كان جاري الكهل شغوفا بقصص وروائع الصالحين-الحقيقية والصحيحة منها حصرا وليست المزيفة -ومما سمعه يوما وتأثر به كثيرا في موعظة مباركة،أن “جماعة دخلوا على التابعي الجليل الحسن البصري رحمه الله ، فشكوا له امر شخص ما كان يحتفظ تحت سريره بصندوق ممتلئ بالنقود بما يصل الى 80 الف دينار وكان يعادل ثروة كبيرة جدا يومئذ لم يؤد منها زكاتها ولم يصل بها رحمه ولم يطعم بها محتاجا متذرعا بالخشية من روعةِ الزمان ومكاثرة الأقران وجفوةِ السلطان على حد وصفه وبحسب ادعائه ،كما جاء في الرواية ، فأوصى الحسن البصري،وريث الموما اليه وقد نازع صاحب المال المكنوز الموت،قائلا له”أيُّها الوارث لا تُخدعن كما خُدع صويحبُك ،بالأمس جاءك هذا المال ولم تتعبْ لك فيه يمينٌ ، ولم يعرقْ لك فيه جبينٌ، جاءك ممن كان له جموعا منوعا من باطلٍ جمَعَهُ ومن حقٍّ منعَهُ،إنَّ يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال ثم يموت ويدعه لغيرهِ فيرزقه الله فيه الصَّلاح والإنفاق في وجوهِ البرِّ فيجدُ مالَهُ في ميزانِ غيرهِ”.
ففهم جاري الكهل العزيز من فوره بأن الخطاب هنا ليس لورثة”الجموع المنوع” للمال فحسب وهو ليس منهم بكل تأكيد لأن جاري ذاك وببساطة شديدة “فلاس وجع راس “وانما “للسموع المنوع” للعلم ايضا،والممتنع عن نقل ما يسمع من الخير للناس لتبصيرهم به كذلك فما كان منه الى ان إعتصر ذهنه بغية الوصول الى طريقة ما يمكنه من خلالها ايصال تلكم النصيحة الذهبية الى أكبر عدد ممكن من الناس ولكن بأقل التكاليف وبما تسعفه به ميزانيته الضعيفة التي بالكاد تكفيه لتغطية نفقاته واسرته وخطرت بباله فكرة تتمثل بنصح وتذكير مئات الورثة بالحديث النبوي الشريف” إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه وولدًا صالحًا ترَكَه ومُصحفًا ورَّثَه أو مسجِدًا بناهُ أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ أو نَهرًا أجراهُ أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ” ، ولكن يبقى السؤال هنا هو كيف بإمكانه ايصال الحديث الى اكبر عدد من الورثة للاخذ به جله أو كله وهو لايمتلك شروى نقير الا بما يسد رمقه ويعصمه وأهله من ذل السؤال ،ولاشك ان الحل يسير لمن يسر الله تعالى له ذلك ووفقه لعمل الخير وخير العمل اكراما لصدقه واخلاصه ولن يعدم المخلصون الصادقون وسيلة للوصول الى منافذ الخير والابتكار والابداع فيها البتة ،فما كان منه الا ان حث نجارا صديقا للتبرع بلوحة خشبية كبيرة،ومن ثم حض خطاطا بارعا صديقا له لخط الحديث النبوي الشريف الانف على افضل ما يرام وبأجمل الخطوط وبأبهى حلة على اللوحة الكبيرة مجانا ، ومن ثم كلف صديقا صاحب سيارة اجرة لنقل اللوحة المخطوطة الى مقبرة تقع في أقصى المدينة إعتاد أهل هذه المدينة على دفن موتاهم فيها ليعلقها على جدار المصلى الذي تقام فيه صلاة الجنائزعلى جميع الأموات المزمع دفنهم هناك وبالتالي فإن كل ورثة الموتى سيقرأون ما كتب فيها فتكون موعظة لهم خلاصتها”أيُّها الوارث لا تُخدعن كما خُدع صويحبُك بالأمس جاءك هذا المال لم تتعبْ لك فيه يمينٌ ،ولم يعرقْ لك فيه جبينٌ ..