15 نوفمبر، 2024 7:57 ص
Search
Close this search box.

مناظرة بين عرب قبل الاسلام .. وحركة الكون التاريخية

مناظرة بين عرب قبل الاسلام .. وحركة الكون التاريخية

ان التطرق الى حركة التاريخ عند العرب قبل الأسلام، تشابهت في فكرها مع افكار الاغريق في نظريات الكون في التاريخ . وأستجابة لطلبة الاخوة المطالبين بمعرفتها ، وفائدة القراء والمثقفين منها،سأحاول التطرق لما طلب مني على القدر والاستطاعة الذي يسعفني فيه الحظ من ارضائهم وارضاء القراء الكرام فأقول:

ان ما وجدته في نظريات عرب قبل الأسلام في الحركة الدائمة للكون في التاريخ شيء يكاد لا يختلف عما طرحته الافكار الاغريقية التي تقول بنظرية الصراع بين الوجود والموت وبهما تستمر الحياة فكلاهما وجود .ألم يقل القرآن 🙁 الذي خلق الموت والحياة ،سورة الملك 2)،،فهم أقرب الى الواقع الملموس حين تحدثوا عن ادخال مفهوم التاريخ في الحركة الكونية الدائمة.، فقالوا : ان حركة الكون وتعاقب الليل والنهار هو سبب الحياة والموت ،متمثلة في البيت الشعري القديم الذي لم اعثر على قائله في الموسوعة العربية لعرب الجاهلية والذي يقول:
منع البقاء تصرف الشمس وطلوعها من حيث لا تمسي

وهي فكرة اخذوها من الحياة الصحراوية المتشابهة التي اوحت لهم بتعاقب الليل والنهار، ومنه استمدت فكرة الموت والحياة وحتى النهاية.ويبدو ان عرب قبل الاسلام احسوا بفكرة الزمن وحركته ،لانها بنظرهم اقدم من فكرة التاريخ والاحساس به متمثلا بقول شاعرهم ابن العبادي:
من رأنا فليوطن نفسه انه موفٍ على قربِ زوالِ
عصف الدهرُ بهم فأنقرضوا وكذلك الدهر حالا بعد حالِ
هنا نرى ان الفكر العربي القديم في الزمان يقوم على أتجاه واحد هو الحياة والموت ، ولا رجعة بعده. وهذا هو سر التقدم عند حضارات القدماء..؟ فهل الدين كان عائقاً في تقدم العرب..؟ لم يكن الدين عائقا ،بل استخداماته المبالغ فيها كانت ولا زالت هي العائق..؟فماذا لو كنا بلا دين …
ألم نكن اليوم مثل اليابان والصين..؟

وعند العراقيين القدماء، ابتداءً بحضارة السومرين وأستمرارا بالحضارات العراقية المتعاقبة ،كان الموت هو نهاية كل انسان،وان الخلود غير ممكن الا للآلهة الوهمية عندهم،وسوف يلاقي الانسان حتفه مهما بلغ من قوة ، وتقدم ملحمة كلكامش تأكيداً على ذلك .كما اعتقد العراقيون القدماء بوجود آله للموت أسمه (اككاي)، كما نعتقد اليوم
2
بالمَلَك عزرائيل قابض الارواح ، وهو موجود منذ بداية وجود الخليقة. من هنا يبدولنا ان العراقيين القدماء آمنوا بالموت كنهاية حتمية لبني البشر، فحاولوا البحث عن الخلود الدنيوي،والتفكير به هو الذي عكس َالأبداع عندهم ، لذا أجتهدوا بأن يخترعوا أكسير الحياة لأستمرارها دون موت ، بعكس المصريين الذين آمنوا بالخلود الدنيوي والاخروي معاً ، لذا احتوت مقابرهم على كل ما يخص الميت من متاع الدنيا ،بعكس العراقيين الذين كان فكرهم فكرا علمانيا بعيدا عن التوجه الديني منذ القدم.( أنظر الدراسة البحثية الموثقة للدكتورة أزدهار العبيدي). ويبدو ان عرب قبل الاسلام قد سايروا العراقيين منهجهم في الحياة والموت لأنهم منهم .لذا فان التوجه الديني عندهم كان باهتاً منذ القدم.
فماذا لو أستمرت حياتهم بلا دين كما قلنا ..؟

