كثيرا ما أُلام على توجهاتي النقدية في الكتابة للتلفزيون لأعمال بعينها غادرت مخيلة ووجدان المشاهد بسبب الهوة الزمنية التي يدعيها البعض بين زمن العرض وزمن النقد , هذا اللوم والتقريع في حقيقة الأمر لا يثير حفيظتي البتة بسبب تقديري للجهل المركب الذي لازم الكثير ممن يضعون العصا في العجلة نتيجة لترسبات إيديولوجية منكرة في التعامل مع كل من يبدأ ثمة لمعان وتوهج يصاحب انجازه , كما لا ننسى البعد بين أولئك والشارع والمجتمع وإعراضهم عن رأي الجمهور الذي يعيش حالة من التلاحم والتآزر في علاقة حميمية بينه وبين تلك الأعمال التي وصمت بالقديمة تلك التي لم تزل تشغل حيزا مميزا من خيال وضمير وذهن المتفرج وكأنها حلم لذيذ تستدعى صوره ومعانيه مع كل خطرات الألم التي تعن على المتلقي بين الفينة والأخرى , وخير دليل على سلبية الاراء المناهضة لتوجهنا النقدي بهذا المسار والمتعلق بمسلسل الحب والسلام هو مدى اهتمام القنوات الفضائية المختلفة بعرض المسلسل من على شاشاتها وفي وقت الذروة والذي فيه تجتمع العائلة العراقية والعربية امام التلفاز , كما ان هذه الأعمال التي تفجرت ينابيعها أدبا وفنا وعلما اغرق الأرض ومن عليها بكل ما هو ممتع ومفيد وغيرها من الأسباب الجمالية الوجيهة هي من أسرتني فاستدعت قلمي كي يبوح بما تأصل من رؤى وأفكار في طيات تباريحه , وبالتالي بالإمكان لهذه الإعمال المتميزة ان تؤسس لنظريات يمكن الأخذ بها مستقبلا نتيجة للكم الهائل مما ورد فيها وعلى لسان أبطالها من فلسفة إنسانية لامست فيوضاتها شغاف القلوب ومسامع الآذان ومدامع العيون وخزائن الذاكرة لتكون في النهاية طريق معبد ومنهج ثر يغير من خارطة التفكير والسلوك الاجتماعي لدى المشاهد لا كما يتم عرضه من أعمال أخرى وان كانت بنت اليوم والساعة تبدأ وتنتهي لا يعلق شيء منها في الذاكرة سوى الفاي أي المجموعة الخالية كما يتحدث آهل الجبر والرياضيات ومن هذا المنطلق تم تسخير طاقاتنا من اجل إنصاف الآخرين.
وفقا لما تقدم تقف ماثلة قبالتنا بصلابة وبكل معنى الحقيقة وتأكيد للواقع نظرية او مقولة للفيلسوف أرسطو ((التطهير التراجيدي))هذا التطهير النفسي الذي هو المحرك للشعور الإنساني بمختلف اتجاهاته من خلال التعاطف مع أبطال العمل الدرامي وكل يقول هذا أنا او هذه معاناتي كما انه يجرد الإنسان من نزعاته الشريرة نتيجة الفزع من هول ما يترتب على البطل من تبعات نفسية وضغوطات خارجية وداخلية مما يستدعي المشاهد لطرد الأرواح المنكرة المتلازمة معه نتيجة التراكمات السلبية وبالتالي تنقية لمجرى فوتونات العقل والقلب المنبعثة من أعماقه كما يجب ان لا ننسى مصطلح المفكر الخالد الذكر سيجموند فرويد (الكاثايين)وهو يصف الحالة الدرامية المتولدة نتيجة مشاهدة المأساة وهو ما يسميه البعض بالتنويم المغناطيسي او التفريغ العقلي ومهمته بهذا الخصوص هي تحريك الانفعالات باتجاه الجزء المخزون من الذاكرةكييصبحلديهمأبوابمشرعةيمكنانيرموامنخلالهاأوجاعهمالهستيرية مع ملاحظةإن هناك أعمال اختلف بتقييمها وفق نظرية التطهير فربما تصبح تلويث تراجيدي أي محرك للدوافع الشريرة نتيجة الأرضية الخصبة والمشحونة بكل السلبيات المدمرة لتتحول الصورة المعروضة الى تطبيق عملي لكل الجرائم والموبقات كما حدث في الكثير من الأعمال التلفزيونية كذئاب الليل ووادي الذئاب وغيرها من الأعمال التلفزيونية والسينمائية الفاقدة للقيمة الإنسانية مستغلين عطش البعض نحو الجنس والعنف وبرأيي المتواضع ان العمل التلفزيوني العراقي الذي نحن بصدد تفكيكه ونقده هو مصداق لما قلنا في الايجابية المتوخاة من نظرية التطهير وهو في حقيقته تبيان لكل شيءوسيد لما ورد ذكره آنفا من أعمال تلفزيونية خالدة والعمل هوالمسلسل العراقي (( الحب والسلام)) قصة وسيناريو وحوار الكاتب العراقي العربي حامد المالكي وإخراجتامر مروان اسحاق وبطولة أياد راضي وآلاء حسين وهناء محمد وعبدالجبار الشرقاوي ومهدي الحسيني .
باختصار موجز .. ملحمة الحب والسلام لمن لم يشاهد العمل ولمن تابعه طيلة أربع وثلاثون حلقة خلال شهر رمضان لعام 2009 او ما تلاها ليومنا هذا وذلك للاسترجاع ألذاكراتي حتى لا يكون القارئ بمعزل عن تخيل الصور والمعاني لما نكتب .. بالمناسبة يوجد من يتابع مشاهدة المسلسل للآن عن طريق ألانترنتأو عن طريق الأقراص المدمجة في محلات التسجيلات فقبل شهر من كتابة الدراسة راجعت هذه المحلات في محيطنا ألمناطقي فاخبروني باعتذارهم عن تزويدي بالمسلسل بسبب نفاذ الأقراص وذلك للطلب الشديد عليه مما يؤكد شعبية هذا المسلسل المتجذر في ذاكرة المشاهد فلذلك اقتضى التنويه للجميع عن مفصليات مختصرة لأحداث العمل … كما يجب التنويه عن قرب الانتهاء من تصوير الجزء الثاني من العمل وكلي ثقة بأنه سيكون كسابقه بالجودة والجمال ان لم يكن أفضل وهذا ما نتوقعه دائما من كاتب بقيمة حامد المالكي .
يبدأ العمل بمحاولة انتحار فاشلة لبطل المسلسل جمال العراقي في احد مستشفيات علاج المرضى النفسيين في سوريا لتراكمات مأساوية ألمت به لكنه ينقذ عن طريق إحدى الممرضات , بعد ذلك يأتي احد الأطباء واسمه دكتور صبري الى المستشفى راغبا بعمل دراسة حول أسباب انتحار هؤلاء المرضى فتعرض عليه حالة جمال العراقي كنموذج ملائم للدراسة ويحصل اتفاق بين الدكتور وجمال لسرد قصة حياته فتبدأ القصة بزواجه من نادية بنت الجيران والتحاقه بخدمة العلم وهروبه منها الى تركيا نتيجة ضغوطات النظام العفلقي واعتباره شهيدا مما جعل أهله يطمعون بالمكرمة من صدام وهي سيارة وقطعة الأرض الممنوحة لما يسمى تجاوزا بالشهيد فيتزوج اخو جمال وهو خضر من نادية زوجة أخيهالأرملةأما جمال فيتعرف على احدى السوريات في تركيا ويتزوجها منتقلا بها الى ديارها السورية لتتوفى بعد ولادتها تاركة له بنتا فيعود وحيداالى العراق بقرار متعجل ليعتقل من قبل النظام ويمضي فترة في السجن ليخرج بعدها الى اهله فيجد اخاه قد تزوج زوجته وقد ولدت له ولدا فيحرمها المفتي عليهما ثم يغادر جمال العراق من جديد متوجها الى سوريا بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية وهناك ينشر احد مؤلفاته الروائية فتعم شهرته البلاد كأحد الكتاب المتميزين وتستمر الاحداث متصاعدة حتى يحين زمن سقوط النظام فيعترض طريقه احد المتصيدين للمشاهير وهو من أنصاف المثقفين والمسمى غالب بحري في محاولة ابتزازه بكتابة رواية تشجع على القتل الطائفي في العراق الا انه يرفض لإيمانه بوظيفته الحقيقية كأديب في إشاعة الحب والسلام وهو ما يؤكده عنوان المسلسل لكن احدى العصابات القاطنة في العراقتخطف ولده الوحيد ويساومونه على فدية مقدارها مليون دولار وهو نفس المبلغ الذي رصده غالب بحري لجمال لكتابة روايته فيربط بين الأمرين فيستجيب للأمرمرغما ويكتب روايته كما أراد غالب بحري والتي لو خرجت للآفاقلأحرقت الأخضر واليابس ولكن يد القدر التي يؤكد عليها الكاتب كثيرا هي منتقف بجانب الانسان العراقي فتمنع نشر الرواية لخروج ولده من قبضة خاطفيه وبالتالي زوال السبب المحرك لكتابتها في صورتها المدمرة وفي نهاية المطاف يكتشف الدكتور صبري ومن لسان مدير المشفى ان جمال عبود ليس بكاتب فقط بل كاذب أيضا فكل ما سرده عليك ما هو الا احداث روايته الحب والسلام وكل شخصياته من صنع خياله وجمال عبود هو في حقيقته كاتب عراقي صدم بالانفجار الكبير الذي لحق بشارع المتنبي نتيجة عمل إرهابي وراح جراءه الكثير من أصدقائه المثقفين والعاملين في هذا الشارع مما سبب له حالة جنون هستيرية أرغمت اهله وذويه لنقله الى احد المستشفيات السورية , والممرضة التي اكتشفت حالة الانتحار في بداية المسلسل هي الزوجة الوحيدة لجمال .
ثيمة العمل الحقيقة تكمن في حقيقة المثقف الذي يصفه جمال بأنه( اخطر من الطلقة وعندما يهزم المثقف تخرب الحياة ) وهذا ما تعرض له جمال من ابتزاز على طول سيره في عالم الأحياء وهو المثقف والكاتب الروائي الشهير حيث كاد ان يهزم وكاد ان يفجر الكون بأسره وهذا الأمر يقودنا الى عمومية اكبر وأعمقفالانهزام له أسبابه الاجتماعية والأخلاقية والبيئية والعوز والفقر والذل والقهر وكل هذه الأسبابتخلق نموذجا للمثقف الحاقد على كل شيء في الحياة , سلاحه ليس قلمه بل إزميل ومطرقة يخرب بهما ما يشاء من صروح مكتملة البناء او في طور الاكتمال وفي محل الشاهد وأنا اكتب الان أتذكر فلما أمريكيا عنوانه النمل القاتل عرض في ثمانينيات القرن الماضي , فالنمل الذي لا يمثل تهديدا يذكر للإنسان وهو يعيش منفردا بمجمعاته السكنية المنتشرة على سواحل البحر تحرشت به حقارة ونذالة الانسان لتصنع منه وحشا يدمر ويقتل كل ما طالته يداه من خلال تناوله لمواد سامة ألقاها الانسان نتيجة لغرق السفينة التي تحملها وهي باتجاه التخلص منها في بقعة معينة على البحر مما يؤدي الى نموه بشكل غير طبيعي فيزداد طمعه بعد ان كان يكتفي لفترة طويلة بجلب شعيرة حتى ينقلب السحر على الساحر ويصبح الانسان احد ضحاياه , اذن المثقف يمكن ان يكون ضحية في مرحلة ما لكنه قد ينقلب الى جلاد في مراحل عدة نتيجة للضغط الخارجي للمجتمع ولسياسات ابتزاز حقيرة من الدولة المعوجة وكان لتلك السياسات موهبة فذة في صنع أعداءها بنفسها ورغم هذا وذاك فان الكاتب اللامع حامد المالكي وهو باعتباره احد المثقفين ومن خلال الرغبة والطموح والأمل والتمني بان يكون الانسان وبالذات المثقف عامل إشاعة للفرح والحب والسلام لا عامل من عوامل التخريب من خلال إسقاطه حرف الراء المتواجد في رواية الحرب والسلام للكاتب تولستوي لتصبح العبارة الحب والسلام وكأنه يريد ان يقول ان الجميع لديه رغبة للعيش بسلام وان يكون الحب القاسم المشترك لتوجهات أهلنا في العراق وما هذه الحروب التي التهمت الأخضر واليابس إلا من صنع آخرين قادمون من مجاهل الحفر ومستنقعات الرذيلة والانحلال فنحن شعب محب ومن كان محبا لا يعرف الكره او على اقل تقدير الحب والسلام هو أمنية ستتحقق لا محالة ان عاجلا او آجلا وهذه الوظيفة الحقيقية للمثقف , وهي بالتأكيد وظيفة الكاتب حامد المالكي .
والان اريد ان أبين ماهية وحقيقة تفكير الكاتب حامد المالكي وطبيعة أدواته قبل الخوض في تفاصيل العمل حتى يعرف القاري تبعية الجمال والقبح التي ستطالعنا صورها من خلال النقد للعمل أدبيا وفنيا ومن هو المسئول عنها ,حامد المالكي يتوقف عند تعاريج الحياة ممسكا إياها من شعرها المتهدل المسترسل على الأكتاف كابحا عجلاتها المتحركة عند نقطة ما رامٍ برأسها في مغطس الفكر لتتشكل الصور والمعاني في تداخل جمالي كبير , ومن خلال هذه التركيبة المتموسقـة يقودنا الكاتب الى الإيحائية الدلالية في استنباط الفن الجمالي وفهم ديناميكيته والتي تتجه بنا الىعملية حصر وتضييق واختيار وتنقية لجميع الصور ومعانيها المتواجدة في الحياة لأنهاذات طابع فوضوي عارم مليء بمداخل ومخارج متعاكسة ومختلفة ومشتتة ورغم جمالها الا ان هناك من الجمال ما يستدعي تواجد حرفي متمكن من أدواته رسام بالفطرة يمتهنالتنظيموعلىيديهتبدوالأشياءالفوضويةمتناسقة وانتمايزتعنالواقعلتكون في النهاية صورة فخمة رغم الحصر والتضييق الا إنها مبنية على النظام والجمال وكما قال أرسطو ((الجميل يقوم على الفخامة والنظام)) .