فأنفق جزءا منه وكما ورد في الحديث النبوي الشريف ومثله في أبواب الخير المختلفة “مع اهداء ثوابه الى المتوفى وسيصله ثوابها بإذن الله تعالى، وحتى يكمل الجار صنيعه شرع بعمل لوحة أخرى مماثلة وبنفس الطريقة وعلى ذات المنوال وذهب بها الى إحدى القاعات الكبرى المخصصة لاقامة مجالس العزاء لتعليقها هناك وسط القاعة فيقرأها القاصي والداني من أصدقاء وأقارب ومعارف المتوفى على مدار العام فينتفعوا وينفعوا ويتصدقوا،لا اقول كلهم ولا حتى جلهم ،ولكن لنقل 5 % منهم فحسب بما يعني نجاح الفكرة، وحتى وان لم يتصدق منهم أحد نتيجة البخل المستحكم في الناس” ولابد من شن اكبر حملة مجتمعية واخلاقية وتثقيفية ضده وبمختلف الوسائل المتاحة وبشتى الطرق” فيكفيه أنه جسد موعظة سمعها فلم يدعها لتقف عنده، ويكفيه أنه أحيا سنة مباركة قل فاعلها وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :”مَن أحيا سنَّةً من سنَّتي ،فعملَ بِها النَّاسُ ، كانَ لَهُ مثلُ أجرِ من عَمِلَ بِها ،لا يَنقصُ مِن أجورِهِم شيئًا ، ومن ابتدعَ بدعةً ، فعمِلَ بِها ، كانَ عليهِ أوزارُ مَن عملَ بِها ،لا ينقُصُ مِن أوزارِ من عملَ بِها شيئًا” ،ورب حامل فقه غير فقيه ،ورب حامل فقه الى من هو افقه منه، ورب حاض على اخراج الزكاة لايمتلك نصابها ،ورب حاث على دفع الصدقات و ليس عنده عشر معشارها فيكسب له بذلك اجر الزكاة والصدقة التي لايمتلكها كاملة بحثه القادرين والمتمكنين على اخراجها ، فقط تحرك لنصرة الخير والفضيلة ولاتجمد في مكانك مكتفيا بالولولة والبكاء والرثاء والندب و اللطم و”اويلي اويلاخ ” ، حسبك ان تتحرك انسانيا وخيريا وسيوفقك الله تعالى ويرزقك من حيث لاتحتسب ،ليس مالا فحسب وانما أفكارا ورحمة واخلاقا حسنة ايضا !
ترى لو ان جاري الفقير هذا كان “سموعا للخير منوعا، ولشدة فقره وعوزه من صنائع المعروف هلوعا “فمؤكد أنه لن يستجيب للموعظة ولما هدي الى الفكرة ولما كان صنيعه للناس عبرة والدليل اني العبد الفقير الى الله تعالى اكتب ما قام به جاري قبل سنين لكم هاهنا ضمن سلسلة “من ادب وإعلام وثقافة الفضيلة لمواجهة الرذيلة ” ليكون فعله اسوة حسنة لمن يستمع القول فيتبع احسنه .
ولن أختم مقالي قبل أن اتعرض واستنكر وبشدة المنبر المرصع بالجواهر والذهب الذي نصب في احدى دور العبادة في بغداد والذي أثار لغطا واسعا على مواقع التواصل والفضائيات حتى ان وكالات انباء عالمية معتبرة تناولت الموضوع بمزيد من التهكم والاستهجان منها “روسيا اليوم” ووكالة ” الاناضول ” وغيرها الكثير ، واقول في الوقت الذي يموت فيه الشعب العراقي جوعا وفقرا وبؤسا وحرمانا داخل العشوائيات والمستأجرات والخيام والكرفانات واذا بالمفاجأت المستفزة والمثيرة للاشمئزاز تترى، واذا ببعض مواعظ الزهد – الكاذبة – وحملات التصبر والتصبير والمصابرة – الزائفة – تلقى على اسماع الجياع جزافا على عواهنها – لتخديرهم – من على منابر مرصعة بالذهب في العراق الذي وصلت نسبة الفقر فيه الى 31 % بمعدل فقيرين من بين كل خمسة اشخاص ، بما يوازي 13 مليون عراقي تحت خط الفقر،وعندما نقول ان بعضكم لم يفهموا الدين ولم يستوعبوا التدين ولم يعوا الديانة وان بعض الوعاظ بحاجة الى وعاظ ، فلايلومننا احد قط ، الهذا تريدون مصادرة الاوقاف واخفاء عائداتها وواردتها وتحويل وجهتها والعبث بأصولها ومستنداتها ؟
اتقوا الله فلقد بلغ السيل الزبى،اتقوا غضبة الفقراء والجياع والمحرومين من اقصى العراق الى اقصاه ولات حين مندم فلم يعد في القوس منزع ،وعلى الفقراء المطالبة بالكشف عن واردات الاوقاف والخمس الهائلة ومعرفة الى اين تذهب تحديدا ولمن،اذا كان الكل يعاني العوز والفاقة في زمن كورونا وما قبله وما بعده فالى اين تولي شأنها في ذلك شأن الواردات النفطية وعائدات المنافذ الحدودية وجهها ؟ اودعناكم اغاتي