التطور هو أبرز خاصية بالنسبة للبشرية ولكل الكائنات الأخرى , فمنذ بداية التاريخ والتطور سارٍ , إذ إن المقارنة بين الحياة اليوم والحياة قبل ملايين السنين _ بالنسبة للبشر _ سوف تكشف النتائج المذهلة للتطور الذي يتسارع باستمرار , من حياة الكهوف إلى البيوت الإسمنتية الحديثة , من الكتابة على الألواح الطينية إلى الطباعة الالكترونية , من الموسيقى البدائية (من خلال الطرق والصفير) إلى الحفلات الموسيقية الحديثة و تسجيلها الكترونياً , من اعتماد الأباكوس (المعداد) في الحساب بشكل أساسي إلى الحواسب الالكترونية الصغيرة , من الأزميل والنحت على الحجر إلى الرسم الالكتروني بالأقلام الضوئية , من مراقبة النجوم بالعين المجردة إلى التلسكوبات الحديثة التي بَيَّنَت لنا الكثير بالفعل , عموما لقد تطورت الحياة البشرية بشكل هائل , وهذا التطور قد سهل الحياة كثيرا و وفر مزيدا من الأعمال والمجالات , وقد ازدادت المعرفة وازدهرت .
لقد شكلت التكنولوجيا حياتنا .. حواسيبنا , مبانينا , تواصُلنا وحتى أجسادنا , منذ قرنين كان يتم استنساخ الكتب بالكتابة اليدوية كتاباً كتاباً و اليوم يمكن استنساخ ملايين النسخ بسهولة بالغة , منذ نصف قرن تمت أولى عمليات زراعة القلب للإنسان و اليوم هناك محاولات لزراعة رأس له , منذ اقل من قرن كانت آلة ” ألان تورنغ ” البدائية و اليوم أصبحت ترى بعض الروبوتات التي تبدو كالبشر إلى حد ما , في القرن السابع عشر حُوكِم ” جان باتيست دوني ” لإقدامه على نقل الدم بين البشر لأول مرة واليوم لا تتم العمليات الجراحية إلا بنقل الدم و توفيره , في 1616 تمت محاكمة ” جاليليو ” واتّهامه بالهرطقة لأنه أيّد نظرية ” كوبرنيكوس ” عن دوران الأرض حول الشمس و اليوم بعد أربعة قرون تعد نظريات جاليليو هذه من أهم نظريات العلم الحديث , لقد انتقلنا من العملات المعدنية الثقيلة إلى النقود التي لا تُرى , أنت اليوم من خلال التلفاز وشبكة الانترنت يمكنك أن تعرف الخبر بعد دقائقٍ من وقوعه , نحن نتقدم إلى الأمام نسبياً , ولكن هل يمكن لهذه أن يعيدنا إلى الوراء ؟!
يقال : ( كل شيءٍ زاد عن حدِه انقلب ضِدَه ) , و الأمر ينطبق على التطور , يقول ” راي كيرزويل ” بان العالم يتطور أٌسياً و قريباً سوف نرى الحواسيب في كل مكان حتى في أجساد البشر , سوف تزدهر الهندسة النانوية وتحقق نتائج عظيمة , بل قد يكون تحقيق الخلود البشري خلال الأجيال القادمة أمراً ممكناً , هذا يبدو مذهلا , ولكنه أيضاً يبدو حلماً وردياً , من سيتحكم بهذه التقنية إن وُجِدَت , و هذا قد يحول هذا البشر إلى عبيد , سوف يؤدي هذا إلى إصابتهم بالجمود بسبب كل التسهيلات المتوفرة التي سوف تجمد العقل , يقول ألبرت أينشتاين : ‘‘ أخشى اليوم الذي تتجاوز فيه التكنولوجيا تفاعلنا البشري . فإنه سيكون للعالم يومئذ جيل من البلهاء ’’ .
لقد تحولت التكنولوجيا الحديثة ” شبكة الانترنت و ما يسمى بوسائل التواصل ” إلى طريقة لمراقبة الناس , للتحكم بهم , بآرائهم و بأحاسيسهم , بل الاستفادة من مشاعر و آراء الأغلبية لتحقيق الربح , أي مراقبة الناس باستمرار وغياب أدنى مجال للخصوصية , إنها وسيلة لتحقيق الغاية الكبيرة التي تتحول إلى شيء واقعي و هي (السيطرة على العالم ) , يقول برتراند دي جوفيل : ‘‘ مجتمع من الخراف , ستحكمه عاجلا أو آجلا جماعة من الذئاب ’’ .
فضلا عن ذلك هناك المشاكل النفسية التي تنجم عن الانصراف إلى الأجهزة الالكترونية _ من هواتف ذكية و حواسيب _ و ترك الطبيعة , إنها تؤدي إلى الكثير من الأمراض النفسية ومنها الكآبة , فضلا عن إصابة الناس بالخمول و الكسل الناجم عن الجلوس لساعات طوال على شاشة اللوح أو الحاسوب إضافة إلى الأمراض البصرية التي أصبحت تنال من أعداد هائلة من الأطفال المدمنين على الألواح والأجهزة الالكترونية , كما أن التسهيلات البالغة المتوفرة لغالبية الناس من سكان العالم تؤدي إلى توقف الإبداع والابتكار , استخدام الآلة الحاسبة باستمرار يؤدي إلى تعطيل القدرات الحسابية العقلية لدى الإنسان , كما يُقال : ‘‘ لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد ’’ .
