23 ديسمبر، 2024 8:30 ص

مترجمة ومستنسخة من لغتها الاصلية: العربية الفصحى المبكرة
مـقدمـة
يتضمن مشروع البحث المقدم في هذا الموقع جهد ريادي لترجمة واعادة استنساخ ملحمة جلجامش التأريخية لبلاد الرافدين، وهي اقدم عمل ادبي مكتشف حتى يومنا هذا، وذلك عبر استخدام لغة الملحمة الاصلية: اللغة العربية الفصحى المبكرة. في بداية البحث تمت دراسة كلمات الملحمة المستنسخة بالحروف اللاتينية عن المسمارية، وذلك عبر توظيف عدد من المصادر الاكدية والسومرية الحديثة التي تم تحضيرها على مدى عدة عقود من قبل عدد كبير من المستشرقين، بناءا على معطيات ترجمتهم الافتراضية لمئات الالاف من اللوائح المسمارية المكتشفة في بلاد الرافدين القديمة والمناطق المحيطة بها. وبعد الاخذ بنظر الاعتبار معانى كل كلمة من الملحمة في هذه المصادر، سواء تم تصنيفها كلمة اكدية او سومرية، أُعيد استنساخ تلك الكلمة من الحروف اللاتينية الى الحروف العربية عبر استخدام جدول بحروف الاستنساخ اللاتينية ومعادلاتها العربية تم تحضيرة مسبقا من قبل الباحث عبر ملاحظاته الشخصية وملاحظات عدد من المختصين الرياديين، لاسيما مختص الدراسات السومرية الاكدية في جامعة الموصل الاستاذ علي ياسين الجبوري.

اخيرا، لتصديق وتأكيد صحة الاستنساخ العربي للكلمات ولترجمة النصوص الناتجة بلغة حديثة مفهومة، تمت دراسة جميع هذه الكلمات في عدد من مصادر اللغة العربية التأريخية الاساسية، بشكل مستفيض. علما ان هذه المصادر اللغوية التي تم تحضيرها على يد عدد من علماء ولغوي الحضارة العربية الاسلامية بين الاعوام 1300-800 ميلادي، مصادر علمية محايدة أُنجزت قبل قرون عديدة من تأريخ اكتشاف الملحمة. بالرغم من ان المحصلة النهائية للترجمة الجديدة المقدمة عبر هذا البحث تبدو متفقة بخطوطها الاساسية (حتى الان) مع الترجمات الحالية للملحمة، الا انها تضمنت العديد من التفاصيل والتصحيحات الجديدة الهامة. ويدل هذا الاتفاق بدون ادنى شك على ان لغة الملحمة الاصلية كانت حقا لغة عربية فصحى مبكرة.

يصعب الادعاء بشكل مطلق بان لغات الاقوام السومرية والاكدية، المعروفة حصريا عبر قراءة النقوش المسمارية، كانت في الواقع لغتين مختلفتين ومستقلتين بشكل كامل. اذ ان التفريق بين الاثنين عملية معقدة. فلمعرفة معاني كلمات ماسُمي باللغة السومرية، استعان المستشرقون اولا بما سُمي باللغة الاكدية. ألا انهم، ولحل معاني كلمات الاكدية استعانو باللغة العبرية، وهي لغة ذات جذورعربية مبكرة كما هي اللغة الاكدية. فوفق المعطيات المتراكمة في هذا البحث (حتى الان) كانت جميع الكلمات المتضمَّنة بشكل متفرق في النص الاكدي لنسخة الملحمة البابلية القياسية، والتي صُنفت على انها كلمات سومرية، كانت كلمات ذات جذور عربية ايضا. ومما يثير الاستغراب هنا، تم افتراض ان هذه الكلمات السومرية كانت قد استخدمت في النسخة القياسية للملحمة بعد اكثر من الف عام من انتهاء عملية استبدال اللغة السومرية باللغة الاكدية، المفترضة، بينما كتبت النسخة البابلية القديمة، والتي يعود تأريخها لحوالي تأريخ عملية الاستبدال المفترض هذا، بلغة اكدية خالصة!