حامد المالكي لا يجانب الحقيقة ولا يدير ظهره للواقع بل كل ما يتقاطر من محبرته من كلمات هي في أصلها واقع و حقيقة رغم ان هناك من الحقيقة ما لا يراد لها ان تكون حقيقة مع تواجد الخيال والحلم اللذان هماساحة الإبداع والدراما تبدأ بهما وتنتهي بهما ,فقد تكون نموذجا من الحياة الا إنها بالتأكيد لا تكون الحياة نفسها إنها عمليةباطنيةبحتة ولديناالكثيرمنالمسلسلاتالعراقية التي سقطت في ((الكوبي بيست)) الأصم للتاريخ وخاصة عندما يتم تناول التاريخ بأدوات غير محترفة تريد شهرة متعجلة ولا داعي لذكرها حتى لا نوصم بالانحياز, اذن الكاتب حامد المالكي يستخدم الدراما لتوجيه تجربته التصويرية الانطباعية مضيفا لها تجارب الآخرين ولكن بسلاح الخيال والتعبير التجريبيين أي انه يستمد مادته من الحياة والتاريخ الا انه لا يعيش عليهما ومن هذه الأدائية التراكبية كان لحامد أسلوبه الخاص والذي يمثل ظاهرة لا يمكن لها ان تخبو بأي حال من الأحوال فلذلك تولدت لديه قدرة خرافية في صناعة مشاهد مجايل مفترض من كل بقاع العالم مفترضا موحدات ومشتركات يعجز الآخرون عن اكتشافها في الذاكرة الجمعية.حامد المالكي يتنقل بين ثابت ومتحول رافعا علم الحداثة متخطيا المصالحة مع المحيط الدرامي في طريقة الكتابة أو كيفية المعالجة السوسيولوجيا لواقع الإنسان الكوني مع تجليات مبهرة متجددة في اختيار موضوعة العمل وكيفية تناوله تلفزيونيا , فالحداثة لديه ليست تمردا على الشكل والمعنى إنما هي تحرر وانفلات من مألوف لا يقف على ارض صلبة ولم يعد يقاوم التيارات الحديثة في التفكير واستخلاص المعاني ..التمرد والحداثة لدى حامد المالكي ليس سحق الماضي والترجل عن صهوة الارتباط به أو كما يقول الفلاسفة السير باتجاه النجمة ولا غير ذلك على اعتبار ان الزمن له خطه الايجابي باتجاه الأمام وهو ما اسميه بالانسلاخية .. أي نعم هو يتجه للنجمة بروح المغامر لا المقامر لكنه يحمل الماضي تحت إبطيه وهو احدى الشجيرات التي يستظل بها بين حين وأخر لأنها مازالت تطرح الثمر الطيب المذاق .. التمرد لدى الكاتب حامد المالكي هو غوص في أعماق الحقيقة لتتولد مفاجآت وإستفهامات غائبة عن هذه العقول المثالية والتي أراها تقف عاجزة عن تقصي كنه أسرار هذا الكاتب الخرافي .. ولكن قد يتولد نتيجة لما قلت رأي مفاده ان هناك انفصال عن المحيط نتيجة لنظرية ((خالف تعرف)) والجواب مع كبير ثقة ان الانفلات والانفصال والتفرد لم يأتيلأجل غايات وإمراض نفسية إنماأتى عن طريق دراسة وتمحيص نتيجة تراكم الخبرة والتلاحم والتلاصق مع حيثيات الانسان وحياته نتيجة هم كبير ألقى بضلاله على ما يكتب , وهناك الكثير من الإشارات التي يرسلها قلم الكاتب يمكن ان نفهم منها طبيعة وتركيبة ما يفكر به ومن خلال ما سيرد ذكره لاحقا في العملية التفكيكية للنص والعمل بشكل عام.
أول عبارة يشرأب عنقها أمامنا هي عبارة مدير مشفى الأمراض العصبية في سوريالكوثر الممرضة وزوجة جمال عبود المجنون وهي في طريقها الى غرفته لقيادة صبري إليه الذي يبحث في أسباب انتحار المرضى النفسيين (( اذهبي مع الدكتور صبري وابقي بجواره حتى لا يعتدي عليه جمال العراقي فجمال عبود جميعه على بعضه حالة مختلفة )) كما نعرف ان جمال عبود عراقي والإشارة باختلاف حالته كأنه يقول بعد إسقاط اسم جمال من العبارة ان العراقي مختلف عن أسوياء البشر وهو غوغائي بطبعه شرير بالجبلة ناقم على كل شيء فلا محالة سيعتدي على الدكتور رغم ان جمال ومن خلال الحلقات الأربع والثلاثين لم نشاهده يعتدي على احد من نزلاء المشفى أو الأطباء والممرضين وكأن مدير المشفى يستعرض سيرة أسد من اسود الرافدين المتوحشة التي لا تستأنس بالغير مستعرضا حروب الزمن الآفل العدائية.. مما يوحي بأن حماقات النظام البائد برمتها أصبحت تلقي بضلالها على سيرة العراقي أينما حل وكأنه هو المسئول عن كل ما يجري للبلد من حرق وتقتيل وإشاعة فوضى وخراب وهذا الأمر يذكرني بالازدواجية في التقييم لدى العرب بالذات عندما كان يذهب العراقي للأردن ومصر والخليج في سني العقد الثمانيني للسياحة او العمل او النشاط الفني فيصعد احدنا في سيارة أجرة مباشرة يقوم السائق بعد معرفة (((عراقيتنا )))) يحلف بأشد الأيمان بمجانية الأجرة للعراقي لماذا لأنه الجندي الشجاع البطل الذي يدافع عن البوابة الشرقية بمواجهة العدو الطائفي لهم وهو إيران وعندما انتهت الحرب مع إيران استحوذ صدام على الكويت باسطا يده عليها انقلبت الموازين فأصبح المواطن العراقي يهان ويباع ويشترى في الساحة الهاشمية الأردنية كأسفل وأحطالمخلوقات أما صدام حسين وإذنابه الذين هم من حطم الهيبة العراقية يعاملون كأبطال وشجعان أينما حلوا في الديار العربية وعلى لسان أهلها وحتى في الكويت التي جعلها صدام حسين المحافظة التاسعة عشر ترى من ينظر لصدام وحكومته وحزبه الفاشي بنظرة تختلف عن المواطن المسكين وما السنون العشرة الماضية بعد السقوط الا خير شاهد على العنف العربي اتجاه العراق بأسوأ ما تحمل الكلمة من معنى رغم ان سبب الخلاف وهو صدام وأذنابهوالذين قد ركلتهم أقدام العراقيين الى مزبلة تحتضن ثلة الأقزام التاريخيين من أمثال فلان وفلان , إذن المنظومة العربية الموغلة بدماء الأبرياء العراقيين ما زالت تسير على نهج السابقين وكل ذلك وغيره يعمله العرب في محاولة لتفتيت بنية العراق واقتصادهوحضارته لا لشيء الا لان العراق وشعبه هو منارة الدنيا وزهوها الدائم وأناأفسرها بأنها غيرة وحقد دفين رغم سذاجة العبارة , ربما يعترض علي الجميع بهذا الرأي ولكنني أقرا ما بين الحروف وليس السطور وهذه مهمتي الحقيقة في الكشف والتحليل وسترون صحة دعواي في قابل الدراسة . فالكاتب يؤكد من خلال طرحهالفكري ليس بواقعية الحدث وصوره ومعانيه بل بإمكانية وقوعه ولو بعد حين ولكن ليس قفزا على الحقائق .
يلتقي الدكتور صبري بالعراقي جمال في غرفة علاجه بالمشفى طالبا منه مساعدته في الكشف عن أسباب انتحاره ليرد عليه بعبارة ( المساعدة شيء نسبي ) لتقودنا هذه الجملة الى أفق رهيب من حقيقة العلاقات الإنسانية المبنية على النفعية المتبادلة فكر رأسمالي خانق لقيمة العلاقة الإنسانية التي ذبحت في زمن متخم بالقذارة .. بقدر ما تنفعني أقدم لك المساعدة .. المساعدة تحتكم الى المزاج وحقيقة الجوهر وللخلفية الثقافية والإيديولوجية لدى الإنسان بشكل عام فما بالك بالعراقي الذي لديه كل شيء نسبي غير محكوم بضوابط وقواعد عامة يمكن الالتجاء إليها , ليتم الاتفاق على تزويد الدكتور صبري ولنسمه صبري فقط لأنني امتعض من الأطباء كثيرا بسبب صورة سيئة اكتنفت مخيلتي منذ دهر من الزمان واجدها ثقيلة على لساني كلمة دكتور للمتاجرين بحياة البشر , الاتفاق بين الاثنين يقضي بتزويد جمال بعلبة دخان مع كل زيارة يقوم بها صبري الى المشفى ليشرع على أثرها مجنون العراق في سرد روايته بعد ان اقنع الدكتور بعدم أهمية معرفة أسباب الانتحار دون الخوض في رواية تفاصيل المرارة الإنسانية التي رافقت حياته ليستجيب صبري في متابعة سرد قصة حياة جمال مدة أربع وثلاثين حلقة في عملية فرجة من نوع أخر مبنية على الاستغلال المتبادل بين صبري وجمال بشكل يقترب من حكايات إلف ليلة وليلة أي ان جمال يحكي كل ليلة جزء من الحكاية ويقطعها عند نهاية معينة مثيرة تغري المتلقي الافتراضي وهو صبري بالمتابعة القسرية وجر المشاهد بطريقة سحرية لتحري مفصليات العمل وكما يقول جمال مختتما حكايته في كل حلقة ((هل ما زالت الحكاية محافظة على عنصر التشويق))لكن الحقيقة وهذا امر يجب الاعتراف به لإعطاء كل ذي حق حقه , هنا عملية تناص في المعنى الميثيولوجي بين طريقة سرد جمال وشهرزاد لحكايتهما لكن المادة المحتواة تختلف بصورة مطلقة وباتجاهات متعددة ففي ألفليلة وليلة الحكاية مبنية على الخيال المتعارض مع الواقع والغير قابل للتحقيق في أكثرالأحايينأما في الحب والسلام فهناك الم لم يزل يتجول في أنحاء جسد الوطن وجرح امتلأ ملحا ولم يشفى للان , في الأولى تسلية مبنية على الدعة والبطر وفي الثانية هم تجلى بصورة نص تلفزيوني مشبع بهم عاشه الكاتب بكل تفاصيله هم ارتقى على سواعد أتراب الكاتب ذوي الأعمار الغضة فكبر معهم طول بطول كما يقولون حتى خرج عن الحد فأركسهم في قاعه فبات الخلاص أمرا مستحيلا إلا عن طريق سرده للآخرين وحتى لا يكون الكاتب حامد المالكي وأترابه كلعبة الصبر التي انفجرت لعدم استيعابها هول الهم المستطيل على شغاف القلوب.
الجميل في اختيار الكاتب لجمال العراقي كراوٍ لحكايته واختيار جمال الكاتب كبطل لها ان الاثنين في واحد , وجمال الأول والثاني هو ليس فرد محدد بل هو إنسان من نمط معين تتجسد به خصائص معينة , انسان عالمي مأساته عراقية قابلة للشمولية والاتساع بمديات عريضة لذلك يعلو حامد المالكي بفنه على ما هو جزئي الى ما هو عام شامل فلم يصورمأساة شخص اسمه جمال بل صور شكلا لمأساة في شخص اسمه جمال وهي صورة جزئية لكن بإطار كبير تتحد فيها الصورفي صورة إنسانية واحدة على اختلاف الكاميرات التي صورتبها وعلى اختلاف أعين المشاهدين التي تبصرها.
نتيجة لاتساع نطاق الرؤيا ببصيرة الحكيم والإستمكان من مواطن الحرية والاختيار تعمق الخطاب الإيديولوجي للكاتب ليصبح ثريا بالدلالات والإحالات والتأويلات مستكشفا ومتبنيا عالما من الضدية التي تنامت مع محيطه الأدبي والفني في تناول الموضوعات على صعيد الشكل والمعنى انعكست على بطله مجنون العراق جمال الذي أفرزت لنا حياته من خلال روايته لصبري هموما وحالات نفسية متأزمة تشكلت نتيجة التأثير السلبي للواقع الخارجي عليه لتتطور الى سلوك مضاد في تجاويف الأنا والذات مع بعضها وتضاد مع المحيط الخارجي لتتولد صراعات وانهيارات في منظومة العلاقة بين الفرد والمجتمع , بين المثقف والمحيط .
في طريقة فذة لترجمة الحوارات الملغزة ذات اللغة العالية وفي سؤال صبري عن سبب الانتحار يجيب جمال بضحكة ساخرة طويلة وكأنه يقول ((كيف يغيب عن ذهنك سبب انتحار العراقيين))مبينا له سبب الانتحار بجملة تشع بالصور المغمورة في وحل الذاكرة ربما تبدو غامضة لمن لم يكتوي بنار المعاناة في بلد كالعراق ( كنت ابحث عن حياة أخرى خالية من رائحة البارود ومنظر الدم ) نعم فقد كانت حتمية قدر العراقيين تتلازم مع البارود الذي ينثر الدم شلالات لا يجف منبعها حتى إننيأتذكر للان عندما كنت طالبا في الأول متوسط في نهاية عام 1980وبجوار مدرستنا بستان لمزارعين بسطاء اتخذته القوات العراقية التي تمد جبهات الشيب والطيب والفكة بالعدة والعدد وبعد مغادرتها بفترة وجيزة وبعد تخريبها للبستان وإحالتهإلى التقاعد كجنينة كانتكالكحل للعيون وثمة خوف وفضول يحثان براءتنا لاقتحام البستان وهناك وجدنا نوع من الحشواة البارودية لقذائف الدبابات والمدافع تركها الجيش فارتبط البارود بشخصيتنا ورحنا نستنشق عبق رائحته كأعذب عطر خلقه الله وكأننا بطل رواية العطر لتتحول عيدان البارود لعبة مثيرة نلعبها كحروب طاحنة فيما بيننا فكان أكبرنا جثة يأخذ دور أمريكاوأنا فلسطين والآخر الصين والأخر بريطانيا وكنا نستخدم الأطلس لاختيار المدن التي تدور حولها الحرب وكل الحروب كانت تحدث في فلسطين وكل يوم نختار مدينة فلسطينية حتى لم يبقى شبرا من فلسطين لم يحتله ذو الجثة الكبيرة حتى اعتادت أنوفنا وعقولنا على استنشاق البارود ليصبح من حيثيات شخصيتنا في الرغبة في الإحراق والتدمير.. وهذا ما يريد قوله البطل جمال , فبعد تخرجه من الكلية وزواجه بحبيبته نادية التحق بخدمة العلم أو بالأحرى خدمة النظام التوتاليتاري الصدامي هذا النظام الذي ارتبط بالكائن الأسطوري المتوحش الذي نصفه الأعلى بهيئة ضبع والنصف الأسفل شبيه سرطان رملي زاحف ينفث النار من فمه والذي لا يقدر عليه إلا صانعه وفعلا لم يتمكن من القضاء عليه أي على نظام صدام الشمولي إلاأمريكا فهي من صنعته وهي من تقضي عليه ولكن قد يغيض كلامي هذا بعض من مدعي الثورات والتشدق بالنضال وتحرير العراق فأقول لهم ( اصمتوا أيها المتسورين لمحراب الجهاد والمقاومة فأمريكا تحيي وتميت وتميت وتحيي وهي حي لا يموت ) وهي دعوة لهم لمراجعة التاريخ الحديث.. ومن خلال الاسترجاع ألذاكراتي في لملمة أحداث مرت بالكاتب وبكل أقرانهوأنا واحد منهم وبث الحياة بها صورا هي في حقيقتها ليست نقلا للتاريخ او تفسيره إنما هي آثار لم تندمل في شريان الحياة الذي باتت الندب تملأ مجراه فكانت هناك صورا مؤثرة لمركز التدريب الأساس الذي شهد التحاق جمال ورفاقه بالخدمة الإلزامية ولمدة وجيزة للتعجيل بزجهم إلى محرقة جبهات القتال التي تصرخ بالموت هل شبعت ليرد عليها هل من مزيد ليكون الاعتراض على كل ذلك وعلى لسان جمال (( إن الموت هوالمنتصر الوحيد )) .
