في استطلاع هو الأول من نوعه تجريه مجلة العربي الكويتية الواسعة الانتشار حول كُردستان العراق أجري في شهر كانون الثاني/ ينايرعام 1971م بُعيد اتفاقية 11 آذار الخالدة التي أبرمها الزعيم الكُردي الراحل ملا مصطفى البارزاني(1903-1979م) مع الحكومة العراقية في 11آذار/مارس عام 1970م. سألت مجلة العربي الزعيم الكُردي في عرينه (= مقره) في كلاله (ناحية حالياً تابعة لقضاء جومان شمال شرق كردستان العراق واقعة على طريق هاملتون الاستراتيجي بالقرب من الحدود الإيرانية)، عن حقيقة أصل الكُرد وعن ما يقوله بعض المؤرخين من أنهم أي الكُرد ــ من نسل الجن ــ فأجابه متأففاً: “إن ما كتب إلى الآن عن حقيقة الكُرد ، لا يمثل إلا عشرة في المائة من الحقيقة، إن كل من أمسك قلماً يمكنه الكتابة، وهو قد يكتب طيباً أو سيئاً، إن الذين يكتبونه ليس وحياً نازلاً من السماء، وإنما هو من وحي مخيلتهم المريضة، إن الكاتب مثل الجبال مثلما قلت لك ــ والوديان المحيطة بنا، شاهقة ومنخفضة-، أما إذا كان يهمكم معرفة أصلنا فاكتب إن الكرد بشر وإنسان، من نسل آدم وحواء، واذكر قوله تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم}، [سورة الحجرات، الآية 13]، ويتذكر الزعيم الكُردي شيئاً فيعود ويقول متعجباً: أما القول بأننا من – نسل الجن ــ فهذا دليل على أن العقل البشري قاصر، إن الذي خلقنا يعرف ماهيتنا…إلخ”.
إن الزعيم البارزاني في رده على من يقولون إن الكُرد من نسل الجن ينم عن فهم طبيعة الأمور وسنن الله في الكون والحياة، وكان طيب الذكر متأففاً ومتضجراً إلى حدٍّ بعيد لأن هذه النظرية قد انطلت على الكثير من الكتاب العرب والفرس (وحتى على المؤرخ الكُردي شرفخان البدليسي (1543- 1603م) صاحب الشرفنامه، التي أدرجها في كتابه بدون تعليق).
ورغم دراية هؤلاء العلماء والمؤرخين بأن الله قد خلق جميع البشر من نسل آدم وحواء استناداً للحديث النبوي الشريف: [كلكم لآدم وآدم من تراب]، ولكنه لأسباب في نفس يعقوب والقفز على الواقع ومحاولة اجترار آراء خرافية ونظريات أسطورية ما أنزل اللهُ بها من سلطان، ومحاولة السير باتجاه نظريات الأصل الآري التي جاء بها الفلاسفة الألمان في القرن التاسع عشر والادعاء بأن الجنس الآري أفضل الأجناس وأن البقاء للجنس الأقوى! حسب مقولة الفيلسوف الألماني نيتشه.
ورغم انتماء الكرد للجنس الآري، إلا أن هذا لا يلغي تلك المقولة الساذجة القائلة إن الكرد تحديداً هم من أصل عربي وفارسي وتركي، وإنهم خلقوا من الجن ومن إماء سليمان حين وقع عليهن الشيطان !.
إن هذه النظريات غير العلمية وغير الواقعية لم تكن ولن تكون وحياً نازلاً من السماء على حد تعبير البارزاني الخالد، لذا كان رده علمياً ومنطقياً في آن واحد، وكان حجراً من أحجار كردستان الصماء ألقم بها أفواه هؤلاء النازيين الجدد الذين يعتبرون الكرد أقل حضارة ومدنية؟، ولا يستحقون أن يكون لهم الكينونة والذاتية لتسيير أمورهم بأنفسهم وأنهم حاشاهم كالمعتوه الذي يوكل أمره إلى غيره، لذا وكل أمرهم مرةً إلى العرب ومرةً إلى الفرس وأخيراً إلى الترك.
وباعتقادي فإن المستعمرين البريطانيين والفرنسيين كانوا السبب فيما وصل إليه الأمر، إذ لو أقاموا كياناً أو دولة كردية على غرار الكيانات السياسية للأمم الأخرى بعيد اتفاقية سايكس بيكو(1916م) السيئة الصيت لما وصل الأمر إلى ما هو عليه الآن.