على اية حال، لا يمكننا استبعاد احتمالية ان تكون اللغة السومرية المفترضة مجرد كتابة بدائية او طريقة كتابية بديلة (او كليهما) للغة عربية مبكرة غابرة، سبقت الاكدية. اما اكتشاف قواميس سومرية اكدية على الاواح المسمارية فهذا ليس دليلا قاطعا على استقلال اللغتين، اذ لايمكن استبعاد ان تكون هذه القواميس معاجم تعود للغة واحدة. ومما تجدر الاشارة اليه هنا ان علماء الحضارة العربية والاسلامية الاوائل كانو قد اشارو الى ان لغة بابل القديمة كانت اللغة النبطية (العربية) والى ان اقوام الكلدان والسريان تكلمو لهجات مشتقة منها. كما انهم اطلقو تسمية “أنباط العراق” على الاكديين واضافو، ايضا، انهم كانو اقدم عهدا من “أنباط الشام”.

بعد الاشارة الى احد ابرز علماء الدراسات السومرية الاكدية واهم المختصين الغربيين المعاصرين بملحمة جلجامش، بان لغة الملحمة تبدو لغة عربية فصحى مبكرة وبذلك يتوجب علينا ترجمتها عبر استخدام مصادر اللغة العربية الاشتقاقية (الايتومولوجية) التأريخية، اجاب بما يلي: “انني لست مقتنعا بان طريقتك (العربية) قادرة على انتاج ترجمة اكثر دقة من الطريقة (الاستشراقية) الاشورية”. الكلمات بين الاقواس اضيفت للتوضيح. ان اعتبار عملية الترجمة الاستشراقية الحالية “طريقة” علمية بديلة اضافة الى عدم استبعاد الصلة باللغة العربية، في هذه الاجابة الصادقة والدقيقة علميا، يشير الى امرين في غاية الاهمية.

اولا، بما ان استخدام مصادر العربية الفصحى التأريخية يمكنه ان يحقق ترجمة دقيقة ومقبولة للملحمة، اذن لابد ان تكون لغة الملحمة لغة عربية مبكرة. تسمية هذه اللغة من قبل المستشرقين باللغة الاكدية، او تسميتها من قبل علماء الحضارة العربية والاسلامية المبكرين باللغة النبطية، لا يمكنه تغيير هذه الحقيقة. ثانيا، وبناءا على كل ذلك، لا يمكننا اعتبار ان قواميس ومصادر قواعد اللغات الاكدية والسومرية الحديثة هي ادوات لغوية حصرية للغات غير عربية منقرضة، استخدمت فعليا، وانما ادوات علمية لحل الغاز لغة عربية مبكرة مكتوبة، تحديدا.

رغم ان هذه الترجمة الجديدة المبنية على مصادر العربية، لم تنتج قصة مختلفة جذريا عن ما انتجته “الطريقة الاشورية”، الا انها قد انتجت “ترجمة اكثر دقة”، حتى في مراحلها الاولية. اذ قدمت تفاصيل جديدة وحلت عددا من التناقضات والمداخلات القابلة للنقاش في الترجمات السائدة اليوم. فكما يقول المثل الغربي الشائع، “الشيطان يكمن في التفاصيل”! بدون شك ان استخدام ادوات اللغة الفعلية لاية نص مترجم، مقارنتاً باستحدام ادوات منتجة حديثا مبنية على اعطاء معاني تخمينية واتباع نهج احصائي مرتبط بدراسة عدد محدود من النقوش المكتشفة، من شانه ان ينتج ترجمة اكثر معقولية. وكحد ادنى، فان مرونة وسعة وتماسك المعلومات التي تقدمها مصادر الاشتقاق والقواعد اللغوية العربية التأريخية يمكنها ان تحسن بشكل كبير حصيلة اية ترجمة مبنية على “الطريقة الاشورية”، والتي يجب استخدامها بشكل اساسي كاداة لانتاج نماذج ترجمة اولية.