” لما كانت الحقيقة الالهية خافية علينا، فإن سؤالا يطرح عن كيفية معرفة ماهية الخير والصفات الأخرى في الاله؟ وكيف نعرف ماهية الحكمة وماهية الخير المطلق؟”[1]1
لقد أقامت التجربة الدينية منذ البدء علاقة مع أفكار المنح والتلقي والإرسال والاصطفاء والانتقاء والقبول والاختيار من جهة أولى ومتنت صلة شخصية بين الإنسان والله تتصف بالإلزام والخضوع من جهة ثانية.
لقد شهد المعطى الديني تاريخا متقلبا تميز بالمراوحة بين السقوط في الانحراف والهرطقات عن طريق الخروج والإلحاد والتمرد والعزم على التصحيح واستعادة الجوهر المكنون بالعودة إلى الطبيعة أو الوحي.
لقد جمع الديني بين الابتكار والكذب وبين تحقيق الوعي وتمثل الوهم وبين درك الواقع وإنتاج الاغتراب. ولقد ظل الديني حاضرا بشكل مستمر وكوني في الحياة الإنسانية وذلك لما يقوم به من وظائف حيوية للمجموعات البشرية ولما يوفره من حماية للأشكال الاجتماعية التي ظهرت في الحالة الطبيعية ، والتي تميزت بالنزاع والتناحر والدخول في حالة الحرب من أجل المحافظة على البقاء وخشية الموت العنيف.
إذا كان الصراع القاتل بين أعضاء المجموعة يهدد وجودها بالفناء ويترتب عن النزاع الداخلي الهلاك الحتمي فإن الاحتكام إلى منطق المقدس والإيمان بوجود قوة خارقة وجعلها موضوع للقداسة قد يمثل انفراجا ويضع حدا للعنف ويوقف النزاع ويساهم في تنظيم العلاقات بين الأفراد ويوطد السلم الأهلي.
لقد تم تثبيت المؤسسة الدينية في الحياة الإنسانية بطريقة بطيئة ومعقدة وتم تنزيل نصوصها التأسيسية بصورة لا تقبل التراجع والمقاومة. ولقد أشار الباحثون إلى البعد المزدوج للديني من حيث هو أساس جوهري وليس مجرد صفة محمولة وكذلك من جهة إشارته إلى حقيقة واقعية وليس مجرد أسلوب وجود.
بيد أن الظاهرة الدينية تسببت في التفرقة بين أعضاء المجتمع البشري من خلال تعدد القناعات وتكاثر المذاهب وصراع التأويلات وتمسك كل فرقة بالاعتقاد في امتلاك الحقيقة المطلقة والطريق القويم للمطلق.
بهذا المعنى أصبح الدين جزء من المسار العام للثقافة والاجتماع وحاول في العديد من المرات الانفصال عن السياسة والتربية والقانون والاقتصاد والعلم واقتصر على التجلي في نسق من الاعتقادات والشعائر.
لقد أدى التمييز بين الدين والسياسة إلى تشكل الإطار النظري والسياق المعرفي لظهور الدراسات المقارنة بين المعتقدات والأديان والبحث في أوجه التقارب وأسباب التباعد ونقاط الاتفاق ومجال التنازع والفروق.
لقد ترتب عن ذلك مواجهة العلوم الإنسانية للعديد من الصعوبات عند محاولتها ضبط جملة من المقولات التي تخص وقائع الدين وتجارب الإيمان ونصوص الحياة وتتردد بين مناهج التفسير ومطالب التأويل.
على هذا الأساس حري بنا أن نتدبر السؤال الذي يخصنا والذي يطرح وفق الصيغة التالية: هل يجوز بدء هرمينوطيقا العلمنة في حضارة إقرأ؟ وبماذا تتميز هرمينوطيقا العلمنة حول الإسلام بماهو دين مدني؟
تؤدي القراءة الهرمينوطيقية للتجربة التأسيسية الكبرى للدين الإسلامي من خلال التأليف النقدي بين رواية الوحي والحديث إلى ضبط جملة من المباني الأصولية والكلامية والفلسفية لحدث النداء وأفق الاستجابة وتجربة تقبل الرسالة وواقع انتشار الوحي حفظا وترتيلا وتدبرا في الزمان التاريخي ويرنو الى الأزل وذلك بعرض الموازنة التطبيقية التي تشتغل على تطوير جملة من المفاهيم ضمن الحقول البحثية التالية:
– عقلنة الوعي بالذات في سردية الإسلام
– تاريخية الوجود المكتوب بلغة الضاد
– أنطولوجيا الأثر الفني في القرآن
– دنيوية الإيمان الديني عند المسلمين
– أنثربولوجيا الأبعاد المدنية في الإسلام
أن يكون الهرمينوطيقي على يسار الإسلام حقيقة لا مجازا، بالجوهر وليس بالعرض، هو أن يكون فكره ثورة على الماضي الشمولي وخلخلة لمنطق القداسة ويجمع في علمنته بين الواقعي والراهن والافتراضي ويجعل من لغة الضاد الجوهر الخلاق في التمثيل الذاتي التاريخي خارج حدود الحداثة الكولونيالية.
أن تلتزم الذات المتحدية بآداب المقاومة وتنشط الذاكرة الخصبة من التاريخ الإبداعي للفكر الذي يخصها يعني أن تواجه الكولونيالية بفكر لاكولونيالي وتعمل على إعادة بناء الشخصية النقدية ومدارها الحضاري.
فهل بمقدور المغلوب أن يتكلم؟ هل يستطيع المؤمن التفكير بحرية؟ وهل بإمكان المتكلم أن يؤول عالمه وأن ينتصر في كل منازلة هرمينوطيقية على متحديه؟ هل تتطلب هرمينوطيقا العلمنة في الإسلام السردي تضحية بالذات من أجل إنقاذ المقدس من دنيوته المحتومة أم تضحية بالمقدس من أجل العناية بالذات؟
الهامش:
1-هيك (جون)، فلسفة الدين، ترجمة طارق عسيلي، دار المعارف الحكمية، بيروت، طبعة أولى، 2010، ص40.
كاتب فلسفي
[1] هيك (جون)، فلسفة الدين، ترجمة طارق عسيلي، دار المعارف الحكمية، بيروت، طبعة أولى، 2010، ص130.