حزب الدعوة الإسلامية وُلد في أواخر الخمسينات في لحظة تاريخية مشحونة بالصراع بين المد القومي واليسار الماركسي وبين محاولات الحوزة في النجف للتمسك بموقعها كان الظاهر أنّ الحزب مشروع ديني سياسي هدفه إقامة الدولة الإسلامية لكن الحقيقة أنّه وُلد منذ اللحظة الأولى محمّلًا بالسرية والريبة ومشدودًا إلى منطق الانغلاق والتنظيم الحديدي لا إلى روح الإسلام الرحبة لم يكن حزب الدعوة مدرسة فكرية مفتوحة بل كان تنظيمًا مغلقًا يرى في كل من هو خارج أسواره خصمًا أو عدوًا أو عميلًا رفع شعار مواجهة الشيوعية والقومية لكنه في الواقع زرع أول بذرة للتناحر داخل البيت الشيعي نفسه حين نظر بعين الريبة إلى المراجع الكبار الذين رفضوا فكرة الحزب وتشبّثوا بالحوزة التقليدية منذ اللحظة الأولى ظهرت أعراض المنهج كل مخالف يُتهم وكل ناقد يُسقط وكل عالم لا يبايع التنظيم يُصوَّر على أنّه عميل أو منحرف بدا كأنّهم ينسجون ثقافة كاملة قائمة على نفي الآخر بدل الحوار وعلى التشكيك بدل النقاش كانت البدايات الملتبسة نذيرًا لما سيأتي مشروع يرفع لافتة الدين لكنه لا يعرف من الدين إلا قشرته ويتبنّى منهجًا حزبيًا ضيقًا لا يرى في الخصومة الفكرية إلا تمهيدًا للعداء الوجودي ومن هنا بدأت قصة حزب سيظهر مع مرور السنين أنه لا يمتلك من الأخلاق سوى الاسم ولا من الرسالة سوى الشعارات إذا كان الفصل الأول كشف ولادة حزب الدعوة في سرية وتكتم فإن الفصل الثاني يكشف الأسلوب الذي رسّخ نفوذه منذ البداية وهو التسقيط لم يكن التسقيط عند الدعوة مجرد تكتيك سياسي عابر بل منهج كامل يهدف إلى إسكات المعارضين وطمس أي صوت مستقل فمن يرفض الانضمام إلى التنظيم يُصوّر على أنه خائن ومن يعترض فكريًا يُوصم بأنه عميل ومن يشكك في قيادة الحزب يُتهم بانحراف أخلاقي بهذا القاموس صار اغتيال السمعة مقدمة للاغتيال الجسدي فأي خصم أو معارض يجد نفسه محاصرًا بتهم أخلاقية وسياسية وفكرية ويصبح أمام خيارين الانصياع أو الاختفاء حتى الداخلون في الحزب تعلموا منذ البداية أن التسقيط جزء من التربية التنظيمية فالتنظيم لا يربّي على الحوار بل على تمييز الصديق من العدو بناءً على الولاء المطلق ومن هنا يصبح أي اختلاف داخل الحزب نفسه سببًا لشائعات واتهامات وتحويل المنافس إلى عدو داخلي هذا السلوك لم يقتصر على الحزب وحده بل امتد إلى المجتمع العراقي فأصبح الخوف والريبة السمة السائدة في النجف والكوفة والنجف الأشرف وكل ناقد أصبح محاصرًا بالإشاعات حتى قبل أن يُسمع صوته وترسخت ثقافة الشك والريبة فصار المجتمع يراقب حتى أقرب الناس إليه بعين الريبة بهذا المنهج حوّل حزب الدعوة التسقيط إلى أداة مزدوجة داخلية لتصفية المنافسين وخارجية لتشكيل وعي عام يخدم أهدافه وما بدا في البداية مجرد أسلوب سياسي أصبح رمزًا لطبيعة الحزب الحقيقية وحشية في إدارة السلطة والخصومة حين يُذكر حزب الدعوة لا يمكن الفصل بين تسقيط السمعة والاغتيال السياسي فالدم أصبح جزءًا من منهج التنظيم والخصم الداخلي أو الخارجي لم يكن يُسقط بالكلمة فحسب بل بالحديد والنار حين لزم الأمر منذ الستينات والسبعينات لم ينجُ أي صوت معارض بالكامل خطباء وطلاب حوزة واجهوا الاغتيال أو الاعتقال بعد أن وُصموا بالخيانة أو الانحراف المراجع الكبار الذين لم يبايعوا الحزب مثل بعض أتباع محمد باقر الصدر تعرضوا لحملات اعتقال وتهديدات وحتى اغتيالات صامتة الدم لم يكن مجرد وسيلة بل إعلانًا للسيطرة المطلقة فكل من حاول رفع صوته أو الاعتراض حتى لو كان حوزويًا أصبح هدفًا مشروعًا في نظر التنظيم حزب الدعوة لم يعمل في فراغ تعاون مع أجهزة استخبارات إقليمية مثل إيران وسوريا لتصفية خصومه واستثمر هذه العلاقات لضمان تنفيذ عمليات الاغتيال أو الضغط على الخصوم دون أن تتعرض قياداته للمساءلة الغريب والمأساوي أن معظم الضحايا كانوا من داخل البيت الشيعي نفسه أي عالم خطيب أو طالب حاول تقديم خطاب مستقل يُوصف بالانحراف وأي سياسي شيعي منافس أصبح هدفًا للاغتيال السياسي المباشر أو للضغط