اثناء ترحالي خارج بلدي يوما هنا ويوما هناك لفت نظري كثرة المنحوتات والتماثيل في الحدائق وفي زوايا مختلفة من الطرق وعلى أكتاف الأنهار وغيرها. تماثيل بسيطة تجلس على قواعد أكثر بساطة ولا تكاد تفهم شيئا من وجودها مالم تقرأ تلك الكتابات على قطعة من المرمر أو الحجر تحكي قصة هذه المنحوتة او هذا التمثال . وحين تقرأ خلاصة ما مكتوب تدرك ان هذه المجسمات والأشكال تخلّد اشخاص تركوا بصمات بصيغ مختلفة على صفحة من صفحات الحياة , منهم من عاش على هامش الحياة في قرية منسية او حي في اطراف مدينة تكاد لا تجد له مكانا على الخرائطولكنهم تمتعوا بصفة أو صفات جعلت من عاشروهم قد استحسنوا صفاتهم , وربما بعض التماثيل لا تجسّد ولا تخلّد شخصا ما بل تخلّد حدثا وليس بالضرورة أن يكون حدثا كبيرا. من هذه المنحوتات والتماثيل تدرك ان من صنعها يعطي تعظيما للانسان مهما بلغت بساطته طالما في تصرفه يجسد صفة مقبولة من صفات الانسانية البناءة. ان الكثير من هذه المنحوتات والتماثيل تحاكي قصص واقعية لمسها الناس في الوقت القريب وربما لا زالت موجودة تعيش معنا.
أما الساحات الكبيرة والحيوية في المدن فهي مخصصة لتلك المنحوتات والجداريات والتماثيل التي تخلد أشخاص كانت لهم بصمة كبيرة ربما ليست في صفحة واحدة وانما في عدد من صفحات الحياة , أو تخلد حدثا كبيرا من خلاله تغيرت حياة الشعب او الأمة من حال الى حال أفضل.
في قرارة نفسي كنت أدرك ان المجتمعات التي افرادها يفكرون بهذه الصيغة هي مجتمعات تبني قواعد صحيحة من التفكير لتجعل عمل الانسان وافعاله هي الخالدة وبالتالي فإن هذه المنحوتات والتماثيل تعطي دروسا للنشيء الجديد عندما يستفسر عن سبب وجودها , وبذلك فهي تضيف دافعا تعليميا لدوام ثقافة الحفاظ على مجتمع منضبط وفي مستوى راقي بعيد عن الفوضى.
لقد علمت ان الكثير من هذه المنحوتات والتماثيل لم يقوم بتشكيلها النحات الفلاني او الفنان التشكيلي الفلاني , بل قدّمها بعض العامة من الناس بإمكانيات بسيطة مقبولة مستحصلين الموافقات الاصولية من وجودها في أماكنها. تصوّر ان فرد من المجتمع او مجموعة افراد يحملون مستوى من التقدير لفعل يقدمه شخص معيّن مهما كانت بساطته يعطي دافعا لهم ليجسدوه في منحوته او تمثال يروي قصة هذا الفعل ويخلده.
في بغداد الكثير من التماثيل والمنحوتات قد أخذت شهرتها وهي لا تجسد الواقع بل تحاكي شخصيات وقصص خيالية مأخوذة من موروث شعبي خيالي , فجدارية البساط الطائر وتماثيل شهرزاد وشهريار والاربعين حرامي وحورية البحر والفانوس السحري وغيرها الكثير منحوتات وتماثيل مأخوذة من قصص خيالية جسدها النحات او الفنان التشكيلي العراقي وأخذت مواقعها في أماكن وساحات بارزة وكأن الموروث العراقي مرتبط في هذا الجانب من الوهم والخيالأكثر مما هو مرتبط بأحداث تمس حياة الشعب من ثورات وانقلابات وحروب وأحداث وطنية.
بالتأكيد أنا لا اتكلم عن الجانب الابداعي والحرفي في تشكيل هذه المنحوتات والتماثيل فهي في مستوى عالي.
عندما ننظر الى جدارية الحرية على سبيل المثال لا الحصر. تلك الجدارية التي تجسد مرحلة نضال حقيقية واقعية من حياة الشعب العراقي وقد أخذت مكانها الصحيح في ساحة رئيسية من ساحات بغداد حينها ندرك أننا بحاجة الى منحوتات وجداريات أكثر تمس واقع حياة المواطن العراقي وتجسد طبيعة الأحداث التي يعيشها.