لكن مجيء الاسلام قد غير هذا التوجه تماما كما أصبحنا نعتقد ،حين ادخل الأسلام على الفكر العربي عمقاً بالغاً بالاحساس بالحياة والموت والبعث والحساب بعد الموت، يقول الحق:(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسنُ عملا،الملك2).. ومن القرآن الكريم تعلم العرب كيف يفكرون بامور الدنيا تفكيراً منطقياً،فجعلوا للحياتين الدنيوية والاخروية مقاييس معينة للتعامل معهما،ومن هنا تولدت عندهم نظريات الخير والشر المرتبطة بالقيم المعنوية. لكن مؤسسة فقهاء الدين التي بالغت في النص ،وأخترعت المذهبية الأجتهادية حولت الفكرالاسلامي الناصع الى تخريف …؟

بهذا التوجه القرآني نظروا الى حياة الافراد والشعوب ومراحل النمو والنضج والانحدار الى الشيخوخة وحتى الفناء بنظرة واقعية، وهوالموت الحتمي للنفس البشرية.وبالتدريج بدأت فكرة دائرة الحياة والموت تتوضح في اذهانهم حتى شملت الافراد والجماعات والدول ومراحل النشوء والارتقاء والتلاشي بالموت ،حتى عبر بعض شعرائهم عن ذلك بقول شاعرهم شريف الرندي:
لكل شيء اذا ماتم نقصان فلا يغرُ بطيب العيش أنسانُ
هي الامور- كما شاهدتها- دول من سرهُ زمن ساءته ازمانُ

ويبدو ان نظريات الكائن الحي التي تولدت في العقل العراقي والمصري القديم قد صبت في عقل الجاهلية الاولى ، فأصبحت اعتقادا لازما لها في نظرية الحياة والموت ،وظلت نظريتهم تدور في فلك واحد كما كانت في نظرية المؤرخ الروماني ( توكيديد) الذي قال انه لا جديد في حوادث التاريخ ، وان كل الاحداث مكررة في الحياة الانسانية وفي دائرة واحدة لا تختلف ابدا.
من هنا ظهرت نظرية الدائرة المنفتحة في التاريخ
3
ولو نظرت في فلسفة الفرس والهنود ترى نفس الاتجاه عندهم حين أغتر عظماء الفرس بقوتهم وسلطانهم الى ان حان وقت الافول (أنظر وصية أردشير لمحققها الدكتور أحسان عباس ) التي حذرت الفرس من الأغترار بالدنيا والجاه والسلطان – ياليتهم يتعضون اليوم نحو شعوبهم ويتركون التطلع نحو الأخرين- فلم يعد لهم من قوة او سلطان. فكان الموت نهاية لهم.

وفي الحضارة الهندية اراء متشابهة لما عند العراقيين والاغريق القدماء ،حين قامت فلسفتهم الحياتية على الدعوة الى الفضائل والتخلي عن الرذائل والوصول الى الكمال،ونادت بالسعادة الروحية والنفسية عن طريق السلوك الحسن وتصفية القلوب في الحياة الدنيا،لكن ما يُعتقد فيه بالبعث والعودة ظل مبهماً عندهم،وهنا تشابهوا مع العراقيين القدماء تماماً. وما ندري لربما ان السومريين هم من أصل هندي ..؟

