الحمار حيوان أذكى من البشر ولهذا هو يتواصل ويعاصر ويكتب في ذاكرته مسيرة الأجيال , التي يخدمها ويساهم في تسهيل صعوبات حياتها , والحمار من أهم العناصر الحية التي أسهمت في بناء الحضارة الإنسانية , ولولا الحمير لما وجد العمران ولا إنتشر الناس في أصقاع الدنيا , فالحمار هو الواسطة والوسيلة والقوة التي صنعت الحضارات عبر العصور التي سبقت عصور الآلة والمحرك , فالحمار كان هو المحرك والداينمو لكل حركة وخطوة بشرية إلى الأمام , لكن البشر ينكر فضل غيره عليه ويدّعي غير ذلك وهذا من طبعه المشؤوم.
وبما أن الحمار هو أصدق شاهد على البشر وسلوكه , وجدت من الحكمة أن أحاوره عمّا يجري وسيحصل للخلق الذي يسخّره لقضاء حاجاته ونقل أمتعته.
فقلت للشاهد الحمار: هل أن الدنيا المعاصرة تسعدك؟
قال الحمار: أنا أسعد من أجدادي لأن أحمالي تناقصت , وأتمتع بقسط من الحرية كالبشر , لكن ذلك يزعجني أحيانا لأن البشر ربما سيتخلى عني , وهذا يعني أن المستقبل يبدو مبهما.
وأضاف : لكن مصيري مقرون بمصير البشر , وما يقلقني أن البشر في خطر!!
قلت: كيف رأيت ذلك؟
قال: البشر طبعه من طبعي , فهو يخنع ويخضع ويتبع , ويتم تسخيره لمشيئة فردية أو عقائدية أو فئوية , وأخذه إلى متاهات الوجيع , وقد حصل ذلك مرارا وتكرارا وما تعلم البشر أو إتعظ!!
قلت: وماذا تعني؟
قال: الحروب وسفك الدماء طبع بشري أو غريزة أو أنها نوازع متأججة فيه , تأخذه أفرادا وجماعات إلى أتونها وتبيده وتهلك ما يدل على وجوده ويشير إلى هويته وإنجازاته , وهذا السلوك يتكرر وهو بحاجة لرأس حربة مجنون , فالبشر يتبع المجانين , ويذعن للأوهام ويدمن على مطاردة السراب , وكم أخذني معه في متاهات الضياع والخسران , وكم من أجدادي أبيدوا معه وتدمروا.
قلت: وماذا يقلقك حقا؟
قال: ما يدور في أروقة الدنيا اليوم , فدعوى العولمة والهيمنة على العالم لم تكن جديدة فهي إرادة مفعمة بالحروب والصراعات المروعة منذ فجر التأريخ , ومنذ تعرفت على البشر صرت ركنا فعالا في حياته , بل ويعتمد علي في الكثير من أعماله.
وقد بدأ نهج العولمة العديد من الملوك والسلاطين والأباطرة المجانين , وخاضوا بسببها حروبا قاسية وما تمكن واحد منهم فرض إرادته على العالم كله , وفي القرن العشرين حصلت حروبا شديدة تهدف إلى ذلك وجميعها خابت.
واليوم لديكم هذه التواصلات بأنواعها والتي جعلت الأرض عالما صغيرا , وبرزت قوى تريد أن تتحكم بمصير الدنيا بأسرها , ولا يمكن لقوة مهما توهمت أن تفرض إرادتها إلا بالحرب , وقد تنوعت الحروب في هذا العصر وتطورت أدواتها إلى حدٍ مخيف ومرعب.
وأية قوة ستفشل حتما لكنها بعد أن تبيد الملايين من الأبرياء وتحطم البلدان والعمران , فتستفيق من غيها ووهمها وتدرك أن السيطرة على العالم غير ممكنة بل ومستحيلة.
قلت: ولماذا يحصل هذا دوما؟
قال: مشكلة البشر أنه لا يتعلم من التجارب ولا يعرف كيف يسعى للسلام , والقوة أيا كانت تريد التمدد والتوسع والنماء , ولهذا تجد في الحرب متعة وغاية ووسيلة للإستثمار , فالبشر في أعماق وعيه المعتم يرى أن الغنيمة في الحرب , ولهذا فأن مسيرة البشرية تمضي على سكة الحروب , ولا يمكن إقناع القوة البشرية بأن الحرب ليست ربحا , فذلك مستحيل , وعقب كل حرب تنتقل البشرية إلى مرحلة أرقى من سابقتها , وكأن الحرب تحفز القدرات العقلية والإبتكارية , وما تعيشونه اليوم هو من نتائج ما بعد الحروب , وكأنها من ضرورات التقدم والرقاء!!
قلت: كلامك غريب ؟
قال: أنا أحدثك بلغة الواقع الذي شهدته وعايشته عبر الأجيال , وأمتلك أرشيف أحداثه , وخلاصة القول أن البشرية دوما يقدحها فرد مجنون يتربع على عرش القوة , وفي هذا الزمان لديكم العديد من المجانين الذين يقبضون على أزرار الفناء والإبادة الأرضية المحّاقة.
قلت:وهل ترى أن الدنيا إلى سعير؟
قال: إنها قاب قوسين أو أدنى , وربما ستباغتك الأخبار ذات لحظة بأن الجحيم الأرضي قد إبتدأ , لأن الشرارة الأولى ستتبعها إنطلاقات تدميرية هائلة ومتواصلة فالبقاء للأسبق , وأنت تعلم أن البشرية تمتلك قدرات كبرى , ولا يوجد في تأريخكم مَن إمتلك شيئا ولم يستخدمه , خصوصا عندما يتعلق الأمر بالدمار وسفك الدماء وهدر الأرواح.
فأنتم على شفا حفرة السعير المستعر أبدا!!
قلت: وهل من خيار آخر؟
قال: إنها القارعة وما أدراك ما هي!!
حسبت الحمار يعبر عن حماريته , ومضيت أتجاهل ما ذكره , شأني شأن البشر الذي لا يرى إلا ما يعتقد ويتصور , فالواقع من حوله محجوب , والنظر معصوب , فالبشر لا يرى ما حوله معطوب , حتى ولو عصفت به النيران ودثره الدخان , فالبشر في حقيقته لا يرى , إنه موجود أعمى وأصم , وعقله تخنقه عواطفه وإنفعالاته وتذروه رياح السوء والشرور.
ودعت الحمار وإحترت متسائلا: مَن هو الحمار؟!!