23 ديسمبر، 2024 6:29 ص

من الواضح من خلال تجربة السنوات الماضية منذ ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 لحد الآن وتعاقب الحكومات التي يفترض أن يكون قد تم انتخابها من قبل الشعب العراقي إن منافذ الفساد في البلاد أصبحت كثيرة ودخلت في كل التفصيلات اليومية ولا تحتاج الى كثير عناء حتى تثبت ذلك وهو يتضح ببساطة من خلال الموازنات السنوية العملاقة التي لم يقدم احد حساباتها الختامية خلافا لما اقره القانون الخاص بها ولم يطالب به احد لا من السادة أعضاء البرلمان كأحد أهم واجباتهم وخصوصا اللجنة المالية فيه ولا من أي جهة غيرهم ولا تستجيب وزارة المالية إذا طالبها احد به ولا يوجد لهذه الموازنات تأثير واضح في البنى التحتية ولا الخدمات التي من المفترض أن تكون الحكومات المتعاقبة ملتزمة في تقديمها للشعب كجزء من أساسيات وجودها وعملها وحسب ما حدده الدستور العراقي الجديد وعلى الرغم مما يعلنه السادة المعنيين بما فيهم السادة أعضاء البرلمان إن اغلب منافذ الموازنة هي تشغيلية أي تذهب الى المواطن على شكل رواتب ومع إن هذا نص وارد في الدستور بان على الحكومة ضمان حق العمل للمواطن إلا انه مجرد محض افتراء عاري من الصحة ومهما بلغ عددهم فأغلبية أبناء الشعب الذي يصنف على انه يد عاملة ما بين عمر الثماني عشرة عام الى عمر الستين يشكلون جيوشا من العاطلين عن العمل خصوصا من هم في ريعان الشباب من كلا الجنسين من هم دون سن الثلاثين عام ومن كل المستويات إبتداءا من الأمي غير المتعلم صعودا الى حملة الشهادات العليا الماجستير والدكتوراه وخصوصا من غير المنتمين الى الأحزاب السياسية المشاركة في العملية السياسية الحالية وبالأخص أكثر من طبقة الفقراء الذين لا يستطيعون الدفع للأشخاص المعنيين بالتوظيف بالوزارات وشراء التعيين وهذا ما تسبب الى حد كبير في ما يمكن اعتباره ركود اقتصادي عام وهبوط في مدخولات العائلة العراقية وتسبب في الهبوط بها الى مستوى ما دون خط الفقر.

إذا اعتبرنا كما هو معرف عالميا إن معدل دخل المواطن يقاس من خلال توزيع إجمالي مدخولات الحكومة على عدد مواطنيها تقدم على شكل أجور ورواتب مباشرة للعاملين في أنشطة الحكومة المختلفة الخدمية والإنتاجية إضافة الى القوات الأمنية التي تعتبر استهلاكية أيضا أو على شكل خدمات تشمل كل جوانب الحياة اليومية للمواطن كالكهرباء والماء والمجاري والصحة والتعليم والسكن غير الموجود أو كدعم للمواد الاستهلاكية المهمة وما شاكل فان هذا لا يمكن أن يكون مقياسا معتمدا في العراق لان الأموال لا توزع على المواطنين بأية طريقة ولذلك دلالات واضحة تكشفها وتعريها التظاهرات المستمرة تقريبا بشكل يومي في كل المدن العراقية والقصبات وأمام مقرات الوزارات وكحقيقة واضحة إن كل تقصير يستوعب شرحا لا تغطية مجموعة جمل أو كلمات محدودة في مقالة مختصرة مقابل صمت مطبق من الحكومة التي اعتادت على السكوت وفي أحسن الأحوال تقدم وعود التسويف أو المماطلة أو ترحل المطالب الى المستقبل لتكون في علم الغيب فجيوش العاطلين عن العمل تتظاهر مطالبة بفرصة عمل ومن يعمل يطالب بإنصافه بالأحر الذي يتناسب مع عمله وكل المواطنين يطالبون بتحسين الخدمات الطبيعية البسيطة وتحسين البنى التحتية التي بدأت تنهار لأنها قديمة تم انجازها حين كان عدد نفوس العراق لا يتجاوز الخمسة عشر مليون قبل عام 2003 واليوم أصبح فيه ما يقارب الأربعين مليون إنسان وهي لا تناسب حركة التطور العالمية الحضارية ومهما حاولت البحث في أبواب إنفاق الأموال العراقية التي تعتمد الى حد كبير على مبيعات النفط بنسبة تصل الى 95% من مجموع إيرادات الحكومة المالية ستجد نفسك تدور حول نفسك في نفس النقطة.