لكننا نجد تشابها بين الحضارتين المصرية القديمة والصينية القديمة ،فكلاهما سارا في مسارٍ واحدٍ من حيث الاعتقاد بالموت والحياة وعظمة الاباطرة والفراعنة،مع الاختلاف في البعث والحساب، والرباط المقدس عندهم . ويبدو ان الاكثر تشابها بين الحضارتين ، المصرية والصينية القديمة ،كانوا على خلق كريم وامانة وسجايا طيبة فيما عدا استبداد سادة البلدين بالحروب والهيمنة على الناس،ودكتاتورية الحكم المطلق( بناء الأهرامات مثالا)، فلم تنفع معهم حتى نصائح الانبياء،و.يتجلى ذلك من المحاورة بين الفرعون وموسى (ع)،حين يطلب النبي موسى من فرعون الاعتدال في التصرف مع الشعب ،فيرد عليه الفرعون مستهزئأ به، يقول الحق:( فقال له فرعون أني لأظُنكَ يا موسى مسحورا،الاسراء 101)،ويرد عليه موسى : (وأني لأظنكَ يا فرعون مثبورا،الأسراء 102) فأنتهت حياة الفراعنة بالصورة المزرية كما جاءت في القرآن الكريم باغراقهم في بحر الظلمات.

فهل يستفيق من يحكمون الوطن العراقي اليوم بالخطأ والأستغلال من تحذيرات التاريخ والقرآن الكريم…؟

ويبدو ان ابن خلدون قد استمد نظرياته في دورة العمران والكائن الحي المتجدد من نظريات القدماء دون تحديد،لكن ابن خلدون لم يحالفه النجاح في نظرية الكائن الحي الذي عده ينتهي بانتهاء الحضارة ،فالكائن الحي متجدد من الاب الى الابناء في دورة الكون المستمرة التي لا تنتهي .

وعلى الجملة فأن الجذور الحضارية لكل شعب ترسم الخطوط الرئيسية لتطوره السياسي والاجتماعي والفكري لما يلي من الاجيال والحقب التاريخية .

4
وخلاصة القول :
اذا كان المصريون يعتقدون بالموت والحساب والبعث والحياة ،فان العراقيين القدماء اعتقدوا بان الموت هو نهاية البشر،بعد ان تنفصل الروح عن الجسد،فالجسد يستقر في القبر والروح تنزل الى العالم السفلي وتبقى مقدسة قدسية الأنسان،وفي عالم الاموات والذي سموه (اورالو ) وتبقى هناك الى الابد ،ولم يعتقدوا بقيامة او رجعة او حساب.لذا فان الاهتمام بالحياة الدنيا عندهم كان هو الهدف،حين غاب عن تفكيرهم الحساب والعودة ،لذا اتجه التفكير العراقي نحو السعادة الحياتية ،فانتج حضارة فاقت حضارات الاخرين ،فمنهم ظهرت الكتابة والقلم والعربة التي يجرها الحصان والاسطرلاب وادوات الجراحة والتجميل.
فماذا لو استمرت حياتهم بلا دين..ألم يكونوا أحسن من الصينيين واليابانيين ..؟

اما معابدهم فكانت تختلف عن معابد المصريين التي وجدت لرعاية الفرعون وتمتعه بالحياة الدنيوية من رقص وغانيات،فقد كانت المعابد العراقية في غالبيتها دورا للقضاء وتعليم الكتابة والقراءة والحضانة للاطفال ، ولم ترتسم عليها علامات الفحش والتردي ،فقد كان للمرأة مكانة التكريم عندهم وهي متحررة من القيود (أنظر قانون حمورابي 1750 ق.م في حقوق المرأة .وهذه ظاهرة علمانية تميزت حضارتهم فيها،وكان العلم والقلم والانسان هم الاساس وليس الالهة والملوك وكهنة الدين ،(أنظر المرسوم الملكي الذي اصدره الملك نرام سن الذي منع بموجبه رجال الدين من الاشتراك في السياسة، رغم مكانتهم المقدسة عندهم،ان ما خلفوه العراقيون القدماء من مخلفات حضارية وكتب وسجلات وقوانين خير شاهد على ما نقول.
من هنا كان القصد من سرقة المتحف العراقي في 2003 لأماتتنا حضاريا،وهي سرقة مقصودة وبرضا كل المرافقين للتدمير.
.
لذا من يعتقد انه بأمكانه تحويل المجتمع العراقي الى مجتمع ديني بحت على الطريقة المتزمتة والمتخلفة لمؤسسة الدين اليوم …فهو واهم،لان فكرهم يتناقض مع الفكر الديني المتزمنت منذ الازل.لكنهم لو عاصروا الدين وطبقوه بعصرنة حديثة تتلائم ومنطق النص الديني الرصين لكانوا اليوم مثل المتقدمين .