الطبيعة هي الوسيلة الأفضل لمنح الإنسان الصحة العقلية و الجسدية بدلا من الجلوس أمام شاشة مشعة مليئة بالجراثيم , هي وسيلة لإحساسه بالجمال الحقيقي , التبصر و التأمل بالطبيعة مصدر للإلهام , يقول ألبرت أينشتاين : ‘‘ أنظر بعمق إلى الطبيعة , عندها تفهم كل شيء بشكل أفضل ’’ .
كما أن هذه النوعية من التكنولوجيا ( وسائل التواصل الاجتماعي ) قد أضحت وسيلةً لتخدير الناس , يمكن بسهولة خداعهم بالمعلومات الغير صحيحة , يمكن بسهولة زرع الأفكار السلبية فيما بينهم كأفكار التعصب و العنصرية و توجيه الرأي تجاه قضية معينة , الإنسان ليس شريرا بالفطرة بل انه يكتسب هذا الشر و هناك عوامل عديدة تؤثر به من هذه الناحية و منها وسائل التواصل ” الانترنت ” إذ أنها تقدم الكثير مما يَمَس بأوتار حساسة لدى شريحة معينة مما يعطيها تفكيرا جديدا سلبيا غالبا , يقول أفلاطون : ‘‘ الثمن الذي يدفعه الطيبون لقاء لامبالاتهم هو أن يحكمهم الأشرار ’’.
بالرغم من السلبيات الناجمة عن الإفراط في الاعتماد على التكنولوجيا , إلا أنها تمتلك فوئدا جمة كما ذكرنا آنفا , من السهل التواصل مع الناس اليوم , من السهل الاستماع إلى الموسيقى , من السهل اكتساب المعلومات وتعلم اللغات و الكتابة _ إذ تمت كتابة هذا المقال بمساعدة التكنولوجيا الجمة _ و القيام بالبحوث العلمية المختلفة , صحيح أن القيام بالعمليات الحسابية مهم للعقل ولكن يمكن للحواسيب أن توفر وقتاً _بشرط عدم الاعتماد عليها كلياً_ إضافة إلى أن التكنولوجيا توفر مجالا للمزيد من المهن والاختصاصات والاهتمامات , لكن الأمر الذي يحتاجه الكثير هو معرفة هذه التكنولوجيا , يجب أن يتعلم كل إنسان كيف تم ذلك , كيف حدثت هذه القفزة , ما هو الذكاء الاصطناعي , و ما الذي يحدث في عالمنا , في بيئتنا , يقول كارل ساغان : ‘‘ نحن نعيش في مجتمع يعتمد بشكل رائع على العلم والتكنولوجيا ، لكن يكاد لا يوجد احد يعرف شيئا عن العلوم والتكنولوجيا ’’ .
يمكن استغلال هذه التكنولوجيا في السيطرة على بيئتنا , مثلا استغلال التقنية في توفير المواد الغذائية للجائعين , يمكن استغلالها في توفير التعليم لسكان البلدان الفقيرة , في القضاء على التلوث البيئي , في تنمية الزراعة , في توفير العلاجات للكثير من الأمراض المستعصية , في بناء المباني , في حماية الكائنات المختلفة , في تعزيز التعاون و التفاهم و السلام بين البشر . هذه بعض الوسائل المفيدة التي يمكن من خلالها استثمار التكنولوجيا , و لكن يمكن أن تكون ذات تأثير سلبي , إذ إنها سيف ذو حدين قد يكون سلاحا لك أو قد يكون وسيلة لطعنك , كالديناميت الذي قد يستثمر في عمليات البناء و التطوير و قد يستعمل في قتل ملايين البشر , و الطاقة النووية التي قد تولد كميات عالية من الطاقة المفيدة أو قد تمسح مدناً , لذلك فأن التكنولوجيا تدل على تقدم كبير لنا ولكنها تعتمد على من يمتلك هذه التكنولوجيا.
يقول أحمد زويل : ‘‘ إن المعرفة ليست وجاهة , إنما هي الطريق لكي نحمي أنفسنا و أن نبدأ طريق الإنتاج و أن نزيح غبار الضباب و الجهل الجاثم على صدورنا منذ فترة ’’ . وبالمعرفة نحقق التطور الأسمى للبشرية في معرفة أسرار الكون , و التكنولوجيا الحديثة هي جزء من تلك المعرفة التي ستساعدنا في تحقيق أهدافنا السامية , كما أنها دليل على المقدرات البشرية التي تتطور باستمرار , لكن الأمرَ يعتمد على إدراك الناس لهذه التكنولوجيا وعلى مدى صلاح أهدافهم .