بعض المشاهد نقلت لنا الطريقة المذلة بتدريب الجنود في محاولة إذلالهموإخضاعهم بشكل يدعو احدهم كي يسخر من الآخر ,كما زودتنا المشاهد الصادقة لتلك اللحظات المريرة بمدى حقد المنظومة العسكرية المتمثلة بالضباط والعرفاء على كل من يملك شهادة دراسية مدنية لسبب واحد .. فاحدهم يحتقر نفسه للبسه الخاكي طوال حياته وهو كالقرد يقلد حركات القائد الضرورة خاسرا الحياة الجميلة التي كان يعيشها الخريج متنعما بها وهو محروم منها حتى يصل الأمر بأحد العرفاء وهو يرد على احد الجنود المتخرج من إحدى الجامعات والممتعضين من طريقة تعامله معهم بعبارة يعرفها جميع العراقيين (خريج مريج كلها تشرب بالبريج) وكلمة ابريج تعني إبريق وهو الإناء المستخدم في الإستبراءوالاستنجاء من البول والغائط في بيت الراحة وهذه عبارة يستخدمها الضباط والعرفاء للامعان بالنيل من كبرياء وكرامة الجندي ولا فرق لديهم بين جاهل ومتعلم الكل سواسية وقد نجح الكاتب والمخرج في إظهار هذه الصورة بشكلها المأساوي في أوضح تعبير .
حامدالمالكي وضع إصبعا خجولا وربما محتاطا على الجنس وإصبعا على التاريخ والمجتمع وكل له خصوصيته الفكرية والدلالية من خلال تصوير مديات الحقارة المتعمقة لدى الكثير من رجال هذه المنظومة المنحرفة في التعامل مع بعض الجنود ذوي الامتيازات الخاصة كملاحة الخلقة وإسقاطهم في وحل الاستغلال الجنسي وبعكسه سينالون اشد العقوبات وهذا ما درج عليه قلم الكاتب في التحلي بالجرأة في طرح ومعالجة الموضوع الجنسي في الخلفية الأخلاقية لدى العراقيين في جل أعماله ويتأكد هذا الطرح من خلال علاقة النائب ضابط سليم مع الجندي وسيم وهي علاقة استغلال جنسي بأبشع صورها عانى منها وسيم كثيرا كانت نظرات عينيه تشي بالرفض والاستنكار لتتحرك كوامن الحقد المتبادل بين الجندي والمنظومة العسكرية فيقرر الجندي وسيم تصفية ن.ظ سليم بطعنة سكين قضت عليه في الحال وكأنه نفذ تطلعات شعب بأكمله في رفض خسة ونذالة هذه المنظومة الموبوءة بكل عار وشنار مما أعطى الدلالة على الكبت الذي يعانيه الجندي اتجاه الضابط او العريف وحتى وقتنا الحاضر وكل ذلك بمرأى ومسمع جمال الذي قال تعليقا لهذه الحالة وهو يصف الضباط محذرا من يستمع لكلماته أن لا يأخذه العجب بنفسه في استصغار الآخرين والنيل منهم بالكبرياء الهدام فالنهاية واحدة وحتمية للجميع .. ((يتصرفون بكبرياء رغم ان الموت الذي يخطفهم في النهاية هو موت واحد)).
في لجة الاستنزاف الروائي للحكاية يطلق حامد المالكي جملة على لسان جمال واجه بها المشاهد كانسان وواجه بها صبري كدكتور يريد استدراجه كي يبوح بما احتوته ذاكرته المكبوتة من حكايات((لماذا يحب الإنسان سماع مآسي الآخرين ربماالفضول او الخوف من تجارب أو تعاسة الآخرينأن تنعكس على تجربته وتعاسته )) بخصوص المأساة كنت أتمنىأن تستمر أحداث الجيش والشمال وبغداد وما يرافقها من الم ومواجع او يتوقف المسلسل عند هذا الحد رغم أنانية التفكير لدي , كنت أتمنىأن تستمر مأساة الجمال بهذه الصورة وكأنني أتلذذ بسماع مصيبة بطلي لا أريدهأن ينتقل لمصيبة او مشكلة اخف وطئا لان تركيا وسوريا شهدت استقرار وراحة من نوع خاص لجمال لذلك كنت أريده أن يبقى في العراق .
حدد الكاتب أمرين يمكن لنا أن نناقشهما بروية فتعليله الشوق والرغبة في الاستماع للمأساة بسبب الفضول رأي قابل للاعتناق والاعتقاد وهي حالة مؤشرة في مجتمعاتنا فما ان يباشر احدهم بسرد حكاية ما إلاأصغى الجميع لها من كان مشتركا بالحديث أومن لم يشترك وهذه سليقة لدى أكثر العراقيين في الذوبان مع الراوي في سرد حكايته ومبعثها بلا شك الفضول , مما يقودنا إلىرأي مفاده أن هناك نشاط فكري متوثب خلاق يمتد به الكاتبالىعوالم مثالية بين الحوارات وانتظام متسلسل له إضاءة ساحرة في انسياب العبارات على لسان أبطاله مع وجود الكم الهائل من الحكم و الانطباعات الإيديولوجية التي تطفو بشكل واضح على لسانيات جمال المجنون , وهنا ايجابية حامد المالكي في ضخ سيل من السوسيولوجيات العراقية في بنية النص رابطا مرتكزات العمل بقوة لا يعتريها الترهل رغم ان الصيغة الجمالية واليقين الفكري اللتين استخدمهما الكاتب في تداخل جراحي في سبيل توحيد حقيقةالشكل والمضمون في إطار واحد يتوافق مع الحدث والنزيف الزمني بما يعين على التوقع والتشويق اللذان هما من أساسيات الدراما ولو إن هذا الأمر جرى مع غيره من الكتاب لأرهقهم وشتت توجهاتهم وهي نقطة في صالح المبدع حاد المالكي بالتأكيد, أماالأمر الثاني المعلل للحالة وهو الخوف من تجارب وتعاسة الآخرينأن تنعكس على تجاربهم ومآسيهم .. لا اعرف كيف وظف الكاتب قضية الاستماع الى المأساة كحل للذي يخاف أن تصيبه مأساة الآخرين ولو من طرف خفي فالخائف متشائم بطبعه فكيف به يحبذ سماع مأساة ستطاله لو استمع إليها وفق خلفيته الثقافية المعتادة بالامتعاض من سماع مصائب ومشاكل الآخرين ولكن قد يكون الكاتب يريد ان يقول بسماع المأساة ستكون للمستمع الخائف تجربة واكتساب خبرة تقيه مصارع السوء او هو كما قلنا سابقا بخصوص التطهير التراجيدي ووظيفته في رفع بعض من معاناة المتلقيورغم هذا وذاك فاني اعتقد ان هناكحواراتفارغةغير مثمرة تتواجد كعثرات ونتوءات بين طيات العمل لاتحتكمالىالمنطق او العقلانية .. أعزوأن يكون الخلل من خاصة الممثل في نسيان كلمة او حرف اخل بالمعنى العام للجملة وهذا تناقض مع الاشراقات الجلية لحوارات أخرى لنفس الشخصيات وإذا تأكد هذا الأمر فهناك عدم مبالاة من قبل المخرج في الانتباه الى حوارات الممثلين وهو امر سيء بالتأكيد واعتبره احد معاول التهديم الفني التي احذر منها دائما.
وعكس الجزء الآنف من مقالتنا كان هناك بيانا وبلاغة ساحرة استخدمهما الكاتب بين طيات حواريات جمال المجنون أيقظت العمل فاستوقفت جميع المشاهدين ما بين جاهل وعالم متأملين على نحو الدهشة والإبهار , فالجاهل كثيرا ما تراه مشدودا لكلام المجانين كساخر منهم وبالتالي هناك متعة ما يحصل عليها هذا النوع من المشاهدين , والعالِم تراه سعيدا إذ يرى العلم على لسان المجنون لأنه مدعاة للمتعة البلاغية كالذي يستمع شعرا بليغا من مجهول وبالذات الضعيف كالمعوق اوالطفل او المرأة فهو ينشد بالكلية مسترسلا مع ما يسمعه كما انه يرى صورته الحقيقة في ذلك الشاعر او المجنون ولو بعد حين على اعتبار إن أكثر المعرفيين يوصمون بالجنون لفيض معلوماتهم الشخصية وهم في أصل شخصيتهم مجانين حقا لأنهم في تضاد مع الحياة بكل صورها كما ان حكمة وبلاغة جمال شيء خارق بالنسبة لكل المجانين من أصحاب الأدوار الحكيمة في الأعمال التلفزيونية فلم نرى لأي مسلسل أخر هذا البعد الفلسفي والأخلاقي لجميع كتابنا العرب في ان يكون المجنون بهذا المستوى او يكون العمل بهذا الكم الهائل من الجمل الفلسفية الحقيقية النابعة من تجربة أصيلة والتي تفسر الكثير من الاعتلالات النفسية والفكرية للإنسان .
ولو أردنا أن ننسف كل ما قلنا بحق جمال بخصوص جنونه ونقول حقيقة ربما تكون غائبة عن الأذهان وهي إن جمال ليس بمجنون وقد اتخذ من هذا المكان مفزعا يبعده عن عامة الناس ممن تلوثوا بالأحقاد والشرور والمطامع الغير مشروعة لأنه انسان محب للسلام محب للحرية رغم إن المشفى سجن آخر من الناحية المكانية الا انه يجده اكثر ملائمة لممارسة حريته التي صادرها الزمن بمعية الناس ليكتفي من الحب بما وفرته له زوجته الممرضة كوثر الا إننا نصطدم بحالة الانتحار التي فيها اراد التخلص من عالمه المر الصاخب العنيف الى عالم لا تتواجد به رائحة البارود ومنظر الدم , فنقض ما ذكرناه بشان المفزع والملاذ في المشفى لنعود من جديد ونسلم بان الحياة بأسرها لدى جمال وفي كل مكان من هذا العالم لديه سواء وان لم تتواجد صور المأساة في كل الأمكنة الا ان الذاكرة تعن عليه بمطرقتها لتتشابك صور الأمكنة الماضية في مكان تواجده وكانه يقول لا يغرنكم ما ترونه من زهو وجمال وحب وسلام في سوريا فأنها تسير نحو المجهول العراقي الذي تاه به كل من حطت قدماه على أديمه الملتهب فلذلك أردت التخلص من تواجدي في هذا المكان قبل ان يحل ذلك الموعد ألخرابي .
اذن هنا كم هائل لا يعد ولا يحصى من المزدوجات الانطباعية لدى المشاهد اتجاه جمال لأنها مستقاة من جمال نفسه المتخم بالمزدوجات الفكرية المتأزمة المتصارعة وهذه قيمة الدراما على وجهتها الصحيحة التي يعول عليها الكاتب في أرشفة خلجات النفس الانسانية من خلال شخصية جمال .
في اكثر الأعمال او كلها يقوم الكاتب بتصوير شخصية البطل او بقية الشخصيات الثانوية او حتى الكومبارس بموقف ثابت من الناحية الأخلاقية او الثقافية او النفسية او طبيعة الحوار وكل ما يتصل بها من فعل وانفعال وهنا يصطدم الكاتب بتحييد الواقع المحرك للدراما فشخصية الخير تبقى من بداية العمل الى نهايته هي شخصية خير او العكس وحتى منطق التفكير لهذه الشخصيات واحد موحد لا يتجزأ فلا يختلف فلا تتواجد الدراما المطلوبة فالأمين لا يمكن ان يكون خائنا والخائن لا يمكن ان يكون أمينا والصادق لا يمكن ان يكون كاذبا والكاذب لا يمكن ان يكون صادقا والجبان لا يمكن ان يكون شجاعا وغيرها من صفات الانسان لكن الكاتب حامد المالكي خرج من ربقة هذا الطوق بان شرع الابواب امام ظواهر وبواطن الشخصيات كي تنطلق وفق ميول إنساني لا دخل لأحكام الكاتب في بلورتها وربما تظهر ردود فعل غريبة لهذه الشخصية او تلك وبشكل مفاجئ تغير من تعاطف او انطباع المشاهد كما في شخصية جمال على سبيل المثال لا الحصر فتراه صادقا , كاذبا , مجرما يريد الانتقام والقتل , مسالما وديعا أحيانا تراه في قمة الجبن والتخاذل واخرى شجاع لا تلويه الرياح , أحيانا يمزح وأحيانا جاد في عمله , تراه مرة عاشق ولِهٌ لرؤية حبيبته وأحيانا يتمتع بقسـوة اتجاهها تفصم عرى المحبة بينهم , أحيانا واثق من محيطه الانساني واخرى يشك حتى بنفسه اذن هناك سيل من المتناقضات التي تعكس حقيقة الانسان ولكن الامر المهم انها تتوافق مع المنطق والضرورة الدرامية وقد نجح الكاتب في ذلك أيما نجاح وكل ما خرج بهذا الخصوص اثري العمل وطور الصراع .. و . هـ . م .
