23 ديسمبر، 2024 1:58 م

من أدب الدفاع المقدس.. قصة: أمهات البنين..

من أدب الدفاع المقدس.. قصة: أمهات البنين..

حاولت النهوض لاستقبال زائرتي، أريد أن أحاورها في تفاصيل هذا الوجد الذي يلهب شوقا لاحتضانها، وهي القريبة عني بخطوات: سيدتي من أنت؟ ابتسمت حينها بوجهها البدوي الملامح وقالت:ـ انا أم البنين.. ما ان سمعت باسمها رحت اردد: (سلام الله عليها) وقد خارت قواي تماما، فكنت لحظتها اسمع صهيل خيول الطف، وعلى مقربة منها صحت انفاس يقظة وصوت أنين: ما الخبر يا أم؟

أجابت مولاتي:ـ ها هي الطفوف تشتعل ولم يخبو أوارها، وشاء الله تعالى ان يكرمني بحضور طف كل جيل، وأكرمني ان يكون لكل زمان ام البنين، وشاء الله ان تكوني انت أم البنين هذا الزمان.

نهض السؤال في داخلي بقوة:ـ مَنْ.. انا؟ سيدتي اخشى أني لا أطيق الصبر والفجيعة.. من انا يا مولاتي كي اكون أم البنين لزماني ولزمان آخر؟ وانت التي حملت شموع الثكل في رابعة الخشوع اللاهب عزا وفخرا..

واذا بي اصرخ ثائرة سيدتي ومولاتي لحظة ابقي معي.. انا اصرخ وعائلتي حولي واولادي يبكون ويتوسلون باسم الله سلامتي:ـ لا تخشوا عليّ شيئا، انظر الى اولادي وزوجاتهم يحملون اطراف بكائي، وهم يعانقون الدمع بشغف الصالحين، سألني محمد ولدي الكبير:ـ ما الامر يا أمي؟ قلت:ـ لا شيء.. سوى ان الله اختارني لأكون أم البنين هذا الزمان، صاح الجميع مستغربا:ـ ماذا؟

قلت: كانت عندي مولاتي أم البنين (عليها السلام)، وسلمتني راية هذا العز امانة في عنقي، وعليكم أنتم يا اولادي ان تحسبوا هذا الحساب، ران الصمت حينها وظل الوجوم عالقا في فضاء البيت، أصبح رأسي الصغير ميدان قتال والحومة التي ستستقبل ابنائي يقاتلون ثم يقتلون امام عيني، والصهيل يعلو حتى يصير صليلاً.

صحت بهم: اياكم يا اولادي أن تتركوه بلا ناصر ولا معين، انسحبن الكنات داخل غرفهن، وكل زوجة تقول لزوجها: اياك فانا لا أحتمل الامر، من لي بعدك.. أيعقل ان تتركني وتذهب للقتال؟ لِمَ لا يقاتل غيرك والشباب يملؤون العراق؟!

:ـ يبدو ان غرف ابنائي شهدت حوارات لاهبة بين الازواج، وعند الفطور توجه ابنائي نحوي، قبلوا رأسي ويدي..: أماه.. لنا الفخر بأن تنال أمنا هذا العز.. تساءلت حينها: وزوجاتكم..؟ أطرقت الزوجات رؤوسهن، ولم ينبسن بأي حرف، قلت لهن:ـ في واقعة الطف كانت هناك امرأة وهي زوجة وهب حينما عزم على نصرة سيد شباب أهل الجنة الامام الحسين(عليه السلام)، كانت تصرخ مثلما صرختن امتعاضا وخوفا على ازواجكن:ـ بالله عليك لا تفجعني بنفسك، تقول له: اياك ان تذهب الى الميدان فانا لا احتمل الحياة من بعدك، وقالت له: ايعقل ان تتركني وتذهب للقتال؟ لم لا يقاتل هؤلاء الناس لينصروه..؟

لكن عندما استوعبت الأمر، رجعت عن قولها وغيرت رأيها، فكيف بكن اذا سلب الوطن؟ من لكن اذا مضيتن سبايا لداعش ونخاسة داعش، لتفكر كل واحدة منكن في وطن محتل ومهان، ومراقد ائمتنا مهدمة، هن وقبور البقيع سواء.. ثقي حتى قبور الاولياء تنبش، فما نفع الحياة بعدها ورأيتن بعينوكن ذلة من احتل الدواعش بلادهن، هل ستخرجن للقتال ام تبقى كل واحدة تخبئ زوجها تحت السرير، وتنبهت لحالة الاستغفار التي اجتاحتني، حاولت التماسك، وقبضت بصعوبة بالغة على هدوئي المعتاد، قلت: هذا الاختيار ليس لي وحدي بل هو اختيار لعائلتي جميعها لو فشلنا في قبول هذا الاختيار ما الذي بقى عندنا من قيمة يا ليتنا كنا معكم، اذا لم ننصر الدين والوطن ونفوز برفقة ائمة اهل البيت(عليهم السلام)، ما نفع مواكبنا ومجالسنا الحسينية اذا لم تدافع عن مراقدهم الطاهرة؟

ورد الخبر بعد ايام من هذا الموقف الذي عاشته عائلتي ان سامراء تعرضت لغزو داعشي كبير.. ولهذا قرر الاولاد جميعهم التسلح والالتحاق بسامراء، ودافعوا دفاع الابطال في قاطع مدينة (مكيشفة)، لم أنم ليلي ولا نام البيت معي العيون على الموبايلات ولا اتصال، سلام الله عليك مولاتي ام البنين وانت تقفين امام بشر بن حذلم وهو يخبرك بمقتل سيدي الحسين، وابي الفضل واخوانه جميعهم (سلام الله عليهم)، انا ونساء البيت ساهرات ننتظر بشر بن حذلم جديد.

وأخيراً.. وصل بشر بن حذلم عبر الموبايل، انهضي يا أم البنين الله اكبر، وإذا بابني محمد محمولاً على أكتاف الناس، نظرت في الأفق الثاني الله اكبر، وإذا بابني احمد خلفة وبعد خطوات واذا بجنازتي ولدي سيف وأخيه.. ايه طوبى لكم يا اولاد عبد السالم، بيّض الله وجهكم، لقد بيضتم وجهي أمام الله تعالى.. وأمام مولاتي فاطمة الزهراء ومولاتي أم البنين(عليهما السلام).