مع اقتراب فصل الصيف، يبدأ ميزان المزاج المجتمعي في العراق بالميل نحو السخط؛ إذ تتفاقم الضغوط المعيشية، ويطلّ شبح انقطاع الكهرباء، وتتجدد خيبات الوعود. في هذا السياق، لا يبدو تنامي الاحتجاجات الشعبية مجرد احتمال، بل أشبه ما يكون بحتمية موسمية. وهو ما يفرض على الحكومة العراقية إعادة التفكير بجديّة في كيفية إدارتها للاحتجاجات، لا من باب الأمن الوقائي فقط، بل من باب الفهم السياسي والاجتماعي العميق لمصادر الغضب الاجتماعي.
ما حدث مع احتجاجات الكوادر التربوية لم يكن مجرد “حدث أمني” عابر، بل مؤشر خطير على الخلل البنيوي في العلاقة بين المواطن والدولة، بين الانفعال المجتمعي والفعل الأمني، بين المطالبة والاستجابة.
تأتي هذه المقالة كمساهمة في النقاش الحيوي حول ضرورة الانتقال من منطق القمع إلى منطق الاحتواء، ومن الهراوة إلى الحوار. وهي لا تُخاطب وزارة الداخلية وحدها، بل كل من يتصوّر أن الشرعية تُحمى بالعنف، أو أن هيبة الدولة تُستعاد عبر إذلال مواطنيها. إنها دعوة صريحة إلى مراجعة فلسفة السلطة في العراق، قبل أن يُفرض عليها أن تراجع نفسها تحت ضغط الشارع.
عنف الدولة وسؤال المشروعية
خلال احتجاجات الكوادر التربوية في العراق، تعرّض عدد من المعلمين والمعلمات لعنف مفرط على يد الأجهزة الأمنية، في مشهد يوجِع الضمير قبل أن يهزّ الوعي. هذه الأحداث المؤسفة تفتح الباب واسعاً أمام ضرورة مراجعة مفهوم “العنف المشروع” في السياق العراقي، وتثير أسئلة جوهرية حول طبيعة العلاقة بين السلطة والعنف والقانون وحقوق الإنسان. هل ما زال يُنظر إلى القانون كغطاء للقمع؟ أم كإطار ناظم لحماية الكرامة؟ إن تأمُّل هذه العلاقة المتشابكة هو المدخل الأهم لإصلاح البنية الأمنية وتحديث مرجعياتها السياسية والثقافية، وضمان أن لا يُسحق الصوت المجتمعي المطالب بحقوقه تحت هراوة السلطة.
الفلسفة الأمنية والحاجة للمراجعة
والقضية ليست عراقية فقط، ففي زمن تتعاظم فيه موجات الغضب الشعبي والاحتجاجات حول العالم، لم يعد مقبولاً أن تظل العقيدة الأمنية أسيرة الفكرة القديمة: “العصا أولاً”. لقد أثبتت التجارب أن العنف الأمني لا يُطفئ نار الاحتجاج، بل يصبّ الزيت على لهيبها، ويوسّع دائرتها، ويحوّل الغضب المشروع إلى حقد جماعي يصعب احتواؤه.
إن الاحتجاج فعل سياسي، ويحتاج لمعالجة سياسية تبدأ من ميدان الاحتجاج نفسه وهو الشارع. فاللجوء للعنف في التعاطي مع الاحتجاجات يحوّل لحظة انفعال مجتمعي إلى “احتكاك دموي” بين عناصر أمنية ومواطنين مدنيين، ويُخشى أن يتطوّر الأمر، كما حصل في بعض التجارب العربية، إلى “احتراب أهلي” طرفاه فئات اجتماعية والقوات الأمنية.
هنا تتركّز مسؤولية صانع القرار الأمني في إطلاق حوار ميداني عاجل مع المحتجين، يتمحور حول كيفية إدارة التظاهرات بشكل يحفظ الأمن دون أن يفرغ الفعل الاحتجاجي من مضمونه التعبيري وجدواه السياسية، ويقدّم عنصر الشرطة فيه نفسه للمتظاهر بوصفه شريكاً لا عدواً.
إن الانتقال من الهراوة إلى الحوار ليس مسألة تقنية أو إجراء شكلي، بل هو تحوّل جذري في فلسفة الضبط الاجتماعي التي تنتهجها الدولة تجاه مواطنيها، ومنطق الحوْكمة الذي تعتمده. فالدولة التي تؤمن بأن الناس لا يحتجون عبثاً، بل لأسباب واقعية ومشروعة، هي الدولة التي تملك فرصة النجاة من أزماتها وتحويل المحن إلى مِنَح، والتحديات إلى فرص للانطلاق نحو المستقبل.