ثمة شيء استوقفني في طبيعة جمال الراوي وجمال المبتلى بالأحداث والمترع بأوجاعها فهذا يتكلم فلسفة وحكم قل نظيرها وذاك لم نرى منه على طول المسلسل سوى بعض العبارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع, وكذلك تمايز بين طبيعة صوتيهما في الحديث فصوت جمال المجنون مبحوح وكانه ترجيع لصوت الشيطان في الجلسات العلاجية الروحانية للممسوسين وصوت جمال العاقل او المبتلى صوت طبيعي كباقي البشر , هناك برود واسترخاء لجمال المجنون وتشنج وخوف وتردد لجمال العاقل , هناك وثوق لجمال المجنون وهناك شك وريبة لجمال العاقل فساحة الفعل والإحساس مليئة بما يعكس طبيعة الانسان او مجموع طبائع وأحاسيس البشر قاطبة هناك توليف من الكاتب لتواجد ما أسلفنا بين طيات الظاهر والباطن للجمالين وهذا التمايز فيه دعوة للتشويق والإلحاح على المشاهد بالمتابعة المتجلية الكاشفة للغامض والمبهم واستقاء الدروس ولتأتي الإجابة بان جمال الثاني ليس الأول وإنما هو صورة متشظية منه , ومن خلال هذا الاكتشاف في نهاية المسلسل يتأكد قول القائل(خذ الحكمة من أفواه المجانين)وكأن الكاتب يريد ان يقول..المجنون هو من يتكلم بالحكمة والعاقل هو من يتبع المجنون في توجيه بوصلة تفكيره وفق الخطوط التي رسمها, بما معناه ان المجنون هو المنطق الحقيقي للعاقل , إضافة لذلك أرى ان الكاتب حامد المالكي يريد ان يقول ان جمال الكاتب هو عاقل يعرف ماذا يصنع وأعماله هي ابتزاز أموال وضحك على الذقون للقراء الذين هم مجانين بالفطرة لإهدارهم وقتهم بكتابات يعتقد الكاتب بعدمية جدواها مع استنزافهم لوقتهم الثمين وتصفير جيوبهم التي هي بالأصالة ناشفة من الدولار علاوة على الدينار والدرهم وكانه يوجه الاتهام لبعض الأدباء ممن استخدموا منجزهم الفكري سلما للوصول الى غايات اقل ما يقال عنها انها حطام من سفاسف الدنيا..اذن من هو المجنون ومن هو العاقل وكيف يمكن لنا وبأيآلية و أدوات يمكن ان نميز بينهم … فلسفة عميقة يحيلنا الكاتب عليها بجمالية نادرة , ووفقا لما ورد فالكاتب استطاع التخلص من فوضى الأحكام للمشاهد بحيث وجه دفة التفكير لديه وفق سياق ونظام متلازمين على طول العمل .
نعود لأحداث المسلسل , بعد ان ينقل الجنود من ساحة التدريب وعلى عجل الى جبهات القتال وهذا امر قد تداول كثيرا في حيثيات العمل العسكري البعثي في الضخ المتصاعد والمتسارع لشبابنا الغض الى محرقة معاركه وبجرة قلم وكانه تسويق بضاعة الى سوق يلتهم النار نفسها لو كانت بضاعة ليكون نصيب جمال ورفاقه احدى الوحدات العسكرية في شمال العراق حيث حل بهم المطاف في منطقة يصفها احد الجنود بأنها جنة وجحيم فكونها جنة لأنها منطقة جبلية سياحية ذات غابات وشلالات غنية بما لذ وطاب مما انعم الله به على الانسان من خيرات وبكونها جحيم لأنها تمثل محط معاناتهم مع اللون الخاكي والحديد والنار وسطوة وطغيان المنظومة العسكرية بقيادة آمر الوحدة الرائد صكبان كما انها واقعا ارض محاذية للعدو وتحت مرمى العدو ومقبرة حتمية لهم وبهذا الاتصال ثمة مقال لجمال أجج الذاكرة في استحضار جملة من الأحاديث المتبادلة بين العراقيين وهي تختصر عهد طال أمده حينما تستعيدها الناس ممن طالهم شرر نار الحرب من قريب او بعيد وقد نجح الكاتب أيما نجاح حينما عزف ألحانا متميزة على وتر حساس يسمى الذاكرة الوطنية الجمعية ربما يبدو المصطلح ملائم جدا كي يكون اسم حزب ينافس بالانتخابات القادمة أليس كذلك ؟.. (اكثر المتزوجين يخافون من الزواج لأنهم مع أول التحاق لهم بعد إجازتهم يعودون الى أهاليهم وقد لفوا بعلم) نعم فالكثير من الجنود لا يتوقع عودته حينما يلتحق بجبهات القتال لان الموت هناك حاضر لا يغيب وهنا لدي مقاربة في محل الشاهد ان المنظومة الثقافية البعثية كانت تردد عبارة شمسنا لن تغيب وهي في حقيقتها تلميح لمقولة أخرى الموت عنا لن يغيب , وكم كان جميلا ذلك الدفق الكبير من الأحاسيس وأنت تشاهد الجندي جمال وطبيعة حياته العسكرية القاهرة والمتلفعة بعباءة قد بهت لونها اسمها الدفاع عن الوطن حيث كانت الأحداث متصاعدة لا يشوبها الملل الذي تواجد في أماكن أخرى من العمل مع ملاحظة الحالة المنقولة بدقة من الواقع الى التلفزيون والتي نجح الكاتب في رسمها بدقة كما في نقل الجنود بالعربة العسكرية نوع الزيل التي استوطنت عقول وأذهان المشاهدين بقوة في ذلك الوقت كما كانت لأغاني الجنود فيما بينهم في لحظات الاستراحة إشاعة لمعانٍ صادقة تعكس جمالية الانسان العراقي حينما يرتقي فوق آلامه وشجونه ليكون ابن اللحظة يعيش يومه وليكن بعدها الطوفان وهذا ما أشرته بخصوص احد الجنود والذي اسمه عناد فهو على مدى عدة مشاهد شارك بها كان مماحكا بشوشا يروي القفشات والنكات وكثير السخرية للتأثير البيئي الايجابي عليه الا انه في لحظات اخرى لا تعرفه أبدا وبالذات حينما تعتريه هواجس الخوف او الموت في لحظات القصف المعادي مما يبرهن ان العراقيين شعب محب للحياة لكن إدمان استنشاق رائحة الموت جعل الجميع يتوق للخلاص من الحياة ومرافقة الموت الى مجاهل لا يعلم منها شيئا .
ضمن إطار مسمى المكان وهو الوحدة العسكرية أشرق علينا الكاتب بعدة شخصيات وعدة خلفيات ثقافية لكل منها , مع سيل كثيف من التراجم لسلوكياتها وفق نظرة عميقة مترامية تضرب أطنابهاأقصى اليمين وأقصى الشمال حيث كان لميول جمال الثقافي في اقتناء الكتب الفكرية والروايات العالمية ذات التحرش السياسي بالنظام طريقا للتعرف على شخصية الضابط سيف الذي وجد في روايات جمال بعض العزاء له في تعويض ما خسره من حياة جميلة على أعتاب الجيش والعسكر كما ان الروايات كشرت عن مقاصدها التنويرية لذهنية الضابط سيف في اعتناق رأي معاد للسلطة والنظام والرغبة بالخلاص من هذا الجحيم بأي طريقة كانت ويبدو ان هذا الرأي غريبا بعض الشيء على ضابط تعود جذوره وأصوله العشائرية والسكنية الى محافظة يقصدها الكاتب ولا تقصدها الصدفة فسيف هو مواطن من محافظة الموصل المعروفة بحب أبنائها الشديد لارتقاء سلم المجد من خلال الالتحاق بالكلية العسكرية ومزاولة هواية التبختر والتكبر على خلق الله وسببا مهما للاستحواذ على قلوب النساء اللواتي باتت إحداهن لا ترضى بغير الضابط برتبة ملازم زوجا او حبيبا لها كما في مقولة نساء ذلك الوقت من هذه المحافظة (( لو مُلازم لو مَلازم )) بضم الميم مرة وبالفتح مرة اخرى مع علمها انه مرشح وبقوة للاستجابة لدعوات عزرائيل بمغادرة الدنيا والمكث في ارض غصت به وبرفاقه .
سيف هذا قبل على مضض تنفيذ رغبة أبيه في الدخول الى هذه الكلية التي لا يتعلم فيها العراقي سوى الكره والحقد ومناوئة الناس اذن كم من العراقيين اجبروا بقسوة على إقحامهم في تفاصيل هذه المنظومة من غير رغبة منهم , هنا تكمن روعة الكاتب حامد المالكي في البناء الحكواتي القصصي ان كل شخصية لديه هي قصة بحد ذاتها تتفاعل مع كلية الحدث وتجري مجراه ذائبة فيه متفاعلة تفاعلا فيزيائيا كيميائيا يمكن لنا ان نعيد بلورتها في صورة اخرى مع الاحتفاظ باستقلاليتها كما في شخصية سيف وغيره من الذين سنتعرف عليهم في قابل الدراسة .
الرائد صكبان آمر الوحدة العسكرية هذا الرجل الجاهل الحاقد على كل متعلم والذي يسير بالضد من طبيعة شخصية سيف , هذا الرجل وكما يقول الكاتب على لسان جمال (( اعمل بالشك حتى تتحصل على اليقين )) كان كثير الشك بالجنود والضباط لأنه مهدد ان لم يعمل بالشك فهو مرتبط بقيادة مجرمة لا ترحم لو ان مجموعته ارتكبت خطأ ما يسير بالضدية من النظام هذا يعني شطبه من قائمة الأحياء هو وأسرته ومن تبع له بإحسان الى يوم الدين لذلك زرعت أنامله نبتة شائكة وسط الجنود أشبه بالرادار الذي ينقل الإشارات يطلق عليها العراقيون بلغتهم الدارجة لفظة (( الشماشمه او اللوكيه )) وكم كان لهم دور في تغييب الكثير من شباب العراق وهم في حقيقتهم أناس ذووا أخلاقيات منحرفة خسروا كرامتهم على أعتاب رضا المسئول او الضابط لأنه بالتأكيد يحتقرهم لكنه يراهم يدا مساعدة في تحقيق أغراضه المعوجة , والمشكلة التي تغيض ان هذا الجاسوس ليس ببعيد قد يكون زميل او صديق وتجمعه مع الموشى بهم قصعة واحدة يتناولونها بفرح غامر رغم تواضعها وهم بأتم الرضا عن بعضهم تليها لحظات التدخين وشرب الشاي وسرد النكات والمواقف المضحكة وترديد الأغاني الشعبية الأثيرة على النفوس لكنه وبمجرد تركه الموضع الذي يجمعهم يتوجه مباشرة الى أسياده ليشي بأصدقائه , والجندي محسن هو من كان ينقل أخبار الجنود وحواراتهم لصكبان وكان يترصد بطلنا جمال في كل حركاته وسكناته وقد أفضى برواية كان يقرأها جمال الى صكبان فاستخدمها الأخير لابتزاز جمال في زرعه كجاسوس على رفاقه لكن جمال كان شجاعا ولمرة واحدة فرفض الاستسلام لرغباته الحقيرة لتبدأ فصول المواجهة الحقيقية بين الاثنين فيتهم جمال بالشيوعية والعمل لحساب الأعداء او انه جاسوس لإحدى الدول المعادية ليذكرنا الكاتب بعبارة تمثل طبيعة الفكر الصدامي ان من يصلي فهو عضو في حزب الدعوة وهو حزب محظور من قبل النظام والانتماء إليه يعني الإعدام ومن يقرا كتبا أدبية او من كان مثقفا فهو شيوعي .. والشيوعية كلفظ تحيلنا ذهنيا للفظة اخرى اشد لمعانا وأكثر رعبا وهي الشيعة فكثير من جهلة النظام البائد لا يميز بين الشيعة والشيوعية فصكبان جاهل حاقد على المتعلمين ولفظة الشيوعية إما سقطت بالمصالحة وذابت في مدرسة البعث فلم يعد أبنائها ينتمون لها فضلا عن الإيمان بها فليس لقول صكبان معنى يذكر باتهام جمال بأنه عميل للأعداء لأنه شيوعي , وإبان تلك الفترة كان العدو الأوحد هو جمهورية إيران الشيعية , بل انك يا جمال شيعي عميل لإيران وما قراءتك لغابريل غارسيا ماركيز الا للتستر على اتجاهاتك الدعوجية التي تستحق لأجلها سلخ جلدة فروة راسك .. ومن هنا خلق البعث عدوا جديدا اسمه جمال الذي كان مسالما للبعث وكما يختزله إخوانناالمصريين بعبارة ((ماشي جنب الحيط)) لتبدأ سلسلة من التحضيرات الإجرامية للرائد صكبان للنيل من جمال وأولها نقله الى مخزن للمعدات العسكرية في أسفل الجبل مع انتشار إشاعة وجود شبح يتجول قرب المخزن ليلا ونهارا مما اثر معنويا على جمال واستطاع الكاتب ان يستثمر بإبداع لا يوصف قضية الشبح لشد المشاهد مع دعوة مفتوحة لممارسة الخوف وكأن الكاتب يمد يداه ليشد المشاهد من شعره ويلج به شاشة العرض ليكون احد أدواتالإبداع من خلال كبت الأنفاس وتصاعد سرعة نبضات القلب وهو يردد ان العمل ليس لضعاف القلوب .
حينما نتناول قضية الشبح نجدها تحمل وجوها عديدة لما تحمل من تداعيات فكرية وتأويلات إنسانية كبيرة وإحالات دلالية معينة على اعتبار ان الصورة والصوت الماثلان امام المشاهد يؤكدان وجود كائن غريب له صوت يلهث على الدوام فالوجه الأول ان هناك شبح حقيقي ربما يمثل روح احد الموتى المدفونين في هذه البقعة ربما جندي قتل على يد الأكراد او كردي قتل على يد الجيش العراقي او إيراني لاقى وبال أمره حينما ساوره جنونه لاقتحام ارض عراقية عصت على المحتل في كل زمان او ربما صبية جميلة قتلت ودفنت هنا غسلا للعار لشكوك واهية وإذا شئنا ان ننسف ما قلنا فنقول ان الشبح ليس سوى انسان حي يرزق وربما يكون هو محسن الواشي الجاسوس يستخدمه الرائد صكبان لترويض المخالفين من جنوده إرهابيا وهذا أمر غير مستبعد والوجه الثاني ان الشبح الذي أمامنا ليس الا تهويمات اعترت العقل الباطن لجمال فاستفزت مخيلته على التصوير بهذا الشكل للشبح وصوته وكانه تمرد للشخصيات على الكاتب نفسه في خلق مجموعة من الأحداث الغير منطقية والغير واقعية نتيجة لما أودعها الكاتب من خلفيات نفسية وهواجس وانفعالات أعطت المجال لها كي تترجم خوفها وقلقها والدليل ان الكاتب لم يوضح او يعطي إجابات للشبح وحقيقته وكانه يقول ليس لي دخل بما ترون .. فما ترونه هو ترجمة للعقل الباطني لشخصية جمال .
