واين تسويد الوجوه؟. حين ينقذ الأمة من الفرقة والمُهلِكة. وهو الحريص على كرامة الإنسان ودمه. فياليتنا اليوم نسمع عن احد من الحكام (سواء أحبه شعبه أم كرهوه) يقتفي أثر الحسن فيجنب البلاد تبعات التمسك بالكرسي والعرش.
اسقاط رموز الذلة والفساد:
انما تأتي الذلة وتسويد الوجوه، حين لايخطوا الساسة على خطى الصالحين ولا يأتسوا بهم. وقارن بين معطيات ومقاصد الموقف النبيل والشجاع للامام الحسن، ومعطيات ومقاصد موقف حكام اليوم في استماتتهم على السلطة، وتخاذلهم امام واجباتهم. حين يستهان في ظل حكمهم بالدماء، وتقمع وتُحصد عشرات ومئات الأرواح البريئة لمتظاهرين عُزّل في بغداد والمحافظات الجنوبية. نزلوا في 1/10/2019م محتجين معبّرين عن سخطهم وغضبهم من الفساد الذي عَمَّ البلاد ومن السياسيين الفاسدين، وما زالوا ينزلون بين الحين والحين، تحت شعار (نازل آخذ حقي). ثُمَّ لا يعبأ احد بدمائهم، ولا يجرء احد من القادة والسياسيين ان يشير الى الجناة بإصبع التجريم، بلهن أن يُقتص منهم!. فأي ذلة هذه وأي سواد وجه للقادة والساسة.
علاقة الود بين الحسن ومعاوية:
ترك الحسن الكوفة بعد تنازله وبيعته لمعاوية، ورجع بمن معه من أصحابه وبمن كان معه من بني هاشم إلى المدينة المنورة، وترك السياسة. ولم تكن له أي رغبة في تولي أي منصب سياسي. كان بإمكانه ان يكون وزيرًا أو أميرًا او واليا على سبيل المثال على المدينة ومكة. ولكنه آثر أن يستقر بالمدينة بلا منصب سياسي. مستبشرا ومرتاحا بما حصل. وكان جميع أهل البيت وسيدهم وعميدهم الحسن محل الإجلال والإكرام من معاوية، وعاش الحسن بعد الصلح عشر سنوات، لم يُروَ عنه أي شيء يشير الى ندمه، أو ﺇعتراضه، او طعنه بالصلح. ولم ينكث العهد والاتفاق مع معاوية (رضي الله عنه). واستمرت العلاقة بينهما حسنة وايجابية على أحسن مايرام. وكان الحسن يزور معاوية بن أبي سفيان في الشام، وكان معاوية (افضل ملوك الأرض في زمنه وما بعده) يعرف للحسن قدره في كونه سيدا كما سماه رسول الله، ولذا كان يغدق العطاء له. وكان الحسن يقبل عطاياه. وهكذا فصفاء الود بينهما في هذه السنوات العشر من شأنها أن تدحض المزاعم التي تقول بأن الإمام الحسن كان مكرهاً على الصلح. أو ان هنالك بُغض وعداء بين الطرفين.
لقد كان هذا الصلح خطوة اساسية للاستقرار السياسي والإجتماعي الداخلي، ولعودة الفتوحات الخارجية الى مجراها السابق، بعد ان توقفت منذ استشهاد عثمان (رضي الله عنه) ووقوع الفتنة وانقسام الأمة. وآن ألأوان لتتفرّغ الدولة للقضاء على فتنة الخوارج الذين كانوا بلاءﹰ داخلياً يعصف بجسد الأمة وأن يوضع لها حد.
عام السلام:
دخل معاوية الكوفة بعد اتمام الصلح وخطب بها. فبايعه الجميع. وسمي ذلك العام (41هـ -661م) عام الجماعة. فقد اجتمعت الكلمة في سائر الأقاليم والأمصار على خليفة واحد. واستبشر المسلمون بمكاسب هذا الصلح الذي وضع حدا لسفك الدماء. ولتتوحد من جديد راية المسلمين، بعد طول قتال وخلاف. وليمضي معاوية عشرين سنة اخرى في الحكم دون ان يعكر صفو الاستقرار الداخلي معكّر.
سيبقى قرار امير المؤمنين الحسن بن علي (رضي الله عنهما) والى قيام الساعة، شاهد على روعة وحنكة ونبل وفروسية هذا الخليفة العظيم. والرجال مواقف. فَلِمَ الامتعاض من رجل وقف موقف السمو!، مستعليًا على المناصب، مؤثرًا مصلحة الأمة على أي مصلحة أُخرى!.
المراجع:
1- المستدرك ج1 ح 4796 و4797 . بحار الانوار للمجلسي ج18 ص 127. الجامع لشعب الإيمان للبيهقي ج 5 ص 257 ح 3396 ط مكتبة الرشيد بيروت. تاريخ مدينة دمشق لإبن عساكر ص 389 ج31 ط دار الكتب العلمية. النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي ج1 ص158 ط دار الكتب العلمية/ بيروت. الحديث المضطرب دراسة وتطبيقا على السنن الاربع – رسالة ماجستير لأحمد بن عمر بازمول، الجزء الثاني ص 809.
2- رواه البخاري في باب الصلح 2754 وفي المناقب 3629 وفي فضائل الصحابة 3746 وفي الفتن 7109.
3- خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك، او ملكه من يشاء) سنن ابي داوود شرح عين المعبود 12/259 و صحيح سنن الالباني 3/879.
4- العواصم من القواصم الباب السابع فقرة381 ط دار الجيل.

الرابط والصفحة https://kitabat.com/author/khaladabdelmagid-com/
البريد الالكتروني [email protected]