لا يزال غالبتة العراقيين يعتقدون بدورة التاريخ على الطريقة السومرية القديمة، وكلما أتموا الطواف فيها مرة بدأوا فيها من جديد (نظرية تقليد دورة السنة عندهم). فكر علماني صرف تمتع بالانفتاحية وقراءة المجهول ،لكن فكرهم ظل قلقاً مصابا بالحزن العميق نتيجة الفيضان المستمر عندهم وتدمير الزروع ، ونكبات الغزوات من المجاورين الشرقيين،فطبع عاداتهم وتقاليدهم وحتى اشعارهم واغانيهم به ، وبقي
5
العراقي يثور دوماً لاتفه الاسباب، لما اصابهم من نوائب وغزوات وتدمير عبرَ العصور،ولا زالت تتكرر عليهم الى اليوم نتيجة أختلافات أفكار فقهاء الدين الذين جاؤهم بنظريات التمذهب الأجتهادي الفردي ، التي لا اصل لها في دين ..؟
،فهل هذا التوجه الحالي …سيبقى هو قدرهم…لا أظن..؟

ان من يتولى حكم العراق بعد قراءة التاريخ قراءة متأنية ،سوف يجد شعبا قويا جسوراً ومضحياً ونابهاً،ملتصقاً بالارض والوطن يستطيع ان يحقق المستحيلات( أنظر بطولات تحرير الموصل اليوم )،لكن اين هم القادة الذين من هذا الطراز من البشر الذين يؤمنون بالوطن . مع الأسف لا قادة كريزماتيين يحكمون الوطن العراقي اليوم ..لذا استبد به الطامعون ..؟
لقد برهنت احداث ما بعد 2003 قوة عزمهم وشكيمتهم في حب الحياة والوطن ، رغم كل ما تبذله قيادتهم ضدهم وضد وطنهم قاصدة السلطة والمال والأ لماذا تدميرالوطن ،ونهب المال العام والتساهل في الثوابت الوطنية مع الأخرين..فماذا لو كانوا العكس..اما احسن لهم ولتاريخهم عند العراقيين والأخرين.. ولسجل التاريخ لهم نبراسا لم تمحوه السنين..فرق بين الجاهل والعاقل كبير…؟.

…ودعنا من مقاصد الدين. كل التاريخ يحدثُنا ان لا مكان لخونة الأوطان في دين أو وطن..لكن مكانهم دوما في النهاية يكون في مذمة التاريخ.. أين المغول والعثمانيين…؟

ويبقى العرب منذ عصر قبل الاسلام من المساهمين في صنع الحضارة العالمية منذ القدم ،اما ما ألصق بهم بالجهل والجاهلية فمرده الى الجهل بالدين على رأي المؤرخين –وياليتهم باقون بلا دين متزمت على طريقة المذهبيين – بينما هم لا يختلفون عن الشعوب الاخرى حضارياً ،ولا نبالغ اذا ما قلنا كانوا على رأس المتقدمين.

أنظر كتب الحضارة للدكتور حسين مؤنس ص149 وما بعدها.
دائرة المعارف العربية الاسلامية .
قوانين حمورابي وسلطة نرام سن.

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات