23 ديسمبر، 2024 1:55 م

من أنثولوجيا الشاعر سامي العامري -3

من أنثولوجيا الشاعر سامي العامري -3

أعترف أنني منحاز الى عالم سامي العامري، شعراً وشاعراً، لأكثر من سبب هام ومنها أن عالم هذا الشاعر الموهوب عالم واسع وبمقدار ما هو واسع هو متنوع. هو عالم لا زيف فيه ولا رياء ولا تصنع ولا تبجح، شعر سامي مرآته، في عفويته وانطلاقته وجماله وحتى ما قد يلمسه الدارس من تداخل بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر واعتماد القافية أحياناً إضافة الى إيقاع الثانية تجده مطبوعاً لا مصنوعاً؛ وتنوع هذا الشاعر مدهش، فيه البوهيمية وفيه التصوف وفي الحالتين هوالمتأمل الثائر بلا ضجديج ضد الترويض والتدجين والنفاق والتزلف والكسب الذاتي هو قديس على طريقته..

الحياة البوهيمية عاشها الشاعر وفتن بها وفتن بحياة الغجر، ولا غرابة في ذلك فقد استلهمت غيره من الشعراء، منذ أن اجتاح الغجر مقاطعة بوهيميا قادمين من رومانيا في منتصف القرن التاسع عشر وأول ما الهمت حياتُهم هنري موجيه “مشاهد من الحياة البوهيمية” التي حولها لاحقا الموسيقار الإيطالي بوتشيني عام 1896 الى اوبرا “البوهيمية”، وانعكست في كثير من الأعمال.. والشاعر سامي العامري قرأ للبوهيمين الكبار أمثال: هنري ميللر، وجان جينيه، وقبلهما فيكتور هوغو.. ولكنه نسي قصيدة “بوهيميتيma boheme ” التي كتبها إرثر رامبو حين هجر العائلة مشيا على الأقدام وهو المراهق ليقابل الشعراء في باريس، أما لوركا فقد خصص للغجر قصائد أغاني الغجر!

من قصيدته “أغصان غجرية” يقول الشاعر سامي العامري:

غصنٌ خطفَ قبّعتي

ورفعها إليه وهو يقهقه ..

غصونٌ غجرية لا تستقر على شجرة

إلا لتقفز كالسناجب إلى شجرة أخرى

والطينُ ترابٌ أذابَهُ عشقُ الجذور !

وهو الماضي يميسُ بزِيّ عصفورٍ

منقارُهُ ذبالةُ شمعةٍ

وجناحاه خيطا بخور
وفي بالي
ضاحيةٌ ذات طرازٍ ليليٍّ
كنتُ قد
طويتُ جدرانها ككتاب

عندما يعيش الشاعر حياته البوهيمية يجد نفسه جزءً من الطبيعة في حركتها مثلما يرى أن قبعته التي علقت بغصن متدل ٍّوانداحت عن رأسه هي استفزاز بوهيمي مقصود من الغصن، ويرى أن الطير على الأغصان تنشد وتغني له، فهو يفهم لغتها وكأنه سليمان عصره، بل هو اتخذ العصفور والسنجاب أصدقاء، والأغصان التي تعبث بها الريح بديلا عن بني البشر الذين هم ليسوا أحرارا كالغجر، وهم

ليسوا منسجمين انسجام عناصر الطبيعة التي أتت عليها المفردات النابضة في القصيدة! ومن الملفت أن هذه القصيدة المتفردة وهذه اللغة الصافية وهذا التوصيف الذي هو أقرب الى التصوير الحسي لم يحظَ بما حظيت به قصائد أخرى للعامري من كثرة المداخلات والمجاملات إلا القليل! ومن ناحية أخرى ما زلت أتذكر أغنية شاعت ذات زمن أجدها مستوحاة من عالم الغجر الجميل: عشِقتُ في الأندلس صبية من غجر؛ مع أيقاعات ولحن الفلامنكو!

للعامري قصيدة “وصايا سامي العامري” في مجموعته “أستميحُك ورداً” الصادرة في القاهرة، دار سندباد2010، أهمية هذه القصيدة أنها من قصائده القديمة نسبيا والتي نشرت عام 1993 في مجلة الناقد اللبنانية، في أنها تتيح لنا أطلالة على تطور شعرية سامي العامري:

أوصيك أيها الْجرُحُ/ وأنت تشق طريقك نحو صدري/ أن تتخفى بهيأة زورق/ وإذا صادفت بجعات/ تنظف ريشها على ضفاف دمي/ أوصيك ألا تخبرها/ بما حصل في الخارج/ دعها في منأى عن الفظاظات/وإذا توسل إليك غصن أن تصف له الفصول فاعتذر له…إزعم ان هناك شموساً ضاحكةً/ وبلابل تبني أعشاشها/ على دواليب الهواء/ ولا تقل لأي بساط/ يحوم حول روحي طليقاً/ بأني الآن سجين.

يكشف سامي العامري بهذه النثرية الشعرية، عن بدايات تفاعله مع الطبيعة، ورسمه للوحة ناطقة تجعل من عناصر هذه اللوحة تتعدى النطق الى الحوار والألفة، والانسجام، في هذه اللوحة يظهر الشاعر قدرة فائقة على السرد الحكائي وعلى تبادل الحوار الداخلي بين ذات الشاعر المتكلم وبين عناصر الطبيعة التي تشكل تبادلا للمواقع بشكل هارموني يمزج بين المناجاة والسرد الحكائي الشعري فالذات المجروحة حاضرة وعناصر الطبيعة آسية؛ وبالرغم من الالتياع الوجداني إلا أن الشاعر يدخلنا الى عالم الجمال والانسجام المدهش.. لي ملاحظتان أذكرهما لعل في ذكرهما فائدة، أن “هيأة” رسمها الصحيح “هيئة” حيث أن همزتها مسبوقة بياء ساكنة تعمل عمل الكسرة ومثلها مثل “حطيئة”، والثانية هي أن لا جمع للمصدر، لذا فان “فظاظة” لا تُجمع “فظاظات”، لأن المصدر يجمع إذا أخذ معنى المرة كأن نقول زيارة زيارات: لذا صحيح العبارة الشعرية أن يكون: دعها في منأىً عن الفظاظة؛ على أن هذا لا يقلل من جمال النص الرائع.

وفي قصيدة “زيتيات” يرسم الشاعر سامي العامري لوحة أخرى بطلتها الحمامة المتطامنة، التي تنقر في إناء خزفي على سطح بيت في برلين، أوحت له كما أوحت عصفورتان عاشقتان لأبي تمام، وكما أوحت حمامة نائحة للأسير الشاعر أبي فراس الحمداني، فلنر ما أوحت حمامة برلين للشاعر العامري من خواطر؟ في هذه اللوحة التي وجد العامري نفسه أحد عناصرها فلنتامل أيضاً:

تكثر أعوامُ الجنون

تنقضي الغبرةُ في برلين

خمسين أم تسعين بات العمر

لا يهمُّ

والليلُ في العشرين!

أرسلَ من شباكه ابتسامة لبرج هولدرين

***

حمامةٌٌ في السطح

وقتَ الأصيلْ

تلتقطُ الحبَّ ببطء

وإناء مثلها يلتقط الحَبَّ

ويعلو في الفضاءات هديلْ

شكراً للشاعر الجميل وتحية للإنسان المرهف سامي العامري ولا شك أن عالمَ سامي وفضاءَه الشعري رحبٌ جميل، وما كتبته عنه هو مرور ووقفات ليس إلا!
رام كم هنغ 7 تشرين2/نوفمبر 2014