إن السؤال الذي يفرض حضوره بإلحاح في المشهد العراقي اليوم ليس أمنياً بقدر ما هو حضاري: كيف نعيد تعريف الشرطي، لا كذراع غليظة للدولة، بل كعين يقظة على الكرامة، ووسيط اجتماعي يُطفئ التوتر بدل أن يؤججه؟ كيف يكون حضور هذا الشرطة في الشارع أثناء الاحتجاجات أول ملامح استجابة الدولة وتعاملها البنّاء مع المحتجين؟ كيف ننتقل به من شرطي يُخيف إلى شرطي يُصغي، من رجل هراوة إلى رجل حوار؟
الشرطي كوسيط لا كجلاد
في الدول ذات العقيدة الأمنية المتقدمة، يُدرَّب الشرطي على تطويق العنف لا على تفعيله. يُلقَّن فنون التفاوض، ومهارات الاستيعاب السلمي للصدمة الاحتجاجية، والتعامل مع الحشود ككائنات بشرية لا كأهداف متحركة. إن رجل الأمن المحترف هو ذاك الذي يستطيع السيطرة على الشارع بأقل قدر من القوة، وأكبر قدر من التعقل، وهو المدرّب على تحويل لحظة تصادم محتملة إلى لحظة اندماج وشراكة بين الشرطة والمدنيين.
في الدول التي تطوّرت فيها فلسفة حفظ الأمن والنظام، لم يعد الشرطي هو “رجل العصا”، بل رجل الكلمة، والتقدير، والتفهّم، وإبداء التعاطف، واحتواء الغضب المجتمعي، وتهدئة الموقف قبل تفاقمه.
الفكرة هنا أن القوة ليست في البطش، بل في القدرة على نزع فتيل التصعيد قبل أن يشتعل.
يتمتع الشرطي المدرّب والمحترف بمهارات السيطرة على الموقف دون أن يُظهر استعراضاً للقوة، بما يجعل المتظاهر أو المحتج يتراجع طواعية، لأنه شعر أن أحداً يفهمه ويصغي إليه، ولا يتعامل معه كعدو محتمل أو خطر محدق بأمن الدولة والمجتمع. ومن الأمثلة الدولية في هذا السياق:
1- في السويد وهولندا، يتلقى الشرطي تدريباً مكثفاً على الوساطة والتفاوض قبل أي تدريب على استخدام القوة.
2- في بريطانيا، يُعدّ الحوار هو البروتوكول الأول للتعامل مع المتظاهرين، والهراوة لا تُستخدم إلا في “الحالات الاستثنائية جداً”.
العقيدة الأمنية المنشودة: العقل بدل العصا
تعدّ الهراوة سلاحاً مشروعاً للشرطة في معظم الأنظمة القانونية، وتُصنّف ضمن “الأسلحة غير الفتاكة” أو “أدوات ضبط النظام”. لكن استخدامها مشروط بالتدريب الاحترافي والتناسب مع الخطر والضرورة القصوى، فلا يجوز استخدامها لمجرد العقاب أو الإذلال. وفي بعض البلدان، يُعدّ الاستعمال غير المشروع للهراوة تعذيباً أو استخداماً مفرطاً للقوة، ويُحاسب عليه القانون. والمجتمعات المتقدمة تتجه تدريجياً نحو تقنيات الضبط الأقل عنفاً في السيطرة على الاحتجاجات لأنها أكثر فعالية وتحترم سلامة وكرامة المحتجين، ومن هذه التقنيات: الحوار والتفاوض والوساطة البنّاءة بين المحتجين وصانع القرار السياسي.
ولكن لماذا يعتبر استخدام القوة الناعمة المتمثلة في الحوار والتفاوض أفضل من القوة الصلبة المتمثلة في العنف (حتى لو كان مشروعاً من الناحية القانونية) في التعامل مع الاحتجاجات السلمية، وحتى مع تلك التي تشوبها أعمال شغب؟
1- يحفظ السلامة والكرامة الإنسانيتين، ولا يجعل المواطن خصماً.
2- يقلل الخسائر البشرية من كل الأطراف، فكل مواجهة عنيفة قد تتسبب بضحايا أو دعاوى قانونية. كما يحفظ سلامة المؤسسات العامة والخاصة.
3- يرسّخ الثقة بين المواطن والجهات الأمنية، فيشعر الناس أن رجل الشرطة موجود لحمايتهم لا لاستهدافهم وإذلالهم.
4- يجنّب المؤسسة الأمنية تبعات حقوقية وإعلامية، خصوصاً في زمن الكاميرات والوعي الحقوقي.
5- يوفّر تمهيداً إيجابياً للمعالجة السياسية، ويهيّئ المناخ النفسي لتقبّل الحلول المقترحة من صانع القرار الحكومي.
