لم يخف جنرلات في الجيش السوفيتيّ، امتعاضهم من نية واشنطن،شن هجوم كاسح على العراق، لإرغام قواته على الإنسحاب من الكويت، وعبروا في تصريحات متباعدة، عن القلق من سيطرة الولايات المتحدة، بالمطلق على منطقة الخليج، ونشر أسلحة نووية في القواعد الأميركية، المنتشرة هناك.
وعبر جنرالات آخرون ، عن الأمل في ان يتحول العراق، الى فيتنام ثانية لليانكي، فيما يبدو قراءة بالغت كثيرا بالقدرات العسكرية العراقية، بعد حرب الثماني سنوات مع إيران ، وامتناع موسكو عن تزويد حليفتها بغداد، بالسلاح، رغم الطلبات المتكررة، والتذكير بمعاهدة الصداقة والتعاون العسكري التقني، المبرمة بين الاتحاد السوفيتيّ والجمهورية العراقية في 20 تموز/يوليو 1972.
لقد تذرع السوفيت، خلال سني الحرب العراقية الايرانية، بان بغداد لم تبلغ موسكو بقرار الحرب.
وكانت القيادة السوفيتيّة العليا ، عقد الثمانينات، تلفظ أنفاسها الاخيرة الواحد تلو الاخر، بدءًا من ليونيد بريجنييف( 1906-1982)ومن ثم يوري اندروبوف( 1914-1984) واخيرا قسطنطين
تشيرنينكو(1911-1985)، وصولا الى ميخائيل غورباتشوف، عضو المكتب السياسي الاصغر سنا، والأكثر حيوية،حتى قلب الاتحاد السوفيتيّ، واستطرادًا العالم رأسا على عقب.
مرشح مدى الحياة!
———————
حدثني السفير العراقي في صربيا، قبل الاحتلال الاميركي للعراق ، الصديق سامي سعدون، ان وفدا عراقيا كبيرا زار موسكو في أتون الحرب مع إيران، يطلب الأسلحة، وبعد إنتظار مرير لأيام ، ولقاءات طويلة مع مسؤولين على مستويات مختلفة، إجتمع الوفد اخير بالعضو المرشح للمكتب السياسي بوريس
بونوماريوف( 1905-1995)الذي ظل مرشحا حتى حل الحزب الشيوعي السوفيتيّ عام 1991!
وحسب رواية السفير د. سامي سعدون، فان بونوماريوف ،ثقيل الحركة والسمع ، بفعل الكهولة، وبعد مداخلة طويلة لرئيس الجانب العراقي، قدم للوفد ورقة في بضعة سطور، تفيد بان حكومة الإتحاد السوفيتيّ غير مستعدة، لبيع أسلحة الى العراق.
الجدير بالذكر ان دراسة، أعدها، فريق من الخبراء في الغرفة التجارية الروسية، بعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتيّ، ذكرت بان كل ثالث دولار من مبيعات الاسلحة السوفيتيّة الى الدول الاجنبية، كان مصدره العراق، خلال عقد من الزمن؛ يمتد من 1970 ولغاية 1980 .
لكن مبيعات الأسلحة السوفيتيّة الى العراق، توقفت ما ان إندلعت الحرب مع إيران.
ويذكر شهود حقبة إزدهار سوق السلاح السوفيتيّ مع
العراق، ان وفودا عسكرية، كانت تتقاطر من بغداد، الى موسكو ، تحمل حقائب مليئة بالدولارات، لشراء الأسلحة بالدفع نقدا. فقد كانت بغداد تفضل عدم المرور بالتحويلات البنكية، لأسباب أمنية، وحفاظا لأسرار التسلّح العراقي، الأمر الذي كان يناسب الجانب السوفيتيّ ايضا.
ويلفت شهود تلك المرحلة، ان الضباط العراقيين، المفاوضين، كانوا يحرصون على حساب آخر سنت، عند إبرام العقود، وقال لي احد المترجمين:
“المدهش ان الحقائب المثقلة بالدولارات، لم تكن تمس من قبل حامليها، وبدى لي ان مجرد التفكير، بالتلاعب في محتوياتها، واستغلال المنصب، يعني ان حاملها سيفقد راْسه قبل رتبته العسكرية “!
منعطف نوعي
———-
مع ان العراق، سني الحرب مع إيران ، ظل يعتبر حليفا لموسكو ، وربما حصل على أسلحة سوفيتية، عن طريق صفقات أبرمتها دول ثالثة، كالاردن والكويت والسعودية، الا ان تهالك الدولة السوفيتيّة، ليس فقط، بفعل قادتها الكهول، بل ولان النظام، بات باليا، واخذ يفقد الاهتمام، بالحلفاء
” الثوريين أعداء الإمبريالية”.