من خلال قصة الشبح ونهايتها بانهزام جمال وعودته مرعوبا الى الرائد صكبان والحكم عليه بأنه جبان علينا ان نؤشر أمرا يحيلنا لتساؤلات عديدة فمن خلال الاحداث العامة للمسلسل هناك عدة صور تمثل ومضة تظهر و تختفي دون كشف وتحليل كما في مورد الشبح وغيرها الكثير لم تتطور لم يتبين المشاهد حقيقتها لم تفسر , لذلك أرى ان الكاتب كان قصديا بتناوله هذه الحالات لغرض تفعيل الدور الفكري الاستنباطي لدى المشاهد في سبيل المناقشة والتحليل الشخصيين لديه بالإضافة الى خلق جو من المتعة الموشاة بالترقب والاندماج بالكلية مع العمل والمحافظة على عنصر الشد والتشويق اللذين هما المادة الحقيقية للدراما والمعين الأول لربط روافد النهر العظيم للحكاية بمجراها الأساسي وهذا نجاح يسجل للكاتب علما ان هذه الاحداث محرك حقيقي للأحداث التي تليها لا تشكل حالة استقلالية تتنافر مع البنية العامة للمسلسل أي ان الكاتب يضع كل شيء في محله الطبيعي وكما قلنا سابقا انه النظام الذي ينشده كل عمالقة الأدب والفن مع توفر خصيصة الفخامة الفكرية والمعنوية لتكون في النهاية إضافة جمالية ساحرة .
وفقا للأحداث المتسارعة والإيقاع المتناغم مع الضرورة الدرامية يقرر سيف الهروب من العراق باتجاه تركيا عن طريق الجبال برفقة الجندي عناد بعد رفض جمال الهرب معهم ليتحقق الفشل للعملية ويعتقل الجميع ويرموا بالسجن , هنا لدي بعض الضوء أسلطه على الواقعة كما يعرف الجميع ان هناك مسافة تكبر او تقصر بين هذا الجندي وذاك الضابط مسافة خلقها النظام لإعطاء بعض الهيبة لمنظومته القمعية وهذه المسافة او الحفرة او الهوة السحيقة لا يمكن ردمها او اختزالها بين يوم وليلة فلا اعلم كيف استطاع سيف ان يثق بجمال وعناد ويعرض عليهم فكرة الهرب ثم كيف استطاع ان يستدرجهم ليثقوا به وكذلك كيف يمكن لرواية واحدة ان تحدث كل هذا التغيير في شخصية سيف بعد استعارتها من جمال وكيف استطاعت ان تشحذ همته وتفتق ذهنه في طرح أفكارأولها رفض النظام وتقرير الخلاص والهروب من جحيم صدام .. لكن ربما يريد الكاتب ان يوضح مسالة غاية في الأهمية ربما تكون غائبة عن الكثيرين وهي ان الحرب مرفوضة من الجيش العراقي برمته ضباطا ومراتب ويتواجد هذا الرفض بنسب متفاوتة لكن الجميع متفق عليه ومتواجد بقوة لكن هناك ما يمنعه عن التحرر والإعلان عن نفسه وفي قابل الأيام يجد ما يثيره وتنجلي عنه بعض الغمة لينفجر بقوة ويصبح له تأثير ايجابي فعال على الآخرين كما يحصل لآبار النفط عندما يحفز بعضها البعض في الانفجار بعد انحباس الضغط لفترات طويلة وبما ان العراقيين مجانين او في طريقهم الى الجنون لذا اطلق جمال مقولته (( الجنون المكتوم يخرج الى العالم دفعة واحدة )) وربما اراد الكاتب ان يحيلنا الى قضية العقل الجمعي الذي يتواجد بقوة في حيثيات حياة العراقيين والذي هو المحرك الأساس لجميع تصرفاتهم وهذا مؤشر سلبي يؤدي الى أحكام مشبعة بالخيبة والخذلان هذا اذا ما علمنا انه يصب في مجرى العقل الجمعي السلبي لا الايجابي وبالتالي عدم التعويل على شعب بهذه المواصفات الانهزامية ان يحقق التغيير ولو على أدنى المستويات لمستحدثات الأمور وانقلابات الدهور وبالتالي إقناع الدارس لاجتماعيات العراقيين بان جميع التغييرات السياسية والاقتصادية وطرد الحكام الطغاة ودخول المحتلين وخروجهم ودخولهم مرة اخرى والشواهد الكثيرة لتغيرات أنية ورفاهية مشروطة ليست من صنع أيديهم بل هناك مؤثر خارجي استطاع العزف على وتر خاص لأحداث هذا التغيير او ذاك لديهم .. وبخصوص تأثير الرواية الفاعل على سيف وقراراته يحيلنا الكاتب من جديد الى موضوعة العمل الأدبي وتغييراته في سيكولوجية الانسان وكيف يتسنى لعمل أدبي ان يحدث انفجارا بركانيا يمكن ان يغير العالم وكما سنعرفه في الاحداث اللاحقة للمسلسل من قيمة الأدب الحقيقية وتأثيرها على حياة الفرد والمجتمع وهذا ما درج عليه الكاتب في الخلق والإبداع في عملية التناسل بين هذا المشهد وذاك أي ان ما مر هو تأسيس لما هو قادم لا يأتي شيء عن فراغ البتة .
عموما بعد إلقاء القبض على الثلاثة وزجهم في السجن تعرضت الوحدة العسكرية لقصف معادي شديد احدث ارتباكا للجميع مع قتل بعض الجنود والضباط وكذلك سقوط عدة قذائف نالت من السجن ليقتل سيف وعناد وينجو جمال الذي يقرر وعلى عجل وفي تقاطع مع مجرى الاحداث وطبيعته الشخصية الهرب الى تركيا و تبديل قرص الهوية الذي يعلقه الجنود على رقابهم للتعرف عليهم بعد موتهم المتوقع يستبدله بينه وبين الجندي عناد لينطلق على غير هدى مخلفا ورائه جمال القتيل وهاربا بجلد عناد المفقود ليصل خبر استشهاده المزعوم الى اهله وعدم وصول جثة عناد لفقدانه في الجبهة .. من خلال هذا الهروب أجد مادة دسمة يجب ان نتناولها في ترتيب أوراقنا النقدية والخروج بمحصلة تنفع القارئ والمشاهد على حد سواء … الواقعة كانت تتكرر كثيرا بين أوساط الجيش العراقي في محاولة النفاذ الى عوالم اخرى تسرقهم من الجحيم الذي بات الصغير قبل الكبير يصرخ طالبا النجدة لهول ما أحدثه هذا الجحيم في تهديم المنظومة الاجتماعية وبث الرعب والقهر والعوز وانعدام جدوى الوجود الانساني في ظل حاكم يتنقل بين القصور والجواري والصبايا متمتعا بكل ملذات الحياة وهو يحمل سوطا يجلد به ظهور الشعب وأسنانه الصفراء ووجهه الممتقع تترجم سخريته الفاضحة لمعاناتهم .
كم كنت أتمنى ان تستمر أحداث الجيش والحرب والصراع مع الرائد صكبان الى ابعد مما وصلت إليه الا إني وجدت ان الكاتب يريد ان يمر ولو بشكل متعجل او مقتضب على مفصليات كثيرة تختزنها الذاكرة العراقية في عدد محدود من الحلقات وصل رقما قياسيا بالنسبة للأعمال العراقية الأخرى وبحدود أربع وثلاثين حلقة حيث يتأكد للمشاهد ان الكاتب لم يترك شاردة او واردة دقت او كبرت في حياتنا المعتمة القابضة على الجمر الا وذكرها وان تباينت طريقة المعالجة وزخم المتتاليات المعروضة كم كنت أتمنى ذلك ولكن ما كل ما يتمناه الناقد يدركه.
في احد حوارات جمال مع صبري يعري حقيقة نفسه التي هي حقيقة النفس البشرية ليحيلنا الكاتب الى تشظيات جمة بقوله (( كنت سافل وبمرتبة الشرف )) فقبل ان يكون سافلا فهو جبان لأنه آثر الهروب من تبعات قوانين الطاغية المتعلقة بتهمته في شكوكهم بكونه شيوعي وكذلك بتوفير غطاء يسهل الهروب لسيف ولم يقف بشجاعة امام هذه التحديات ناهجا طريق التخاذل حاله حال الكثير من المثقفين العراقيين الذين انهزموا امام دكتاتور بغداد متقاطعين مع أفكارهم الرنانة القاضية بتحفيز الشعب على مواجهة التعسف والظلم بكل قواهم وان تكاثفت قوى الشر أمامهم والتضحية بالروح مع آخر رمق للحياة ليسقط المثقف من خلال جمال في وحل الهزيمة مع أول مواجهة حقيقية مع المنظومة الشوفينية الصدامية القاهرة والنفاذ بسنوات حياة مذلة طالت او قصرت فهي ملحقات لسيل معاناة تسرق الكرامة بلا استحياء وان تواجدت الحرية الكاذبة التي يحياها المثقف الهارب في دول المنفى وهو متأكد في قرارة نفسه من سخفها وعدم واقعيتها , ومن التشظيات الفكرية الاخرى ان الجبن والتخاذل اللذين طالا المثقف العراقي في تلك الآونة شملت الجميع وان لم يحزموا حقائبهم ويرتموا على حدود بلاد الله فلقبوا بمثقفي الخارج فقد شملت حتى مثقفي الداخل الذين سقطوا بين فكي كماشة الإعلام الصدامي الذي طبل وزمر كثيرا مقابل استثناءات الخدمة العسكرية فكان لهم دور فاعل في تدعيم بنية النظام وبالذات الفنان التلفزيوني والسينمائي والمسرحي فلم تخلو منهم مسارح الوطني والرشيد من تواجدات احتفالية تهرج بالتافه من الفن على شكل أوبريتات او أغاني او مسرحيات في منظومة بعثية تسمى المسرح العسكري كان يسميها النظام البائد الأعمال الوطنية ورغم اختفاء الكثير منهم في الوقت الحاضر الا ان جلهم ما زالوا يمارسون نفس الدور الذي كان يلازمهم في التصفيق المتلاحق والضحك على الذقون بداعي انها أعمال فنية تبا لكم ولأعمالكم الفنية الرخيصة التي حينما أشاهدها الآن كم أجد نفسي تافها أني شاهدتها قبلا وفي حقيقة الامر ان النظام كان في تصالح معهم ولكن حينما يتقاطع معهم فتركيا وسوريا والأردن بالانتظار كي يكونوا معارضة يستلمون المعونات من هذا وذاك أي ان الضابط في الموضوع هو المصلحة الشخصية بين المثقف والنظام وهي في أصلها معركة ولكنها خاسرة من جانب المثقف .
حينما نعت جمال نفسه بأنه سافل وبمرتبة الشرف كان صادقا تمام الصدق لأنه كان أنانيا في تعامله مع الحالة ترك زوجة صبية في عراق ينهش بعضه بعضا تركها في أول أيام زواجها عرضة لكل تعرجات وانحرافات الحياة وهو يعلم تمام العلم ماذا يعني وضع امرأة شابة رحل عنها زوجها وباتت وحيدة في ظل مدينة شعبية تفتخر أجيالها بأنها مرتع لكل الموبقات كذلك ترك أبا وأما اخذ منهم الدهر كل مأخذ فأصبح كلاهما للحزن الذي لحق يهما كالثوب المتهرئ لكثرة ثقوبه .. ترك إما لزميله عناد تعاني الألم المطعم بالحزن على وليدها الذي علق قلبها بين السماء والأرض لا هو حي فتنتظره ولا هو ميت فتودعه فكان جمال سافل حقا وبأعلى مراتب الشرف .
(( القدر يخطط ويقود الانسان الى مصير هو يريده )) هذا ما قاله جمال في معرض سرده للرواية حينما عرج للمحة عقائدية بين فيها ان الانسان بلا حول ولا قوة في اكثر محطات حياته فالقدر يرسم خارطة طريق مختلفة المعالم وما علا الانسان الا الامتثال والسير حتى نهاية هذا الطريق وان كان هذا الطريق معبدا بالأشواك والألغام والمطبات فخوض غماره إجباري لا اختياري وإلا كيف لسيف الذي كان موطنا نفسه على الهروب وهو العارف العالم بكل هذه التضاريس الجبلية يتيه عن غايته ومبتغاه ويفشل في الوصول الى نقطة الخلاص والنجاة وجمال الغض الطري الذي لا يعرف شيئا من هذه المقتطعة الأرضية ينجح بالحصول على ملاذ امن .. نعم انها الأقدار التي تجعلك في مكان وزمان ليس من اختيارك .. وبهذا الخصوص أجدأمرا غاية في الغرابة السجن يقصف ويدمر والأمطار تهطل بغزارة وموت يتجول في الجوار وخصيصة الجبن والخوف المتلازمتين لدى جمال كيف استطاع جمال في ظل هذه الظروف ان يقرر الهرب مع علمه بخلفية الغابة المؤدية الى تركيا وتواجد الحيوانات المفترسة بها مع انتشار للعناصر العسكرية العراقية والبيشمركة وهو بمثابة عدو للطرفين وكيف خطر على باله فكرة تبديل القرص في هذه اللحظة التي يشت بها عقل اكبر المفكرين , وبرأيي ان الموت حينما يتواجد في المكان فالعقل يأخذ إجازة حتى يرتحل , فمن فكر ونفذ عوضا عن جمال..؟ وقد أجاب الكاتب على لسان جمال بجملته الماضية وهو تبرير منطقي للعقدة الدرامية وما يليها من احداث على اعتبار ان الكاتب يراعي السبب والمسبب والنتيجة ويعمل منهم نسيجا متينا مترابطا يقف بقوة امام التساؤلات .
ينتقل بنا الكاتب بعد ذلك الى جنة حقيقية تحمل كل مواصفات الجنة المذكورة في القرآن ماء وخضراء ووجه حسن , جنة لا لغو فيها ولا تأثيم ولا صراعات ولا تباغض , الحب هو سيد الموقف , عالم من الجمال لم يخطر على قلب بشر .. انتقل بنا الكاتب بمعية جمال الى بيت كردي على قمة جبل تتلألأ فيه قلوب بيضاء , قلوب أنبياء وقديسين , قلوب نساء طاهرات فكان لها ان تقهر الشيطان الذي عجز عنه ادم وهو في الجنة , اذن هذه جنة من جنان الخلد التي لا يدخلها الشياطين فكيف ولجها جمال وهو السافل والجبان والخائف .. ؟ نعم دخلها خلسة واختبأ في مخزن المؤن لبيت كاكا سلطان الكردي ليعتاش على الخبز والبيض وما طالته يداه الآثمة السارقة لقوت الأكراد يسرق لأنه أناني جبان يثير قلق عائلة بريئة في سبيل امتلاء معدته بعد ان سرق عناد وعائلته وكانه لم يكتفي بما سرقه الحاكم العربي صدام من الأكراد عندما سرق ابتسامتهم سرق طهرهم سرق استقرارهم رغم الفارق بين الاثنين ان صدام يسرق علنا وجمال يسرق خلسة وبين الاثنين يقف الكاتب متحديا في سرقة المشاهد الى حيث يريد من خلال الإيقاع المنتظم والمتصاعد للأحداث ليُكتَشَف جمال من قبل الابن الصغير للعائلة والمسمى عبدا لله لتنشا قصة حب من نوع خاص بين الطفل الكردي والوحش العربي لتتطهر أقذر علاقة في تاريخ البشرية العلاقة التي سادتها سابقا كل أنواع البغض والكراهية العلاقة العربية الكردية ليكتشف جمال انه انسان فعلا بما أولاه عبدا لله له من حب ومساعدة حيث راح يمده بأنواع الطعام الذي يسرقه من أهله وكذلك إخفاء خبره عنهم لكن الكاتب حامد المالكي يؤجج الصراع بثقة اكبر وفاعلية أعمق من خلال الشابة فيان حيث تتابع أخاها أين يذهب بالطعام لتكتشف شيئا شبه انسان يختبئ في مخزن المؤن اسمه جمال العربي ليفتضح أمره للعائلة جميعا هنا يتكرر تواجد جمال في المخزن .. أولا في مخزن الذخيرة في وحدته العسكرية والان في مخزن بيت سلطان وما متعارف عليه ان اكثر المخازن تسكنها الجرذان الخائفة المذعورة وهي اشارة من الكاتب ان جمال العراقي ليس إلا جرذ خائف يتزيأ بثوب المثقف وما اكثر المثقفين الجرذان في أزمنتنا .. لكن هذا الجرذ الخائف يجد الاب كاكا سلطان والام كلاويش يعطفان عليه لان فيه بعض التعزية لغياب ولدهما البكر كمال العضو في الحزب الشيوعي الكردستاني لتنشأ حميمية رائعة لا يمكن التعبير عنها بمصداقية الا لمن عايشها وذاق لذيذ تفاصيلها .
الهجرة والحرب بالنسبة لجمال ساحة ضياع واحدة رغم انه يصف الغربة او الهجرة (الغربة اقصى درجات النضال) فالعراقيون منذ القدم وهم في هجرة متواصلة بحثا عن شيء ما يفتقدون اليه في وطنهم لكنهم كلوا عن البحث ولم يوفقوا وما كلكامش الا مصداق حقيقي للهجرة والبحث المتواصل عن نبتة الحياة او نبتة الخلود والذي جانبه التوفيق في نهاية المطاف ليقودنا الكاتب في المحصلة الى ان الوطن ليس الذي تولد فيه إنما من يحمله قلبك , الوطن مكان دافئ في ليلة باردة مع عائلة طيبة كعائلة سلطان , الوطن هو من تحيى فيه بحرية وكرامة , الوطن هو من يتذكرك اذا نسيك الاخرون , الوطن هو من يعطيك اذا شحت عطايا الغير ولكن متى كان العراق كذلك ؟ ومتى كانت هجرة أبنائه ذات جدوى ؟ انها قضية معقدة فعلا لا اجد لها جوابا ومع ذلك اجد ان أهون الشرين أفضل وهو الهجرة لاسترداد بعض الأنفاس .
منذ المشاهد الاولى بدا واضحا ان جمال عبارة عن نحلة تتنقل بخفة بين ازهار جميلة متلألئة فتراه متعلقا بالنساء وحسب قوله انه محظوظ مع النساء فكانت البداية مع الممرضة كوثر ثم زوجته نادية والان مع فيان الكردية بنت كاكا سلطان التي وصفها بالزهرة البرية الجميلة ليعزف مرة اخرى على وتر بات مملا في بث الحب واللواعج الرومانسية لكل امراة يصادفها وهو العالم بان هذا الحب ليس الا سحابة صيف عابرة قليلة المكث لتسقط فيان البريئة في قبضة الجزار جمال الاناني والذي سنراه بمواقف مشابهة من استدراج النساء واقحامهن في اتون يلازمه اينما حل هذا الاتون الذي هو قدر جمال المشؤوم فأينما حطت قدماه فانها تجر المأساة على من كانوا بجواره وقد بداها باهله وزوجته ثم الجندي وسيم وعناد وسيف وصكبان والشبح والجيش العراقي والان اتى ليحمل جراحا موغلة بالتقيح ليرميها هدايا واوهام مرعبة في ساحة هذا البيت المسكين بيت كاكا سلطان الكردي والذي لم يكتمل نصابه الا بعودة كمال الابن البكر للعائلة والذي فوجئ بوجود هذا العربي الغامض مرتديا ملابسه لتتحرك لديه كل خزائن الذاكرة الموحلة بالقتل والمرتبطة بقتل ابناء جلدته على يد طغاة العرب وجمال احد ادواتهم لكن ماما كلاويش وكاكا سلطان يخففوا من حدة الموقف بمركزيتهم ويفتحوا بابا للحوار والتفاهم بين الاثنين ليجدا بينهما بعض المشتركات التي توصلهم الى مرفأالتوأمة والموائمة وقد أثارني منظر كمال وهو يدخل البيت حاملا قناصا وهنا اشارة قصدية ان كانت من الكاتب او المخرج وثمة تساؤل كم من العراقيين العرب ومن ابناء الجنوب بالذات تم حصدهم بقناصك يا كمال ؟؟ وكم من الأمهات ثكلت ؟؟ وكم من النساء رملت ؟؟ وكم من الأطفال ايتمت ؟؟ وكم من انهر للدموع اجريت ؟؟ وكم من خيم للعزاء نصبت ؟؟ وكأن المشهد يحيلنا الى احدى هوسات نساء الجنوب وهن يرجزن (( طركاعة الفت برزان بيس باهل العمارة )) والطركاعة تعني باللهجة العراقية الدارجة ((المصيبة والعذاب الاليم)) والتي تتمناها النساء لملا مصطفى البرزاني الذي حصد بقناص كمال الاف الشباب من ابناء العمارة في حرب الشمال على اعتبار ان جل الجيش الحكومي هو من ابناء الجنوب.
في سؤال استفزازي وجهه جمال لكمال يحمل في طياته استفسارات شعب بأكمله تبحث عن اجابات مقنعة (( لماذا تحاربون الحكومة )) فيجيب كمال بسرعة بلهجة الواثق الذي يعلم تبعات محاربته للحكومة وبمنطق الغير نادم لقتل آلاف الضحايا الابرياء (( الحكومة كذبت علينا )) عبارة مقتضبة لم يشرح ولو قليلا بماذا كذبت عليهم الحكومة أي نعم يخشى الكاتب من الوقوع في التقريرية الا انه كان من الافضل كشف اللثام عن بعض ما خفي عن الاجيال التي لم تعاصر الحدث وهذا ما نسميه بالومضات التي تلمع وتنطفئ دون تفسيرات تذكر لتترك لجهد المشاهد الذهني في سبر الاغوار واستقاء المعاني , ومن خلال هذا الحوار يحيلنا الكاتب الى تجليات عديدة تؤشر بإصبع السياسي الحاذق في معالجة القضايا التي كان لها مساحة كبيرة من النقاش والتداول بين عامة الناس في البيوت والمقاهي والدوائر الحكومية والشوارع ووسائل النقل المختلفة , واحدى هذه القضايا هي تواجد العراقي في موضع المقاتل في معركة ليس له فيها ناقة ولا جمل وهي تشمل الجندي الحكومي في مواجهة العدو الايراني كما يسميه النظام او كما هو مفروض علينا كمسمى واقعي على اعتبار ان ايران ليست بمتفرج فهي الاخرى لديها الة حربية تحصد شباب العراق وكذلك تشمل الجندي الكردي في مواجهة الحكومة وحتى زمننا الحالي حينما يفجر الارهابي نفسه في سبيل الدفاع عن الارض والعرض , جدلية شائكة تحتاج لمسبار عميق يفك خيوطها بموضوعية .. يقول جمال (( العسكري حتى يبقى على قيد الحياة لابد ان يَقْتُل )) نعم لابد ان يقتل لان الذي امامه يعتبره عدوا فان لم يقتله فان العدو سيقتله لا محالة وهنا يريد الكاتب تبرير موقف الكردي في مواجهة ابناء جلدته من العراقيين في حرب الشمال وكذلك موقف العسكري العراقي ضباطا ومراتب في تواجدهم بالمواجهة مع الايرانيين في حرب الثمان سنوات وبالمقابل تكفير من يريد الانتقام منهم وتصفيتهم بدعوة مشاركتهم بالقتال وشواهد تأنيبهم كانت واضحة في اثناء الحرب وبعدها فمعاملة الاسرى العراقيين القاسية وكذلك عمليات التمثيل بجثث رفاق الجيش الشعبي في معارك شرق العمارة وما حل بالعراقيين في الوقت الحاضر من قتل ومتابعة وتصفية على يد دول الجوار كايران والكويت على اعتبار انهم لابد ان يدفعوا ثمن مشاركتهم بحرب الثمان سنوات واجتياح الكويت , ثم يوجهنا الكاتب وجهة اخرى حينما يقول جمال (( قاتل حتى تقتل لكن ان تموت من اجل بلدك مع سبق الإصرار والترصد فهذا جنون وليس من حقك الموت )) هنا تفسير لما سبق أي نعم يجوز لق ان تدافع عن نفسك عن عرضك عن أرضك لكن ان تموت من اجل بلدك بشكل انتحاري مع سبق الإصرار والترصد فهذا جنون وحماقة وكانه يريد الإشارة الى مهووس القاعدة ومن كان يدعي المقاومة بتفجير نفسه وسط مجموعة من الناس يعتقدهم اعداءه رغم عدم تشخيصه لهم لتكون النتيجة عملية ارهابية مليون بالمائة على اعتبار عدم توفر عامل المواجهة وأخلاق الفرسان في هكذا حالات عكس ارض المعركة التي برر الكاتب جواز الموت فيها قتلا … قمة من قمم التأويلأحالنا عليها الكاتب فسر الماضي بمنطقية إنسانية قلما يتداولها كاتب في عمل تلفزيوني وهنا تكمن قوة حامد المالكي في استخدامه الحوار في تمزيق شرنقة أحداث الماضي برؤية إنسانية مع إلقاء بعض من انطباعاته الشخصية في تركيبة الموضوع مستخدما لغة بسيطة يمكن للجميع فك التشفير عن كل ما التبس عليهم من احداث جرت في سالف الأيام .
جميل جدا ما ترشح عن علاقة جمال وفيان بان كان فيض مشاعرهم تترجمه النظرات فقط لما لطبيعة المكان وطبيعة فيان نفسها الرومانسية الحالمة التي تكتفي بسرقة نظرة مشغوفة بالحب لجمال وكم كان رائعا هذا المكان الذي يمثل صومعتها وديرها ومصلاها الذي كان شاهدا على أحلامها الوردية بقدوم فارس أحلامها المتوقع بين لحظة واخرى , وفي معرض وصفه لعلاقة الحب التي تجمعه بفيان قال جمال عبارة هي متوالية من متواليات السقوط التعبيري الذي اعزوه للممثل دائما في كل عبارة ركيكة او خاطئة مثل (( الحياة فيها من القسوة الشيء الكثير كالحرب والسجن والهروب وماما كلاويش وسلطان الا فيان فإنها زهرة برية جميلة )) لا أعلم كيف جعل القسوة في اتصال مع كلاويش وسلطان وهما اللذين امتدحهما كثيرا في تقييمات سابقة وما الدافع من وضعهما في خانة القسوة مع الحرب والسجن وحتى لو كانت من الكاتب فهي مسؤولية المخرج والممثل الم يقرئا النص , ولكن يبدو ان الجميع اشترك في التقصير بهذا الخصوص فلو قال ((الحياة فيها من القسوة الشيء الكثير بسبب الحرب والسجن والهروب الا لحظة لقائي بعائلة سلطان وبالذات فيان تلكالزهرة البرية الجميلة)).
في الجانب الأخر من الرواية وبالتحديد في بغداد بعد ان ودعت العائلة ابنها وهي تزفه الى كراج النهضة وبيدي الأم الحنونة ألبسته كفنه كباقي الأمهات حينما يلبسن أولادهن ملابس العسكر الخاكية فإنها في قرارة نفسها تكفنه لان الجميع وطن نفسه على ان لا تلاقي بعد الان كما انها تعطر كفنه بعطر دموعها المسكوب كجمر اللظى .. وخلال فترة الشهر التي تفضل الجندي ما بين التحاق وعودة كانت العائلة تنتظر خبر وليدها متى يحل عليهم خبره الناطق باستشهاده وهي تفترش حصا متجمرة تلهب جنوبهم بالخوف المطعم بالمرارة الخانقة وما بين التوقع والغفلة يأتي جثمان العراقي جمال محمولا على سيارة تكسي وقد لف بعلم ذو اربعة الوان مشئومة في منظر معتاد للعراقيين كافة الا منطقة واحدة الا شريحة واحدة الا فئة واحدة فإنها مستثناة من هذا المنظر لدواعي صدامية طائفية بحتة .. تتهادى السيارة وهي تمشي الهوينى حاملة الشهيد بنسق جنائزي مخترقة الشوارع الضيقة وصفوف اهل المحلة وهي تطل بشؤمها على بيوتهم بكل جرأة وصلف وهم يتابعونها وايديهم فوق رؤوسهم كل يتمنى ان تتجاوز بيته بفضول وخوف وقلق متسائلون متى ستتوقف قافزة بدار أي منهم من سيكون الخائب الذي يعتلي ظهر السيارة بالتاكيد هواحد أبنائهم الذين بات توقع عودتهم احياء شبه مستحيل لكثرة القوافل التي تهب كلفحة رياح السموم على مدار السنة وهنا تكمن الانانية ولكنها أنانية مشروعة حتى سعد ورغم علاقته القوية بعبود والد جمال تهلل وجهه فرحا لان الميت هو جمال وليس ماجد ولده المفقود وكم كانت جميلة انطباعات الكاميرا وهي تراقب تقاطيع وجوههم ونظراتهم بعد ان يتجاوز باب احدهم ليمتلئ بشرا وسرورا متنفسا الصعداء تناقض مثير في المشاعر وتوافق عجيب فبلحظات متعاقبة اخرى حتى المشاهد وهو يتابع هذا المشهد وهو يربط بين تلك الايام ولحظاتها الآنية وكانه يعيش الحدث , استرجاع ذاكراتي مليء بالشجن والأسى وكم كان جميل منظر تلك الصورة التي بجانب البيت ويبدو فيها صدام وهو يضحك ساخرا من سذاجة اهل الميت لكنني كنت اتمنى ان يكون هذا المشهد بعد قصف السجن لإيهام المشاهد بموت جمال فعلا ومن خلال رواية جمال يعرف المشاهد ان الذي في التابوت هو عناد وليس جمال وذلك لإذكاء المشاعر الحزينة مع المحافظة على عنصر التشويق.
هنا يجب ان نورد بعض الحقائق التي استقيناها من واقعنا الحقيقي إبان تلك الفترة وكذلك ما اراد ان يؤكده الكاتب من خلال صورة معينة وقد وضعت بين يديك ليناط الدور إليك بمعرفة زمن الصورة ومكانها وكيفية التقاطها ومن هم الذين يظهرون فيها مع استذكار كافة المشاعر المصاحبة لها .. فالصورة التي وضعت بين أيدينا تذكرنا بما قام به الطاغية صدام في خلخلة تركيبة الانسان وحقنه بإيديولوجيات وسمات هجينة طارئة على مجتمعنا فبعد استشهاد جمال وحصول العائلة على مكافئات الاستشهاد وهي عبارة عن بضعة الآلاف من الدنانير وسيارة كرونه ياباني تسمى أم التبريد مع بيت او قطعة ارض ليصبح ثمن الانسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم .. حطام الدنيا البالي .. في ظل ذلك المنحى الخطير في تفكير الانسان العراقي نتيجة الترهيب والترغيب الصدامي , أصبح هاجس اكثر الآباء والزوجات تصدير رجالاتهم الى محرقة الموت والحصول على ثمن الوطنية وحب الوطن والقائد ليفتح الجميع أبوابهم العريضة على مصراعيها للشيطان كي يدلي بدلوه في تأجيج سلبية التفكير والبحث عن سفاسف الدنيا وقد تناسى الجميع ذكرى الشهيد في أول يوم لمجلس الفاتحة الا من فقرة المكاسب وكما قال جمال عبارته الخالدة (الانسان كتلة من خيانة).
تفكير الانسان في اليقظة والحلم بأمور للخيال دور كبير في صناعتها وان لم تجد طريقها للتحقيق في الوقت الحاضر لكنها مستقبلا قابلة للتواجد وبقوة في مفصليات الواقع وكشيء من التوقع المبني على هواجس هي جزء من الواقع ربما كل ذلك له ما يبرره نتيجة تراكمات وخلفيات صورية ماثلة في الذهن وهذا ما تأصل من خوف جمال بوجود علاقة لزوجته مع أخيه ستكلل بالزواج من خلال احد أحلامه التي تراوده كثيرا لتتم ترجمة الحلم بواقعية صادقة من خلال الاب عبود وزوجته سعدية فقد استحكمت عرى الشيطان من شد وثاقهما وبدأ الخوف يتسرب إليهم ليقودهم للتفكير .. ماذا لو تزوجت نادية برجل غريب فبالتأكيد سيخسرون حفيدهم وكافة الامتيازات المادية للشهيد , اذن ما العمل , الحل الوحيد بزواج خضر ابنهم الثاني من نادية وكفى الله المؤمنين شر القتال وهنا أشر الكاتب بإصبعه المتميز أمرا غاية في الأهميةألقى بظلاله العفنة على تفكير نخبة من العراقيين حيث تطرق الى زواج أرملة الشهيد من حميها , بعض من هذا التفكير يصب في خانة الانسانية والكثير منها يتشكل صورا بريشة شيطان ومن خلال هذا الاتجاه يقودنا الكاتب بقصدية الى معرفة خاصة بمجاهل الحياة العراقية من خلال الصراع المحتدم بين رغبات متناقضة وتفاعلات بين المواقف وشد وجذب بين هذا الطرف وذاك والعامل الأوحد المتحكم بتسيير كل هذه الاعتمالات النفسية وردود الأفعال هو حب الأنا الذي يغذي الأفعال والمشاعر وان كانت ايجابية , والايجابية هنا محض صدفة ليس اكثر لان الشخصيات لم تفعل الايجابي بقصدية بل نتيجة مصادفة مع الثوابت المحترمة , وهذا الصراع المحتدم بين معسكر الاب عبود وزوجته وبين نادية وبين أهلها وبين خضر وأهلهفالأب والام هاجسهم الأطماع المادية والمعنوية المتمثلة بمكافئة الشهيد وكذلك الابن الذي سيرى النور كيف يمكن ان يروا ابنهم في أحضان غريب , أما نادية فهي الاخرى تعيش حالة من الصراع مع محيطها العائلي وذاتها , محيطها العائلي تواجهه بالرفض من تطبيق هذه الفكرة بسبب ذكرى جمال التي لم تفارق مخيلتها حتى ذلك الوقت وكنوع من الوفاء تريد ان ترد الدين لحبها المراهقاتي له , ولكن صراعها الآخر مع شيطانها المتوثب الذي أصوره كمرجل بخاري إحتصر البخار فيه ويريد التنفيس عن غضبه هذا الصراع الكافر الذي جعلها مستسلمة في أحايين كثيرة وكما يقول جمال بهذا الشأن ( أضحت نادية مستسلمة للقدر تاركة له الحبل على الغارب كي يخطط لها ) هنا اراد الكاتب ومن خلال جملة جمال الماضية ان لا نستسلم للظاهر في رفض نادية للزواج من خضر بل هي اشارة ذكية من الكاتب ودعوة مفتوحة للتجول في خبايا النفس الانسانية فحينما توكل نادية القدر وبقرار رسمي من كاتب عدل معترف به كي يدير أمورها العاطفية وفي قضية معينة فذاك يعني ان الرغبة والإذعان متوفرة لديها للاقتران بخضر ومن خلال هذه النقطة اجد الكاتب قد أجبرنا لنتقول الأقاويلوكأننا نجلس الان في احد مقاهي الثورة ونخوض في سيرة احدهم وهي أيضا اشارة الى ان العراقيين يجدون من الوقت الزمن الكافي والفائض للخوض في سيرة الآخرين , ومجرد إذعان نادية واستسلامها هي صرخة انتقام لجمال مفادها .. لماذا مت وتركتني وحيدة بلا أنيس , أضع راسي على كتفه بعد عناء يوم متعب في متابعة شؤون أعمالي المنزلية لماذا تركتني للآخرين ينهشون لحمي البض في وسط سوق للمتقولين .. لذلك سارد لك الصاع صاعين وأتزوج من أخيك واستلم مكافئتك ولتذهب ذكرى حبك البائس الى الجحيم .. لندع نادية او الأخريات من أرامل الشهداء العراقيين ان كان لها الحق أم لا في البحث مع أول سماعها لخبر استشهاد زوجها عن نصفها الآخر ولنحلل القضية وفق استحقاقات ذاتية للنفس البشرية فزوجة الشهيد هي بشر لا تختلف عن الآخرين في كونها تحتكم لما أودع الله بها من رغبات وشهوات إجبارية لها تأثير على توجهاتها في الحياة فلماذا نلومها ان هي اقترنت برجل ان هي أرادت تحقيق شيء من ذاتها أليس من حقها ذلك وما ذنبها ان تركها زوجها وغادر منظومة الحياة والحي أبقى من الميت كما يقولون .
لتتعمق معاني الصورة المشوهة من قبل المحيط الانساني اتجاهها لتوصم بأشد وأقذع العبارات السيئة حتى ان من يقترن بها يصبح في أعين الناس استغلاليا وصوليا على اعتبار انها لا تقترن بالناس الأسوياء او لا تقترن بأحدهم الا بعد ان أسقطته في حبالها وهو لم يتواجد في حياتها الا لأموالها التي ورثتها عن الشهيد , وكذلك يكون الامر بالنسبة لنادية وتواجدها في بيت واحد مع شاب اسمه خضر متوقد الشهوة يحدوه عنفوان الصبا والرغبات ووفقا لما مضى تخبرنا نادية بقولها (أرملة الشهيد اشكد متكون شريفة فهي بعيون الناس مشكوك بيها) وكما قلت لكم قرائنا الأعزاء ان الكاتب هو من أجبرنا كي نحلل بهذا النمط لوضعه نار وبنزين في بيت واحد وإظهار نادية بهذه القوة في بعض المواقف عكس الانهيار الذي أصاب الأم والأب له مغزى يعكس ان النساء هذا طبعهن في نسيان الزوج الشهيد بعد اليوم السابع او الأربعين على أسوأ التقديرات الزمنية .
أما خضر فهو الاخر يتوافق مع نادية بالرفض من ناحية ابداء بعض الوفاء لاخيه الا انه يواجه مجالا للوفاء يجب الإمساك بلحظته قبل ان تقفز متلاشية في الفضاء وهو الوليد الجديد لجمال فكأنه يفسر الموضوع بقوله .. نعم ساتزوج نادية وفاءا لرغبتي وشهوتي ولكن بالمقابل سأكون وفيا لأخي بتربية ولده اليتيم .
أبدع الكاتب صاحب الخيال العاصف برسم هذا الصراع التمثيلي لشخصيات رسمها بأنامل ساحر اقول تمثيلي لان الرغبات واضحة للشخصيات لكنها تمانع لسبب وآخر ولكنها في النهاية تستجيب لمنطق الأنا وتحقيق الذات ليتزوج خضر من نادية و.هـ.م .
بما ان خضر كاخيه جمال يحمل من الغدر الشيء الكثير وبالذات مع العنصر النسوي والتلاعب بمشاعرهن فهو في تلك الأثناء كان يعيش علاقة حب مع ليلى بنت المختار يأمل الاثنان ان تكلل بالزواج مع ملاحظة ان ليلى صديقة نادية المقربة وهي الضحية المشتركة الثانية بعد جمال لخضر ونادية وهو امر مألوف ان يتواجد شاب بين فتاتين فرغم صداقتهما الا ان حب التملك يستأثر بتفكيرهما لتكون النهاية استبشار لأحدهما على حساب الاخرى , ومن ناحية اخرى يتعملق خضر بالتلاعب بمشاعر النساء ويقترن بعلاقة مبهمة مع اكرام المتزوجة من واثق الرجل المحارب الذي كان يشار اليه بالبنان لان ضابط قوات خاصة وما زالت تلك التسمية ترن في آذان العراقيون فالقوات الخاصة كانت تجمع رجالا لا يخافون الموت اشداء اقوياء ذوي بنية جسمانية هائلة وينطبق عليهم المثل القائل (ان تسمع بالمعيدي خير من ان تراه) وقد رويت عنهم قصصا اقرب للخيال منها للواقع في تصوير مدى قوتهم وشجاعتهم وكان يعول عليهم صدام كثيرا في استرجاع الاراضي التي يحتلها الإيرانيون بين فترة واخرى الا ان اكثرهم اصبحوا طعاما لسمك القرش في الخليج العربي او احتضنتهم حفر وسراديب وادي السلام في النجف او يستجدون عطف الآخرينلإصابتهمالإصابات البليغة التي أقعدتهم الفراش وزوج اكرام هو من الذين أصيبوا باحدى المعارك ليسمى بتسمية لازمت ذاكرة العراقيين كثيرا (جريح حرب) أجلسته قذيفة هاون مشلولا على كرسي حقير ومن هذه العلاقة المبنية على النفعية الغائية بين واثق واكرام وخضر تنبثق تشظيات كثيرة تمثل معاناة شريحة معينة من العراقيين تثقل القلب بالأسى والحزن .
كانت اكرام تعيش حياة مرفهة سعيدة لأنها زوجة ضابط عراقي ذو راتب متميز وبيت كبير وفي منطقة متميزة من بغداد لا يهما ان يغيب عنها شهر او شهرين في جبهات القتال المهم انه يأتي وبكامل لياقته الجسدية والجنسية ليعوضها هيجانا لشهر مضى فالمسالة لا تعدو ان تكون نفعية لكنها مبنية على اساس هاو سيسقط بالجميع مع أول تخلخل في البنيان وفي حقيقة الامر اشد على يد الكاتب بهذا الاختيار لشخصيات نسائية كنادية أرملة الجندي جمال واكرام زوجة الضابط الجريح والاختيار يرتكز على مبدأ المواجهة مع الجمهور بالحقيقة وهي ممارسة طبية بحتة في مواجهة المريض بمرضه وليس عيبا الخوض في هكذا تفاصيل وهي جزء من الواقع المعاش , كنا قد شرحنا وضع نادية آنفاأما زوجة الضابط هي الاخرى كانت تعاني من بعض الصور المشوهة التي رسمها العراقيون لنساء الضباط حتى ان احد الشباب كان يتفاخر بأنه صديق لثلاث نساء من زوجات الضباط وأنا اجد بعض المصداقية في ذلك لسبب بسيط فوقوع نساء الضباط بهذا الشرك الخانق هو ردة فعل لخيانات متعددة للضباط مع الغجريات والغانيات حيث كان لحاشيتهم رجالا كمحسن المنافق الذي يقوم بتسهيل تجمعات ماجنة صاخبة مع ذوات الرايات الحمر وتحت العلم العراقي وفي مواقع الجيش العراقي الباسل وبالتالي فلا لوم ولا تقريع ولا تثريب على زوجة احدهم لو انها ارتبطت بعلاقة فحش مع غيره والسبب لانها أصيبت في صميمها بخيانة زوجها لها وها هي ترد الدين ولا اجد قولا مناسبا الا ان الخيانة دين مردود.
اكرام ابتليت بزوجها المقعد والذي لم تبقى من ملامحه سوى ابتسامة تتلألأ أسنانه من خلالها فكانت تعامله كطفل وتكيل له الشتائم في نفس الوقت لأنه سرق شبابها لأنه دفعها ان تعرض جسدها لكل من تصادفه في طريقها وخضر بالتاكيد ليس الأول في هذه المغامرات , أصبحت اكرام منقسمة على ذاتها كارهة نفسها وواقعها تعيش اغتراب حقيقي عن محيطها وهذا ما يؤكد عليه الكاتب من خلال شخوصه فالجميع يغلي كالبركان وفي تضاد مع المحيط الاجتماعي والزمني والمكاني ونتيجة لهذا التوجه تصل حالة الإحباطبإكرام انها أدمنت على تناول المهدئات بشكل مكثف كي تهرب من واقعها المر من رؤية زوجها الذي فقد ظله على أعتاب طاعة الملك خوفا ان يعدمه فكانت تردد على أسماعه هذه الكلمات (( كنت تخاف من الإعدام ولم تهرب من المعركة الخاسرة وها أنت الان تعدم مئات المرات )) لم ولن نرى طرح فلسفي يعطي المصداقية بهذا الشكل الممتع الجميل .
وفي احدى زيارات خضر للبيت تقوم اكرام بتحفيز واثق من خلال تواجد رجل غريب في البيت وهي تمني النفس ان يفز من رقدته وينهض مستيقظا ليطرد هذا الغريب وإمعانا منها في تتويج هذه الرغبة التحفيزية أخبرته بقولها (واثق .. هذا رجال ابيتك كامل المواصفات ) ولكن لا حياة لمن تنادي الحائط يرد وواثق فقد ثقته بنفسه فلزم الصمت وما قولها كامل المواصفات الا ان تذكره بعجزه الجنسي وعدم قدرته على التواصل معها في بث المشاعر المرهفة التي يتقنها الشباب , هناك مقطع من قصيدة أجده مناسبا لحالة إكرام للشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي ….