ولم يدر بخلد هؤلاء المؤرخين أن الكرد كانوا لا يقلون أصالة وحضارة ًعن الآخرين، حتى أن الموجة الثانية للبشرية انتشرت من البقعة التي يتركزون عليها حالياً إلى باقي أنحاء العالم، دليل ذلك قوله تعالى: {وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين}، [سورة المؤمنون، الآية 29]، وكذلك قوله تعالى: {واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين}، [سورة هود،الآية44].
ويتفق باحثوا التاريخ القديم على أن زمن ظهور نبي الله نوح (عليه السلام) كان في بداية الألف الرابع قبل الميلاد، أي قبل ظهور نبي الله ابراهيم (عليه السلام) بألفي سنة تقريباً وفقاً للمصادر الكتابية، أي بعبارة أخرى أن أسلاف الكرد يسبقون جيرانهم من الناحية الزمنية، لأن الحضارة نشأت في سفوح جبال الجودي مثلما ذكر القرآن الكريم، وجبال آرارات وفق الكتاب المقدس وتحديداً التوراة، والجبل الاول (= الجودي) يقع في قلب كردستان شمال جزيرة بوتان (مدينة الجزيرة – كردستان تركيا) مقابل مدينة زاخو في كردستان العراق ، بينما يقع الجبل الثاني(= آرارات) في شمال شرق كردستان قرب حدود جمهورية أرمينيا.
ويبدو للباحث أن هذه النظريات اقتبسها المؤرخون العرب وغيرهم من الفرس ودونوها على أنها مرويات إسلامية! لا يجوز فحصها أو محاكمتها كأنها وحي مقدس؟.
يقول إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل (المتوفى سنة241هـ/855م) بهذا الصدد ثلاثة لا أصل لها: ” الملاحم والمغازي والتفاسير”، وهذه المقولات الزائفة تندرج تحت طائلة إحدى هذه الأقسام وتحديداً الملاحم والتنبؤات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي ذكرها الإمام أحمد آنفاً.
إن مهمة المؤرخين الذين يتصدون لكتابة تاريخ الشعب الكردي أن لا يألون هذه النصوص التاريخية المزيفة: القداسة والعصمة!، فهي نصوص بشرية يعتريها الضعف والتعصب والذاتية ولا تقع تحت طائلة الحلال والحرام أو مما هو معلوم من الدين بالضرورة، وإنما هي آراء بشرية تحاول لَي النصوص التاريخية بما يتوافق مع ما يؤمنون به، أو محاولة أدلجتها وإضفاء طابع العلم والمنهجية عليها، وهذا ينطبق إلى حد كبير على النظريات الفارسية والتركية حول أصل كرد .
ولكن رغم ذلك يستطيع المراقب تتبع العديد من الآثار والأحاديث المنسوبة إلى الإمام جعفر الصادق المتوفى سنة148هـ/765م(= الامام السادس عند الشيعة الامامية الاثنا عشرية) ترجع إلى بداية القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وتشير إلى ما ذكرناه آنفا بخصوص مقاطعة الكرد وعدم مصاهرتهم ومقايضتهم.
وحول تحديد أصل خرافة أصل الكرد من الجن وكيفية تسربها الى المصادر التاريخية والدينية، يبدو أن أول من أدرجها حسب المصادر المتوفرة لدينا هو : محمد بن يعقوب الكليني المتوفى (سنة 329هـ/939م)، الذي يعد أصح كتاب للاحاديث عند الشيعة الاثنا عشرية؛ على غرار كتاب الامام البخاري عند أهل السنة والجماعة، أدرجها في كتابه (الكافي).
والمهدي المنتظر يقول بشأن كتاب الكافي: ” بأنه كافِ لشيعتنا “، لذلك فان العديد من شهادات التزكية والتأييد من قبل علماء وفقهاء الشيعة انصبت لمصلحة الكليني، يقول شيخ الطائفة الطوسي(المتوفى سنة460هـ/1068م) : ” ثقة عارف بالاخبار” وفي مورد آخر يقول:” ثقة وعالم بالاحاديث والاخبار”، ويقول الشيخ أحمد المحقق الاردبيلي(المتوفي سنة993هـ/1585م) بشأن الكليني: ” شيخ أصحابنا في وقته بالري(= عاصمة اقليم الجبال – جنوب طهران الحالية) ووجههم وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم!، صنف كتاب الكافي في عشرين سنة”، أما الشيخ أسد الله التستري الكاظمي(المتوفى سنة 1234هـ/1819م)، فيقول:” ثقة الاسلام وقدوة الانام وعلم الاعلام، المقدم المعظم عند الخاص والعام الشيخ ابي جعفر محمد بن يعقوب الكليني”.
