23 ديسمبر، 2024 5:22 ص

من أجل أن لا تنفرط البوصلة

من أجل أن لا تنفرط البوصلة

عندما لم تستثنِ السكين الداعشية شيعياً، ولا سنياً، ولا مسيحياً، ولا كردياً، وأصبح واضحاً أن خارطة الوطن بمقدساته، وقيمه، وبشره، وترابه، أضحت جميعها في المرمى المباشر لفوهات النار، استقر مؤشر البوصلة المضطرب، للمرة الأولى، باتجاه الشمال، وتشكلت في الذاكرة المشتركة ملامح محددة، ومميزة للعدو، وشعر الجميع بأن النظر في الدفاتر القديمة خسة لا يمكن تبريرها، ولا تخدم سوى العدو المتربص بالجميع.

لكنّ ما تدركه حكمة الإنسان البسيط، من الوهلة الأولى، قد يبدو صعباً، بل مستعصياً للغاية بالنسبة لمن لوثته المصالح، وأفسدت قلبه الانتماءات الضيقة.  

وإذا كانت فطنة الشاعر قد هدته إلى “إن الشباب والفراغ والجدة * مفسدة للمرء أيَّ مفسدة”، فإن هذه الملاحظة تجد تطبيقاً مسترخياً، حتى النفس الأخير، في بعض المحافظات الجنوبية. فهناك، حيث الإدارات المحلية لا تملك ولو منجزاً يتيماً بائساً تبرر به وجودها، أو تغطي بورقته عار الفساد الذي أطبق على البر والبحر بما كسبت أيديهم، يشغل السياسيون فراغهم القاتل بتقليب الرماد بحثاً عن جمرة منسية، يوقدون على نارها الكابية حكاية من وحي خيالهم العاجز الكليل، ويمضغون عشبة الحقد القديم.

حكايتهم، هذه المرة، اقتبست من ملامح السردية التي تجري في وسط وشمال العراق، فقرروا شنّ حملة، على غرار الغزوات الداعشية الغادرة، مستهدفين بضعة أشخاص في الناصرية والسماوة والديوانية، فقادوهم معصوبين ومقيدين، على الطريقة الأمريكية، وعلى إثرهم حملوا الغنيمة الثمينة؛ بضعة كمبوترات وكتب، وأقراص ليزرية!

إذن، هي غزوة فاشلة، ولابد لتسويغها من سد الفراغات الكثيرة بقطع من الخيال التقليدي الممجوج، وهنا بادر محافظ الناصرية، وقائد شرطة السماوة، إلى ترديد المحفوظة الرسمية التقليدية: وصلتنا أنباء عن وجود مخطط خطير يستهدف أمن المناطق الجنوبية يخطط له أتباع اليماني، وعلى الفور شنت قواتنا الباسلة غارات ليلية استباقية على البيوت الآمنة، أسفرت عن ترويع الأطفال والنساء، واقتياد الرجال وما يملكون من أسلحة كمبيوترية فتاكة.

ولكن، لأن إخبارات العصفورة كاذبة، من جهة، ولأن ما يحرك الحكومات المحلية الجنوبية، من جهة أخرى، هو الأحقاد الحزبية، ومحاولات إثبات الوجود المجانية، فإن الفراغات المتروكة تبقى كبيرة وكافية جداً لفضح الحكاية الخرافية المكذوبة. وإلا بربكم هل تتفق النتيجة التي عرضتها قنوات فضائية متمثلة بنهب أجهزة كمبيوترية مع فكرة التخطيط لعمل إرهابي كبير يستهدف أمن المناطق الجنوبية؟

الحقيقة التي تحاول بعض القوى التي تسيطر على القرار الحكومي في الجنوب إخفاءها تتحدد بإعلان السيد اليماني عن تشكيل سرايا باسم “سرايا القائم” بهدف مقاتلة داعش، والدفاع عن الوطن والمقدسات المهددة، ولأن مثل هذه القوة القتالية لن تكون محسوبة عليهم، ولن تصب النتائج التي تحققها في رصيدهم الجماهيري والسلطوي، كان قرارهم تشويهها، والإساءة إليها، وإظهارها بمظهر العدو.

بطبيعة الحال، لم يكن هذا التعاطي مفاجئاً لنا، ولا غريباً، أبداً عن طبيعة التوجهات السلوكية التي تتحكم بالجهات المسيطرة على القرار الحكومي في الجنوب، لكن الغريب هو سكوت الحكومة المركزية في بغداد عن هذه التصرفات المخالفة للقانون والدستور، لاسيما بعد اتصالنا بأكثر من طرف حكومي، وإطلاعهم على نيتنا بتشكيل القوة القتالية المشار إليها، وسعينا الحثيث للتنسيق مع من يمثلها، أو يمثل وزارتي الدفاع والداخلية حصراً، وطلبنا منهم تخصيص مراكز تدريبية لمتطوعينا، وتسليحهم، وبعد تقديم رسائل تطمين كثيرة جداً، لا أظن أن جهات مقاتلة أخرى قدمت مثيلاً لها.

 إذن، هل تحاول الجهات المسيطرة على القرار الحكومي في الجنوب أن تدشن القتال ضد داعش على أنه احتكار خاص بها، وتأمم مؤسسة “الحشد الشعبي” لتحقيق أهداف سياسية ونفوذية، وأن الأمر، في نهاية المطاف، عبارة عن “بزنز” بثوب خاكي!؟

إن أكثر ما أخشاه أن تكون هذه هي حقيقة الأمر، فعندها لن يبقى اطمئنان بأن ما شهدناه من انهيارت لمدن بكاملها سيتوقف.