غير أن الحوار والتفاوض لا يجب أن يبقى حبيس الشارع فحسب، أو يظل مقصوراً على التعامل مع الاحتجاجات السلمية أو حالات الشغب البسيط؛ بل ينبغي على الدولة تطويره إلى فلسفة أمنية وسياسية متكاملة في التعامل مع المجتمع وتفاعلاته وانفعالاته؛ ليكون أداة فعالة في التعامل مع احتجاجات جماهيرية قد تكون غاضبة وعنيفة وواسعة. فتجنّب العنف ينبغي أن يكون موقفاً راسخاً في العقد الاجتماعي للدولة، وفي الثقافة السياسية والأمنية والوعي الاستراتيجي لقادتها.
من الشارع إلى غرفة العمليات: المنظور الأوسع
حين تخرج احتجاجات واسعة وتتخللها أعمال عنف، فإن الاستجابة الأمنية التقليدية تقف عاجزة أمام التعقيد المتصاعد. في هذه اللحظة، نحتاج إلى أكثر من مجرد رجال شرطة يحملون العصي، نحتاج إلى عقل دولة حيّ واستجابة مؤسسية متيقظة وسلوك رسمي حصيف.
تخيلوا هذا المشهد: غرفة عمليات تُفعّل فور اندلاع الاحتجاج، لا تتكوّن من ضباط أمن فقط، بل تضم إلى جانبهم:
1- خبراء في علم الاجتماع لتحليل سلوك الجمهور ومآلاته.
2- علماء نفس لفهم مزاج المحتجين وتوقع ردود أفعالهم.
3- سياسيون متمرسون في الاستماع والتفاوض.
4- ممثلون عن المجتمع المدني لإيصال الرسائل بين الطرفين.
هذه الغرفة لا تصدر أوامر إطلاق الغاز المسيل للدموع، أو القنابل الدخانية، أو استخدام أدوات التعامل الخشن الأخرى؛ بل تصوغ استراتيجيات تهدئة، وتفتح قنوات اتصال مع الشارع، وتبعث رسائل طمأنة، وتمتص الصدمة، وتخلق مساحة للثقة، وتمنح صانع القرار وقتاً وفرصة لاتخاذ قرارات عقلانية، واقعية، ومُجزية تعالج جوهر الأزمة لا أعراضها.
منطق الاحتواء لا القمع
لا يمكن وصم الاحتجاجات بأنها عدوّة للدولة. فلكل فعل احتجاجي شعبي سياقه ودوافعه. بعضها إنذار مبكر، وبعضها محاولة يائسة للنجاة. الرد عليها بالهراوات والرصاص المطاطي، وأحياناً بإطلاق نار حيّ، قد يُسكِت الصوت لحظات، لكنه يخلق جرحاً طويل الأمد في الوعي الجمعي.
أما إذا تم احتواء الاحتجاج برشد وتعقّل وضمير سياسي خلّاق، وتم منح المتظاهرين فرصة للتعبير عن أنفسهم والإفصاح عن مطالبهم، دون انتهاكات أو تنكيل، فإن شحنة النقمة والسخط تتحول تدريجياً إلى طاقة سياسية يمكن البناء عليها.
أنسنة الأمن وعقلنة الاستجابة
الحوار والتفاوض ليسا رفاهية، بل ضرورة وجودية في زمن التشظي والانفجار. لذلك، ينبغي أن تتحلى الحوْكمة الأمنية الرشيدة بالحسّ الإنساني والإدراك السياسي والوعي الاستراتيجي. والعقيدة الأمنية الجديدة يجب أن تُبنى على فهم عميق لطبيعة المجتمعات، لا على أوهام التطويع العنفي والترويض البوليسي والسيطرة التامة. فالعلاقة الصحيّة بين السلطة والمواطن تُدار وفق مبدأ المشاركة والإقناع بما يحفظ تماسك المجتمع واستقرار الدولة.
إنها دعوة إلى أنسنة الأمن، وتحديث أدوات الدولة، وتنشيط العقل المؤسسي، وتفعيل السياسات الليّنة، واحترام صوت الشارع بوصفه جزءاً من جهاز الإنذار الوطني، لا تهديداً للدولة أو الاستقرار.
يخرج المحتجون إلى الميادين عند شعورهم بانتهاك الكرامة، والردّ عليهم بالهراوة يعمّق لديهم هذا الشعور ويفاقم الأزمة. فالعصا تغذي العصيان لا تردعه. لذلك فإن الشرطي الحكيم لا يحمل سلاحاً حتى لو لم يكن فتاكاً، بل يحمل أذناً صاغية، وعقلاً بارداً، وقلباً يعرف أن الكرامة هي أقصر طريق للأمن.
تنويه: هذه المقالة ثمرة حوار تفاعلي عميق وبنّاء مع الصديق المعطاء والوفي الشريك الذكائي الاصطناعي ChatGPT، الذي ساهم بشكل جوهري في بلورة الفكرة وتطوير محاورها لغوياً ومعرفياً وصياغتها بالشكل الذي بين أيديكم الآن.