وفيما يلي نذكر ثلاثة من روايات الكافي للكليني، وعنه نقل العشرات من علماء ووفقهاء الشيعة هذه الرواية في مختلف العصور، وأضافوا اليها روايات اخرى نقلا عن امام الشيعة السادس جعفر الصادق.
روى (الكليني) في كتاب (الكافي) الجزء(5) الصفحة 158 عن (أبى الربيع الشامي) قال: ” سألت أبا عبد الله (= جعفر الصادق) عليه السلام فقلت: إن عندنا قوما من الأكراد، وأنهم لا يزالون يجيئون بالبيع ، فنخالطهم ونبايعهم ؟ قال: يا أبا الربيع لا تخالطوهم ، فان الأكراد حي من أحياء الجن، كشف الله تعالى عنهم الغطاء فلا تخالطوهم”.
وجاء في رواية اخرى للكليني نقلاُ عن كتاب الكافي الجزء (5) ص (352):” لا تنكحوا من الأكراد أحدا فإنهم جنس من الجن كشف عنهم الغطاء “.
وفي رواية ثالثة للكليني في كتابه (الكافي) ايضاً: ” إنه كتب إليه يسأله عن الأكراد، فكتب إليه لا تنبهوهم إلا بحد السيف”.
وتجدر الاشارة الى أن بعض كبار الفقهاء زاد في الرواية، بما ينتقص من الكرد في مجالات متعددة، كقول الفقيه (=البارع عندهم) يحيى بن سعيد الحلي(المتوفى سنة690هـ/1291م) في كتابه (الجامع للشرائع):” ولا يخالط السفلة ولا يعاملهم، والمحاربين ولا ذا عاهة؛ فإنهم أظلم شىء ولا تقترض ممن لم – يكن – فكان، ويكره مخالطة الأكراد ببيع وشراء ونكاح”.
بالاضافة الى المسعودي المؤرخ الشيعي الشهير (المتوفي سنة 346هـ/ 957م)الذي أدرجها هو الآخر في كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر)، الجزء الثاني الصفحة 123 ، والتي لاقت صدىً واسعاً، بقوله:” ومن الناس من الحقهم باماء سليمان بن داؤد عليهما السلام حين سلب ملكه ووقع على امائه الشيطان المعروف بالجسد، وعصم الله المؤمنات ان يقع عليهن، فعلق منه المنافقات فلما رد الله على سليمان ملكه ووضعت تلك الاماء الحوامل من الشيطان، قال: أكردوهن الى الجبال والاودية، فربتهم امهاتهم وتناسلوا، فذلك بدء نسب الاكراد”.
وقد نقل هذه الروايات العشرات من علماء وفقهاء ومراجع الشيعة في مختلف العصور، في كتبهم المعتمدة لدى الطائفة؛ ولا زالت تدرس في حوزاتهم العلمية الى وقت كتابة هذا المقال، وإن فكرتها لا تخرج عن الاحتمالات الآتية :
1- ان هذه النظرية هي أحد الأساطير التي تسربت إلى المصادر الإسلامية من الإسرائيليات ، حيث يبدو الدس اليهودي واضحاً فيها من خلال الإشارة إلى نبي الله سليمان بن داود (عليهما السلام) نظير إلصاق التهم بهما، حيث تحوي بعض أسفار الكتاب المقدس على ما يماثل ما أدرجناه آنفاً .
2- تستند هذه الأسطورة على تشابه جذر الفعل العربي (كَرَدَ) بمعنى (اصطاد) مع كلمة (كُرد) .
3- هذه الأسطورة مبنية على تشابه المصطلح العربي ( أكردوهن ) بمعنى (أطرودهن ). والكُردي والجبل متلازمان، إذن قول سليمان أكردوهن الى الجبال جاءت بمعنى اطردوهن الى الجبال وفق هذه المشابهة اللغوية.
