يروي شاكر علي التكريتي (كاتب و صحفي عمل في مؤسسات العهد الملكي) قائلاً: ذهبت ذات مساء بصورة إضطرارية إلى بيت الباشا نوري السعيد (رئيس وزراء العراق في حينها زمن العهد الملكي) مصطحبا ً معي بيانا ً طلب مني مدير الدعاية العام عرضه على الباشا قبل إذاعته، و خلال ذلك حضر الجلسة أحمد مختار بابان (سياسي شغل عدة مناصب في العهد الملكي) و قال للباشا و الله يا باشا أنا خجلان منك, هناك شاب كردي من معارفنا حاصل على بعثة حكومية لأنه متفوق في الدراسة و المفروض أن يسافر و لكنه أعتقل في تظاهرة منذ أسابيع و الأيام تمضي و سيسقط حقه بالبعثة و أمه المسكينة كانت تنتظر أن يعود بشهادة عالية و هي تبكي عندنا في البيت. فاتصل الباشا بمدير الأمن بالتلفون و طلب منه إرسال الشاب على الفور، و بعد حوالي النصف ساعة أُدخل شاب بملابس رثة و يبدو إنه يعرف أحمد مختار بابان فقد سارع للسلام عليه باللغة الكردية بينما بادر بابان لتأنيبه فطلب منه السعيد أن يترك الشاب و خاطبه السعيد بأن يصعد على المنضدة التي كانت موجودة في الغرفة و عندما تردد الشاب نهره السعيد قائلا ً له إذا لم تصعد سأعيدك إلى الأمن. و بعد أن صعد الشاب قال له السعيد “يَلّلا هَوِّس نفس الهوسة إللِّي جِنت تهوِّسهَة من لِزْمَتك الشرطة”، و عندما تردد الشاب صرخ فيه السعيد “هَوِّس لو أرَجَعك للأمن”. فنكَّس الشاب رأسه و بدأ يردد “نوري السعيد القندرة و صالح جبر قيطانهَة”، و كان السعيد يضحك، ثم طلب من الشاب أن ينزل فاقترب منه و أمسك بأذنه وقال له و لك إبني روح كمل دراستك و خذ الشهادة و بعدين تعال إشتمني و صالح جبر، افتهمت؟! و كتب الباشا ورقة صغيرة سلمها لحارسه الشرطي يأمر فيها بإطلاق سراح الشاب و إتمام معاملة بعثته فورا ً! و خرج بابان و خرجت معه و أنا أحمل بذاكرتي حادثة لاتنسى!
لقد كان نوري السعيد يريد بناء العراق كدولة تواكب الدول المتقدمة على أسس علمية فلقد أرسل البعثات الدراسية في مختلف الإختصاصات إبتداءاً من الفقه الإسلامي و لغاية الطب البشري، و لكن الشعب العراقي كان يخرج عليه بتظاهرات يردد فيها “نوري السعيد القندرة و صالح جبر قيطانهَة” و كانوا يتهمونه و السياسيين و العائلة المالكة بالعمالة للأجنبي. فإذا كانوا هؤلاء عملاء للأجنبي فلماذا كانوا يريدون بناء العراق على أسس علمية؟ فالأجنبي كان يريد الخراب للعراق و أفضل خدمة كان سيقدمها هؤلاء للأجنبي أن لا يرسلوا البعثات الدراسية لبناء العراق على أسس علمية و يبقوا العراق على واقعه المزري. و الأكثر تهريجاً من ذلك أن العديد من الذين ذهبوا في البعثات الدراسية لم يعودوا إلى بلدهم العراق للمشاركة في بناءه و خدمة أبناء بلدهم الذين درسوا بأموالهم بحجة أن السياسيين و العائلة المالكة عملاء للأجنبي، و لكنهم بقوا في دولة الأجنبي للمشاركة في بناءها و خدمة أبناء دولة الأجنبي.
كان الشعب العراقي يتباهى بهؤلاء الذين ذهبوا في البعثات الدراسية و بقوا في دولة الأجنبي للمشاركة في بناءه و خدمة أبناء الأجنبي و لم يلوموهم على عدم عودتهم للمشاركة في بناء العراق و خدمة أبناء بلدهم على الأقل تسديداً للأموال العراقية التي صرفت عليهم ليحصلوا على شهاداتهم و ليس وفاءً للإلتزام الأخلاقي بالمشاركة في بناء بلدهم العراق و خدمة أبناء بلدهم على عناد الأجنبي و عملاءه من السياسيين الذين يريدون الخراب لبلدهم العراق.