إن من المؤلم حقا انك تجد جميع الحكومات التي تشكلت بعد عام 2003 قد أهملت البنى التحتية من جهة واعتمدت على مبيعات النفط ولم تسعى الى تنمية أبواب وارداتها الأخرى كمردودات المعادن المتوفرة والصناعات المحلية وان كانت بسيطة ولم تعمل على رفع رصيدها المالي من خلال تطوير المعامل المحلية فأقفلت آلالاف منها أبوابها أو قد تم بيعها الى القطاع الخاص كاستثمار وتعرضت الزراعة الى كوارث مدمرة وصلت هذا العام الى إحراق منتجات البلاد خصوصا آلاف الهكتارات من مزارع الحنطة بعد أن نضجت وحان موعد حصادها من جهة وتدمير الثروة الحيوانية كما حصل مع الأسماك بل وحتى وصل الى مناحل العسل فأصبحت البلاد عبارة عن مستورد لكل شيء ومنفق للثروات وطارد ومنفق للأموال ومن المؤكد إن هناك أشخاص هم أرباب الفساد ويتمتعون بحماية تفوق قوة تطبيق القانون ينتفعون من هذا التدمير المتعمد.

إن العراق يتمتع بثروات هائلة جدا لا تنفذ وبدلا من تنمية اقتصاد البلد وتطوير موارده وتحويل البلد الى منتج لا نقول يصدر وإنما يسعى الى الوصول الى الاكتفاء الذاتي كما كان حاله قبل الغزو الأمريكي عام 2003 أيام الحصار على البلد نقول تحول البلد مع الأوضاع الحالية الى مستهلك لكل شيء ومستورد لكل شيء وهي لا تغطي الحاجة المحلية والاهم من هذا ومنذ ذلك العام الأسود إن الحكومات المتعاقبة قد عمدت الى الاتكال على شبكة سماسرة عراقيين وأجانب يتغلغلون في مفاصل الأجهزة الحكومية ويحققون أرباح بمليارات الدولارات لمنافعهم الخاصة مع استيراد أردأ أنواع البضائع وبأغلى الأثمان بما فيها ما يستورد لصالح وزارتي الدفاع والداخلية ولعلنا نتذكر صفقة الطائرات الكندية وأجهزة تفتيش وفحص المتفجرات في السيطرات البريطانية المنشأ وغيرها الكثير الذي تحفظه ذاكرة أي عراقي بسيط وغير متتبع للفساد ناهيك عن تعطيل دور هيئات التفتيش والتقييس والسيطرة النوعية.

من المؤلم أن الأموال العراقية أصبحت نهب لكل من يطالها ولا يمكنك أن تستثني أي مجال صغير أو كبير توجد فيه منافذ صرف إلا وصار محل نزاع للاستحواذ علية والجهات السياسية المتنفذة تحمي الفاسدين دون أن يقدم للبلد شيء يذكر حتى بات الفاسد لا يتحرج ولا يخجل من فساده وأصبحنا نخجل أن نقول نحن أحفاد أول من شرع القانون وأسس العدالة على الأرض وتمزقت إمبراطورية كانت بغداد عاصمتها لا تغيب عن أطرافها الشمس وأمسينا نخاف أن يطال التمزيق بقايا تلك الدولة العظيمة.