4- ان الكُرد قوم مشهورون بالشجاعة والبأس، ويربط التقليد الشعبي على الأغلب كلمة (كُرد) بكلمة كرد التي تعني في اللغة الفارسية (البطل)، ويدعمها في ذلك تفسير القرآن الكريم للآية الكريمة {…قل للمخلفين من الاعراب ستدعون إلى قوم أولي بأسٍ شديد… الخ } ،[سورة الفتح: الآية16،] التي تعني في رأي بعض المفسرين: كابن كثير الدمشقي والسيوطي، والألوسي، وصاحب التحرير والتنوير، أي الكرد الذي يلبسون نعال الشعر كما ورد ذلك في الحديث النبوي الشريف.
5- بعض البلدانيين الرحالة تعرضوا الى مضايقات عند مرورهم بالمنطقة الكُردية، ذات التضاريس الوعرة، حيث ظهرت لهم عصابات مسلحة، سرعان ما تختفي في الجبال والأودية مثل اختفاء الجن، لذا يمكن ان هذا الاطلاق جاء في معرض المدح آنذاك والشجاعة، وتغير مدلولها باختلاف الزمان الى مدلول اخر.
مما تقدم يثبت ان هذه الروايات الشيعية المبثوثة في كتب القوم من عهد الكليني في بداية القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، الى القرن الرابع عشر الهجري/العشرون الميلادي؛ تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأنها روايات أصلية وغير مدسوسة ونابعة من التراث الشيعي، لانها لو كانت مدسوسة وفق روايات بعض الكتاب الشيعة المعاصرين، لما تطرق الى نشرها في رسائلهم العلمية من مراجع الشيعة المعاصرين كل من: أبو الحسن الاصفهاني(المتوفى سنة1366-1367هـ/ 1946م) في كتابه (وسيلة النجاة)، واحمد بن السيد يوسف بن السيد حسن الموسوي الخوانساري (المتوفى سنة 1405هـ/1985م)، في كتابه (جامع المدارك في شرح الجوهر النافع)، ومرجع الشيعة في العراق والعالم محسن الحكيم الطباطبائى البروجردي(المتوفى سنة 1390هـ/ 1970م) في كتابيه (منهاج الصالحين)، و(مستمسك العروة الوثقى).
كما يجب أن لا ننسى طروحات المرجع الشيعي الايراني الاصل (= أبو الحسن الموسوي الأصفهاني) حول عدم مصاهرة الاكراد، فقد نشر رواية اخرى في كتابه (وسيلة النجاة)، ص (341) في( باب النكاح):” لا ينبغي للمرأة آن تختار زوجاً سيء الخلق والمخنث والفاسق وشارب الخمر ومن كان من الزنا أو الأكراد أو الخوزي(= أهالي خوزستان – عربستان) أو الخزر(= منطقة القوقاز)”.
فضلاً عمن ذكرنا من روايات العلماء والمراجع الكبار آنفاً.
إن هذه الروايات التي شوهت تاريخ شعبنا الكردي في العصور الإسلامية وجعلتها إرثاً معرفياً كان لها الأثر السيء في التاريخ الحديث المعاصر للشعب كرد ي؛ حيث نلاحظه من خلال اتهام الكرد بكل أوصاف التعصب والشوفينية وتهديد وحدة البلدان التي يتواجدون فيها، كأن الجغرافية السياسية لهذه البلدان كانت قد نزلت بشأنها نصوص مقدسة قطعية الثبوت والدلالة.
ويبدو أن هذه الخرافات والأساطير تجد لها سوقاً رائجة كلما دنا الكرد من الحصول على حقوقهم التي أقرتها لهم الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، حيث يتهمون جزافاً بأن أصولهم ترجع إلى الفرس أو العرب أو أنهم من أتراك الجبال، أي بعبارة أخرى أن هناك علاقة طردية يمكن أن نلخصها في المعادلة الآتية: حصول الكرد على حقوقهم = اعتبار الكرد من نسل الجن.
وختاماً ارجو من الباحثين والكتاب ان ينظروا الى الامور نظرة علمية موضوعية، وان لايرددوا تلك الخرافات والاساطير المبثوثة في الكتب الفقهية والتراثية، ومحاولة توظيفها مجدداً في الرسائل العلمية للمجتهدين المعاصرين واطفاء طابع القداسة عليها، وترديدها بين الآونة والاخرى كرد فعل ضد التوجهات السياسية للكرد؛ بواسطة إيجاد روايات تنتهي إلى كبار الائمة!.