تزاحم العشرات أمام المدرج الصغير المفضي الى قاعة المؤتمرات الصحفية في دائرة الإعلام بوزارة الخارجية السوفيتيّة، وبدت علامات تساؤل كبيرة على وجوه ممثلي وسائل الاعلام الأجنبية والسوفيتية؛؛
ماهو موقف موسكو من غزو حليفها صدام حسين لإمارة الكويت الصغيرة.
كان اسم الدولة الخليجية ارتبط في أذهان الخبراء والدبلوماسيين السوفيت المعنيين بالشرق الاوسط، مع التعليق المستخف الذي أطلقه الزعيم السوفيتيّ المثير للجدل، نيكيتا خروتشوف، في الأمم المتحدة، حين جاء تسلسل كلمة الوفد السوفيتيّ في المبنى الزجاجي، وفقا للأبجدية اللاتينية، بعد الأمارة الغنية بالنفط، ساخرا ::
منو ..منو.. كوفيت !؟ مشددا على حرف يقلب الأسم الى مايعني باللغةالروسية” кювет اي الحفرة الصغيرة” وليس كويت Кувейт.
مرت الدقائق ثقيلة، في انتظار خروج المتحدث باسم الخارجية السوفيتيّة آنذاك غينادي غيراسيموف للصحفين، ومعرفة كيف تلقى الكرملين أنباء الغزو، وفيما اذا كانت بغداد أبلغت حليفتها موسكو بالقرار الكارثي الذي قلب المنطقة والعالم رأسا على عقب.
كانت ملامح القلق، والترقب، ممزوجة بالدهشة على وجه أحمد سكران، مراسل وكالة الانباء العراقية، الشاب الدمث، الذي كان يتحاشى الاختلاط علنا بالصحفيين المدرجين في قائمة معارضي النظام العراقي.
ووسط ضوضاء الصحفيين في القاعة المكتظة، همس بإذني واثقا من موقفي :
-مصيبة!
واضاف
أعتقد الرئيس صدام راح يحلها بسرعة!
فرددت هامسا ايضا:
دگة رشيد!!
وما ان لمحنا الناطق السوفيتيّ غيراسيموف، يهم مسرعا لدخول القاعة، حتى بادرته بالسؤال مستفيدا من معرفتي السابقة به ، حين كان يرأس تحرير صحيفة ” أنباء موسكو” الصادرة بعدة لغات، بينها العربية، وكنت عملت فيها، فرد مع ابتسامة ودية :
بعد دقيقة ساتلو عليكم البيان.
وصعد الى المنصة.
كانت أنباء الغزو العراقي ،أدركت وزيري خارجية الاتحاد السوفيتيّ ادوارد شيفردنادزة، ونظيره الأميركي جيمس بيكر في ايركوتسك باقصى الشرق السوفيتيّ؛ وفور عودتهما الى مطار فنوكوفو الحكومي بموسكو، القيا، ظهيرة الثاني من آب/ اغسطس؛ بيانا مشتركًا يدين بقوة الفعلة العراقية.
ولم يبتعد المتحدث الرسمي غيراسيموف عن مضمون البيان، مشددا على اتخاذ كل مايلزم لإرغام العراق على سحب قواته من الكويت؛ “وقطع جميع إمدادات الأسلحة عن المعتدي”.
وأكد غيراسيموف، ان موسكو تجهل تماما نوايا الرئيس العراقي صدام حسين قبل الغزو، وتحاشى الإجابة على أسئلة كثيرة، دارت حول ما اذا كان الكرملين، توقع من العراق عملا عسكريا ضد الامارة الصغيرة، وأتسمت الإجابات بالتحفظ، لكنها شددت على تطابق تام في الشجب والإدانة مع موقف واشنطن.
كان اخر رئيس سوفيتي، ميخائيل غورباتشوف، أحدث انقلابًا ؛ في سياسات الاتحاد السوفيتيّ، الداخلية والخارجية، وشمل التحول، توجهات الكرملين الشرقية، وبدء مرحلة العد التنازلي بوقف دعم الانظمة الراديكالية” الثورية” و الاحزاب الشيوعية، و اسداء العون لحركات التحرر الوطني في اسيا وافريقيا واميركا اللاتينية،حتى ان النزل الفخم الذي انتهت أعمال البناء في اروقته الفارهة، قبل عامين أو أقل، تحول الى فندق خمس نجوم؛ لاستقبال المستثمرين الواعدين، ورجال الأعمال ، ووزراء حكومات الشراكة الغربية السوفيتيّة الجديدة.
وأغلقت المدرسة الحزبية، لتعليم كوادر الاحزاب الشيوعية أبوابها وتوقفت موسكو عن استضافة قادتها، وزعماء حركات التحرر في العالم.
وسادت مقولات في الشارع الذي يعاني من شظف العيش ،وشحة المواد الغذائية، وانخفاض قيمة الروبل؛ ان دعم الثورات والانظمة في العالم الثالث؛ السبب الرئيس لفقر الشعب السوفيتيّ .
وتلاشت او تكاد من الأدبيات السوفيتيّة، ومن الصحف الكبرى مثل “برافدا” و “ازفيستيا”، تعابير “الامبريالية”، و”الراسمالية المتحللة” او “الغرب المتعفن”.
وبات الشيوعيون، الأجانب، وبينهم العرب؛ ضيوفا ثقلاء على الدولة السوفيتيّة، التي كان يبحث اخر رؤسائها، بالوسم الشهيرة على جبهته، ميخائيل غورباتشوف، عن قروض من الغرب والولايات المتحدة.
وجاء غزو صدام حسين للكويت،ليفتح سوق المساومات، ويمنح النظام السوفيتيّ المتهالك قرضا ميسرا من أربعة بلدان خليجية ، السعودية وقطر، وسلطنة عمان وحكومة الكويت في المنفى، بمبلغ يزيد على اربعة مليارات دولار؛ فيما كان غورباتشوف يبذل قصارى الجهد للحصول على مليار ونصف من ” الشركاء” الغربيين، الذين تأثروا ربما، بمثل روسي
شهير ، عشق دونالد ريغين ، صاحب مقولة ” امبراطورية
الشر” عن الاتحاد السوفيتيّ، مفاده
” ثق ولكن تحقق اولا”.
ولاح ان الغرب، لم يندفع كثيرا، لتصديق سياسات الانفتاح، والشفافية المعلنة على لسان غورباتشوف، خاصة وان إشعاعات إنفجار تشيرنوبيل النووي؛ ربيع 1986، ماتزال تخيم على أوروبا ، ومحاولة موسكو إخفاء الحقيقة، لأيام ثلاث بلياليها.
وفِي خريف العام1987؛ يستقبل، غورباتشوف الرئيس السوري حافظ الاسد؛ ليبلغه بان روسيا تستعد للاحتفال العام القادم بألفية إعتناق المسيحية على يد الامير فلاديمير سنة 988 ميلاديه؛ في أشارة، فهمها الأسد ، بان موسكو لم تعد تلك التي تعرفونها؛ ليرد بهدوء :
تعلمون ان المسيحية ولدت و أنطلقت من ارضنا!
لكن الأسد ، الذي أدرك ان “الرفيق” غورباتشوف يتطلع للشراكة مع السادة في الغرب، مع انه أكد لمضيفه على ثوابت الشرق، فانه وخلافا لنظيره العراقي صدام حسين، استعد للتحول الجيوسياسي، وللانقلاب الأيديولوجي للحليف السوفيتيّ، مستعينا بالارث الأموي؛ فيما تمسك صدام حسين بسيف الفقار حتى قطع الاعناق!
يتبع…