وصار الكرملين أكثر ميلا للأنظمة المعتدلة في الشرق الأوسط ، حتى ان موسكو كانت أولى المرحبين بقيام مجلس التعاون لبلدان الخليج العربية، الذي ضم ممالك وإمارات تعد من أوثق حلفاء واشنطن،فيما بلغت حرب الولايات المتحدة الباردة، ضد موسكو السوفيتيّة، أوجها؛ تلك الحقبة.
في سياق هذا الانعطاف النوعي داخليا وخارجيا، دخلته الدولة السوفيتيّة في سنواتها الأخيرة، غزا العراق، الكويت، دون حسابات.
ولعل شهادة السفير السوفيتيّ السابق بوغوس اكوبوف ( في الحلقة السابقة). وما ذكره لنا السفير العراقي السابق سامي سعدون؛ تلخص التحول الذي لم تلتقط أبعاده القيادة العراقية.
فالسفير اكوبوف ، أكد انه كان الغراب الأبيض بين السفراء في الخارجية السوفيتيّة، حين عارض لوحده السماح باستخدام القوة ضد العراق.
أما السفير سعدون، فقد كشف عن عدم تحمس موسكو لدعم حليفها في بغداد، رغم أرباح صفقات السلاح.
وتعزز التوجه السوفيتيّ، نحو فك الإرتباط مع عواصم كانت تدرج في خانة الأنظمة الراديكالية، لصالح الانفراج ، والشراكة، متعددة المنافع مع الولايات المتحدة والغرب.
وأخذت ، موسكو تعيد ترتيب الأوراق مع الحلفاء التقليديين ، أصحاب المشاكل.
وإذا كان الكرملين فوجيء، بالغزو العراقي للكويت، رغم كل التنسيق على صعيد الاستخبارات مع الأجهزة العراقية
النظيرة، فان المفاجأة ، أصابت واشنطن ايضا.
بلا ميعاد
———-
خلافا للمتداول، حول لقاء السفيرة الأميركية أبريل
غلاسبي ، مع صدام حسين، في 25 تموز/يوليو 1990 أي عشية الغزو، والرأي الشائع، ان السفيرة وبإيعاز من إدارة بوش
الأب، أوحت لصدام حسين بغزو الكويت، أو في الأقل،المحت بان واشنطن لن تتدخل لحماية الأمارة ، فان لدى الخبراء السوفيت، رواية مغايرة.
وقد عبر مبعوث غورباتشوف، يفغيني بريماكوف، في أكثر من مناسبة عن الإعتقاد بخطل هذه الفرضية. مشيرا الى ان واشنطن لم تكن لترحب بعمل عسكري عراقي ضد الكويت.
وواقع الحال، فان السردية الدقيقة لإجتماع غلاسبي بالرئيس
العراقي، تدلل على انها لم تكن مستعده له.
فالذي حصل ان السفيرة، زارت وزير الخارجية العراقي طارق عزيز ، تستأذن السفر الى بلادها،للتمتع باجازتها السنوية.
واذا كانت الحكومة العراقية، أذاعت نص اللقاء مع صدام حسين، فإنها لم تكشف تفاصيل اللقاء مع وزير الخارجية، ربما لانه كان بروتوكوليا ، خال من مضامين مهمة.
وبعد مغادرة غلاسبي مبنى الخارجية العراقية، وقبل ان تصل الى السفارة، جرى استدعائها ثانية، فاقفلت عائدة، حتى قبل ان تجد الوقت لإبلاغ مسؤوليها في الخارجبة الاميركية.
وبدلا من ان تلتقي طارق عزيز ، تم نقلها مباشرة، للقاء صدام حسين.
والإستنتاج المنطقي، ان السفيرة فوجئت بلقاء الرئيس، ولم تكن تتوقع نفسها وجه لوجه مع صدام حسين ؛ لا شكلا ولا مضمونا، ولم تتلق أية تعليمات من واشنطن.
كما ان القراءة، الموضوعية، بعيدا عن روحية المؤامرة ، لمحضر إجتماع السفيرة مع الرئيس، لا تنم عن اي تشجيع او إيحاءات خارج، العبارات العامة، حول ضرورة تسوية المشاكل مع الكويت، بسلام، وان واشنطن تراقب الوضع عن كثب وتشعر بالقلق.
فيما أسهب الرئيس العراقي، بالحديث عن أهمية العلاقات بين العراق والولايات المتحدة ، وفِي سياق استعراض تأريخي، مفصل، يهدف كما يبدو لإبلاغ سفيرة واشنطن ، ان العراق الجمهوري،له ان يكون شريكا نافعا للولايات المتحدة ؛ بدلا من الملكيات الوراثية في الخليج العربي …
يتبع …