النفسي والإقصاء الاغتيالات لم تكن كافية بمفردها فقد رافقها آلة تسقيط إعلامية تضخ تهمًا أخلاقية وسياسية وفكرية لتبرير الاغتيال أمام الناس ولجعل خصم الحزب يبدو خائنًا أو منحرفًا بهذا المنهج أصبح حزب الدعوة ليس مجرد حزب سياسي أو ديني بل كيانًا وحشيًا يبرر القتل باسم الدين والسياسة ويحوّل التهم والتسقيط إلى أداة تمهّد للدم والدم إلى أداة لاستمرار النفوذ والسيطرة في العراق لم تكن الولاءات السياسية يوماً واضحة وخالية من التناقض حزب الدعوة الذي رفع شعار محاربة البعث ورفض نظام صدام كان في الوقت نفسه يتشكل داخله قيادات ذات جذور بعثية وهو ما خلق ازدواجية مريبة في الانتماءات وفتح المجال للتسقيط السياسي المتبادل نوري المالكي عضو عامل في حزب البعث سابقًا ومن ثم انتقل إلى حزب الدعوة محاطًا بشبكة من الأقارب والموالين الذين حافظوا على ولاء مزدوج محمد شياع السوداني عضو عامل في البعث أيضًا واستخدم علاقاته القديمة للترشح وتثبيت موقعه داخل حزب الدعوة ليصبح لاحقًا رئيسًا للوزراء الازدواجية لم تقتصر على الولاءات بل تحولت إلى أداة تسقيط متبادل كل خصم يُتهم بالبعثية حتى لو كان من داخل الحزب نفسه لإضعاف موقفه أمام الرأي العام الاتهامات بالعمالة والتجسس تصبح غطاءً لتصفية الخصوم أو التحكم بالمؤسسات أدوات الإعلام الحزبي والفضائيات تُستغل لتضخيم هذه الاتهامات بينما القيادات تحمي نفسها خلف شعار محاربة الفساد والبعثية ما يثير القلق هو أن هذه الولاءات المزدوجة انعكست في سلوك الحزب وأخلاقياته ادّعاء الفضيلة والدين في العلن واستعمال القوة والإرهاب في الخفاء التضليل الإعلامي لتبرير الفساد والسيطرة مع تشويه كل من يخالفهم وتعزيز ثقافة الانقسام وعدم الثقة داخل المجتمع وتحويل كل خصم إلى عدو مباح مع سقوط نظام صدام انتقلت تجربة حزب الدعوة من السرية والانغلاق إلى السطوة المباشرة على مؤسسات الدولة ما كان يُمارس في الكواليس أصبح علنيًا تسقيط سياسي فساد مستشري سيطرة على القضاء والجيش والوزارات وتحويل الدولة العراقية إلى امتداد للحزب لا مؤسسة لخدمة الشعب نوري المالكي جمع جميع السلطات بين يديه وأصبح القرار السياسي والاقتصادي والأمني مرتبطًا بشخصه ما خلق فجوة كبيرة بين المواطن والدولة استخدم الإعلام واللجان الداخلية لتشويه سمعة أي منافس بما في ذلك من كان من داخل الحزب نفسه تحولت الأجهزة الأمنية إلى أدوات للضغط السياسي وترسخت ثقافة الخوف والرقابة داخل المجتمع مع هذه السيطرة لم يعد حزب الدعوة مجرد كيان سياسي بل أصبح السلطة نفسها فالدولة تحولت إلى أداة لتحقيق أهداف الحزب وتغذية الولاءات الداخلية على حساب الكفاءة والمصلحة العامة بينما المواطنون أصبحوا شهودًا أو ضحايا لهذا التحكم المزدوج ظاهر ديني سياسي وباطن استبدادي وحزبي استمرار التضليل الإعلامي لتبرير سياسات الحزب وتشكيل رأي عام مؤيد أو متردد لا يجرؤ على النقد السيطرة على الموارد وترسيخ شبكة ولاءات ضخمة تحمي الحزب من أي مساءلة المجتمع العراقي أصبح رهين الولاءات الحزبية ما قلل من فعالية المؤسسات ومكانة المراجع التقليدية من الولادة السرية إلى الدم والتسقيط ومن السرية إلى السلطة المباشرة بعد 2003 يظهر حزب الدعوة الإسلامية كمثال صارخ على كيف يمكن للمنظمات الدينية أن تتحول إلى قوة سياسية استبدادية الدروس واضحة السلطة المطلقة تحرف الدين كلما ارتبط الدين بالسياسة دون ضوابط يصبح أداة للسيطرة والتسلط ثقافة التسقيط تدمّر المجتمع المجتمع الذي يعيش في خوف دائم لا ينجح في بناء مؤسسات قوية أو حقيقية الولاءات المزدوجة والانتهازية السياسية أي حزب يتبنى ازدواجية الولاء سيخلق بيئة من الشك والخيانة والتنافس الداخلي على حساب المصلحة العامة في النهاية يظل حزب الدعوة درسًا قاسيًا في التاريخ السياسي العراقي كيف يمكن للفكر الديني أن يُستغل وكيف يمكن للسلطة أن تُحوّل المبادئ إلى أدوات للوحشية والسيطرة مع استمرار التغطية الإعلامية لتجميل المظهر وإخفاء الحقيقة.
صلاح ال خلف الحسيني