الغربة ليست دائما كما يظنها البعض هي قارب النجاة من الموت والمنقذة من الحياة المليئة بالمعاناة والمآسي والحروب وويلاتها التي تعاني منها بلدانهم، ففي بعض الأحيان تكون الغربة أقسى بتفاصيلها من كل الأسباب التي جعلت المهاجرين يتركون بلدانهم ويركبون المخاطر منشدين لحياة أفضل!!، لكنهم يصدمون بالواقع فيختارون أما الضياع في بلد الغربة أو الموت إنتحاراً أو العودة من حيث أتوا !!!.
وهناك معاناة في الطرف الآخر لمن تركهم المهاجر في بلده من أهل وأحباب خاصة الأم والأب والإخوة والأخوات أو ربما الأبناء والزوجة أو الزوج.
ولقد شاهدتُ وسمعتُ مقدار الحزن الذي يتركه عزيز مهاجر في أفئدة محبيه وهو في الغربة، وهذه المناجاة لأم تعرض فيها حنينها لولدها التي أصبحت رؤيته بمثابة حلم صعب المنال بالنسبة لها!!!، وهي ليست أبيات شعرية كما قد يظنها البعض وإنما مناجاة من القلب الى القلب بين الأم وفلذة كبدها بلسان عفوي صادق نقلْتهُ عن لسانهما ووضعْتهُ في صيغته الأدبية، فماذا قالت الأم لإبنها معاتبة:
بَسْ تعال وشوف إسوّه بيه فراگكْ ـ ـ
وشوف دمعة عيني اللي أبد ما جفّت بصحرا غيابكْ ـ ـ
تعال واگعِدْ بحضني الما أبد يوم بُرْدَتْ بي دُفو اجنابكْ ـ ـ
تعال يا وليدي ولا تخلّي الهجرْ يقسّي عليك أحبابكْ ـ ـ
ما أدري شگد بُگه من العمر حتى أحرگه جوّه عتبة مداسكْ ـ ـ
تعال ولا تخلّي االغربة تنسيك وجه أمك الذِبْلتْ إخدوده بعد ما چانت تضوي (چِدامكْ) ـ ـ
تعال وودّع أمك گبلْ ما ياخذها الموت بشهكه أبعادكْ ـ ـ
رد الإبن قائلاً:
مِنْ گلچ يا يمّه آني مرتاح بغربتي ـ ـ
كل يوم أديحنْ بالدرابين وتعالي وشوفي دَمعتي ـ ـ
أبد لا تظنين ناسي دفو إحضانچ، عدما البَرِدْ يلسع وجنتي ـ ـ
غريب وعايش بين الخَلَكْ أستجدي خبزتي ـ ـ
وگلبي هَلْ تَرفْ واگف على شعرة حلم رجعتي ـ ـ
تشوفيني يا يمّه بالصور أضحك!!، وما تدرين بحسبتي ـ ـ
نعم هذه هي الحقيقة لإحدى مآسي الغربة، فهنالك من يعاني من الطرفين بعد أن غزت الحروب دولاً عديدة وشردت العائلة الواحدة بين الدول والأمصار البعيدة، فقسمت أجزاء الجسد الواحد للعائلة وقذفت بها بالإتجاهات الأربع للمعمورةِ!!، فبات التلاقي حُلم يراود الجميع فيدفعون ثمنه في كل لحظة ودقيقة، وقولي الأخير أستعيره من هذا البيت الشعري لإبن الملوّح، فقد يعطي أملاً لطالبيه: “وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ـ ـ يظنان كل الظن أن لا تلاقيا”.