كانت على منوالها
ثلاثةً تخون
حبيبها ونفسها
وبعلها المسكين
وعندما تُحدج في مرآتها
ترى على صفحتها
خائنة العيون
حقيقة أقف منحنيا حتى أرذل العمر رافعا يدي علامة الإعجاب والشكر في آن واحد لمقدرة الكاتب العراقي حامد المالكي وهو يهز نخيل العراق ليتساقط علينا رطبا جنيا , رطبا عبارة عن كم هائل من الموروث الشعبي إن كان على صعيد الحدث وطبيعته أو مكوناته اللفظية وانعكاساتها وحتى التفاصيل الصغيرة التي لا تستدعيها الذاكرة في كل الأحيان لم يتركها إلا ووضعها وكأني به يقول هذا المسلسل هو معجم لكل شيء في العراق لم يترك صغيرة ولا كبيرة الا احصاها , لا يسعني وأنا اكتب ما أراه الا ان احسده على قدرته في كيفية جمع كل تلك الانطباعات وصبها في قالب الحدث وتفاعلاته دون ان يخل بالمعنى او بنسق المتتاليات المتمثلة بردود الأفعال وكان الاربع وثلاثين حلقة عبارة عن عنصر واحد لم يختل توازنه وان توالت عليه عناصر التأثير الخارجي .
شمر الشيطان عن ساعديه وراح يكيل اللكمات الواحدة تلو اخرى مثنى وثلاث ورباع حتى أدمى قلوب العذارى المحصنة لتقرر اكرام مفاتحة خضر في التخلص من واثق وبطريقة استغلالية بحتة لحاجته للأموال كي يدير شؤون البيت مما يعطي الانطباع انها ليست محاولتها الاولى في تنفيذ رغبتها في الخلاص من اعتى تمثال مر في حياتها لكن الجميع رفضوا وكل له أسبابه المختلفة لتصطدم برفض جديد من قبل خضر فيسقط في يدها وتقرر التنفيذ لوحدها لوصولها لقمة اليأس في وجود حل يريحها ويخلصها لما هي فيه فتحرق نفسها وزوجها والبيت برمته لتلتهم النيران كل شيء وفي تلك اللحظة تواجد خضر امام بيتها لكن الأنا لديه منعته من الوفاء لاكرام فكان جبانا كاخيه جمال نعم كيف لا يكون جبانا وأنانيا حينما فكر باستغلالها وابتزازها تاركا النيران تصادر روحها لتتفجر من بين طيات الآتون الملتهب آهات مكتومة بطلب النجدة تبعثها إكرام باحثة عن قلب خضر كي يحث خطاه في سبيل نجدتها . نعم انها الحرب فكل ما جرى ويجري علينا من مأساة سببه الحرب وكما يقول حامد المالكي او جمال او أياد راضي (( الحرب بنت كلب)) .
وبانتفالة جديدة لتعميق التشويق والإحساس القوي بالتوتر أخذنا الكاتب الى تركيا حيث حل جمال لاجئا هناك ليرسم لنا صورة صادقة لواقع المهاجرين العراقيين الذي يقعون تحت تأثير الاستغلال البشري بكافة أنواعه فالعراقي مستغل من أول تفكيره بالهجرة مارا بالتعامل وتسهيل الخروج وحتى الإقامة فجمال كان ضحية لاستغلال الأتراك له بصورة بشعة فمن خلال عمله في احد الموانيء وتعرفه على يلدز صاحبة العمل المرأة التركية الجميلة ووصيفتها عفيفة سقط في فخ النساء لكنه تدارك نفسه حتى ان عفيفة قالت ليلدز وهي تحلل طبيعة جمال بعبارة أماها للاستئثار به بعبارة فاضحة لنواياهن الغير سوية (( جمال ينفع للعمل وبس لكن لشغلات اخرى ما اعتقد )) ونتيجة للضعف العام لشخصية جمال امام النساء يركن إليهن ليعمل حارس شخصي ليلدز وهنا اشارة الى خيانته فهو يترك زوجته بلا حارس او معين ويؤدي هذه الخدمة للغير كما انها اشارة لمن يبيع وطنه وهو في أحضانه من خلال التقصير بعمله ولكنه حينما يعمل لدى الغرب والدول العربية الغنية فتراه يصل الليل بالنهار من اجل تحقيق النجاح وهذا ما لمسه العراقيون عند الساسة والأطباء وحتى الفنانين , يستمر جمال بتقديم التنازلات امام يلدز وعفيفة ليتزوج بعفيفة وينبري لتحقيق رغباتهن بتصفية نامق الرجل اللجوج الذي يطارد يلدز وعفيفة ولكنه يموت بالسكتة القلبية قبل ان يقتله جمال وهنا لمحة رائعة لحقيقة من حقائق المثقف الذي لا يتوانى ان يكون وحشا قاتلا نتيجة لضعف كبير في شخصيته واستسلامه للنوايا السيئة لمن يحيط به أي ان المثقف يمكن ان يقتل اذن هي دعوة من قبل الكاتب بعدم الجزم بشفافية وانسانية المثقف فقد يتحول بين لحظة واخرى الى قنبلة نووية تهز العالم بأسره وربما يكون من فجر أمريكا في الحادي عشر من أيلول الا من هذه الشريحة مثقف مع سبق الإصرار والترصد وما يؤكد توجهاتنا بهذا الخصوص مع المثقف هو قبول جمال لمكافأة يلدز بقتل نامق وإرسالهم الى سوريا مع وافر جيد من المال .
في محاولة لتنويع اتجاهات الصراع وتغيير جنسه من خلال خلق بيئة وأمكنة جديدة تتداخل ضمن البيئة العامة للمسلسل بتواجد حبكة متينة لها مبرراتها في سبيل تعميق الشد ورفع وتيرة الإبهاروبالتالي خلق شخصيات تبني الحدث وترفع من حدته وهي في أصلها منتج محلي أي بمعنى منتج يدور حيثما دارت بؤرة العمل التي هي بطل المسلسل جمال , ووفقا لكل ذلك انتقل بنا الكاتب حامد المالكي الى سوريا بمعية زوجته الجديدة عفيفة التي توفيت بعد إنجابها طفلة اسمها شذى ليودعها عند خالها ويعود الى العراق بقرار مبهم خالف كل التوقعات او يمكن لنا ان نفسره شعور بالذنب تواصل معه فاتت لحظة التكفير عن خطاياه بحق أهله وزوجته وشعبه على اعتبار انه من النخبة المثقفة التي يجب عليها ان لا تخذل المجتمع وتتركه رهن قوة غاشمة متجبرة بل يجب عليها ان تكون في الصفوف الأولى للمواجهة لا كما يحدث للكثير من العراقيين في ذلك الزمن , يكتب أدبا للمقاومة وهو في مأمن من كل خبائث النظام تاركا أهله تحت قبضة الجلاد وهو متمتع بحياة مرفهة في دول المنفى , وسؤالنا لمن يكتب الأديب المهاجر للشعب أم لغيرهم وهو يعلم ان ما يكتبه لن يصل بأي حال الى الشعب إذن هو أداة مسخرة للآخرين وهنا تكمن الأنانيةبأبهى صورها فهو يستغل الشعب ليكتب عنه كي يقرا الآخرون منجزهمع جني مكاسب معينة.
عاد جمال الى العراق لتُعْلِن حياته كأنه ولد من جديد أي نعم اكتسب معنى للحياة من خلال عودته لكنها موت من نوع أخر موت لآماله التي كان متعلقا بها في كونه سيعود لحبيبته وزوجته نادية فمات الحب الذي بينهما وماتت رابطة مقدسة اسمها الزواج حينما وجدها في ذمة أخيه وزوجة له وكم كانت صدمة مؤثرة ألمت نيرانها وانبعاثاتها المأساوية بكل من طالته منهم حتى بدت كالبركان الذي هدم باطن الأرض وخارجها ومن خلال ذلك ارفع القبعة لفكر الكاتب المميز في اختيار جدليات اجتماعية حجزت مكانا مميزا في ذاكرة الإنسان العراقي ولها وقعها الخاص للجميع إن لم يكن عاشها فقد سمع بها وكم من الشهداء والأسرى والمفقودين صدموا بعد عودتهم ليجدوا نسائهم وقد تزوجن والأدهى من ذلك حينما يعلمونإنهن تزوجن بعد أشهر العدة الزوجية وفق الطريقة الإسلامية وربما في حالات قليلة بعد إعلان خبر استشهاده بأسبوع وربما نفس اليوم ومن يلم بتفاصيل الحوادث تلك يجد الكثير من السلبيات الاجتماعية قد تغلغلت لدى العراقيين بعد حرب إيران التي لم تدمرالبني التحتية فحسب بل دمرتالبنيالفوقية أيضا والمتمثلة بالإنسان لنجد العراقيين وقد تحولوا إلىأعتى المجرمين والقتلة ومدمني المخدرات , بالإضافة الى الحرب وقسوتها كان هناك نوع من الدمار تواجد بقوة … إنهم إخواننا المصريون الذين كان لهم السبق في تصدير كل ما يخل بالشرف ويلحق به العار والشنار من موبقات انفجارية أخذت نيرانها تستعر في جسد المجتمع كالنار في الهشيم ’ وبعد التي واللتيا ينبري المفتي البائس الذي ينام على الفراش الوثير ويتقوت بما يسرقه بحجة الصدقات من جيوب وثلاجات المسلمين البائسين المفتي الذي صافح يد الشيطان في سني الظلم كلها المفتي الذي ساهم بقتل الناس من خلال صمته المطبق اتجاه الظلم الذي كان يهيئ الأرضية الخصبة والملائمة لكل تجاوزات النظام البائد من خلال تخاذله وجبنه وعقد لسانه لينبري وبكل صلافة ليحدد مصير جمال وخضر ونادية ويطلق قذيفة حارقة ليشتت الجميع إلى شذر مذر ويحرم نادية على كل من جمال وخضر وهنا لي مقالة من يكون هذا المفتي كي يقرر مصيري ولم هذه السلبية المتجذرة فينا ونحن نصيخ السمع ونبدي الطاعة لرجل ليس بأفضل حال منا نسلم له مفاتيح أمورنا وهو لا يجيد أن يسرح بدجاجتين في حديقة منزل مساحتها 2×2 ولكن ما العمل والذات الإنسانية وبالخصوص العراقية فقدت كل ما من شانه أن يرفع من قيمتها كنفس خلاقة مبدعة والسبب بسيط لأنها سلمت رقبتها لجلاد اسمه النظام ومحتال اسمه المفتي لأنها تعودت أن تقاد كالنعجة تخلت عن قيادة نفسها بنفسها تأخذ القائد جاهز ككعكة الحلوى وليس لها لا من قريب ولا من بعيد تدخل بصناعة القائد وكم هو مثير للسخرية ما يتناوله العراقيون من أحاديث بينهم ببحثهم عن الحرية يكيلون الشتائم للقائد الضرورة والصيرورة وهم يتركون الحبل على الغارب لغيرهم كي يفكر لهم ,, أنت تستعبد نفسك تضعها كالنعجة في يد الراعي وتبقى أنت قردا تقلد حركات الآخرين لتكون تلك الصورة الموحدة للعراقيين ,, إما ملتحي صائم مصلي يقلد حركات المفتي البهلوانية وإما حليق اللحية ومعتمر يشماغ احمر يقلد اخو هدلة الذي باع العراق قبل أن يوجه رصاصاته الغادرة الجبانة إلى صدر الشهيد عبد الكريم قاسم وباع العراق مرة أخرى في خيمة صفوان ثم ليخلفه قوم وجوههم كأنها حمر مستنفرة فرت من قسورة تظن أن يفعل بها فاقره باعوا العراق بطريقة مبتكرة…. إذنوأمام هذا الوضع السيئ الذي عليه العراقيون يواصل جمال رحلته في عالم الحرب والحب والسلام ويعود لسوريا حيث تولدت لديه غربة خانقة داخل وطنه الأم مما استدعاه للهجرة وفقا لمقولة عراقية (( لا عين التشوف ولا كلب اليحترك)).
في سوريا استطاع الكاتب ان يلملم أوراق المهاجرين وبقيادة جمال ويلخص حياتهم وفق منظور درامي استطاع به الكاتب ان يلطم الكاذبين على أفواههم ممن هاجروا وعادوا بروايات كاذبة خداعة عن بحبوحة العيش والحرية والكرامة فالكاتب فاق حد التصور في تصوير الحياة لهؤلاء المهاجرين بكل صدق ليس فيه تحامل على هذا أو ذاك ولا مجاملة لهذا او ذاك بل وضع النقاط على الحروف .
تعرف جمال على مجموعة عراقية معرفية فيها الفنان الملحن زيدون (خليل إبراهيم) والشاعر والصحفي أكثم (كريم محسن ) والتاجر صاحب المطبعة سهيل (كاظم القريشي) ومنال صاحبة الصالون الثقافي(عبير شمس الدين)والمطربة السورية المغمورة نورا(رنا ابيض) بدت المجموعة متقاربة متفاهمة متعاونة أحيانا فيما بينها لا تشوب علاقتهم شائبة لكن بمجرد دخول جمال معترضا حيثيات صداقتهم وفارضا صداقته عليهم تغير الحال ليكتشف المشاهد من خلال إسقاطات الكاتب الاجتماعية على علاقاتهم وجدنا ان العراقي حسود حقود أناني بالسليقة وبالذات النابع من المجاميع المعرفية فلو حللنا شخصيات المجموعة وفقا لآراء جمال المعترف المجنون وهي بالطبع تحليلات وجدت لها صدى في نفسنا فتطابقت مع ما يختمر بالذهن من رؤى وأفكار وهو ليس تسليم بما يريده الكاتبإنما هي تطابقات ذهنية واردة وقد تجد من يعترض عليها ويفندها من الآخرين.
زيدون فنان موسيقي عازف عود وملحن وكلمة ملحن نعترض عليها فكل الأغاني التي غنتها نورا هي من أغانيأم كلثوم أو فيروز أو وديع الصافي ولم نسمع لحنا له من غنائها , إذن هو كما قال جمال ملحن فاشل لأنه كان عدوانيا بطبعه كالطفللا يحب أحدا ان يشاركه بألعابه ويعتبر المرأة السورية احد ألعابه التي يعتز بها وكم حاول إقناعها بالزواج منه إلا انه فشل كما فشل عمله الموسيقي وهنا إشارة من قبل الكاتب لكثير من الفنانين العراقيين الذي هاجروا لدول الجوار لا لخلاف عقائدي فكري سياسي مع النظام إنما بعدوى استشرت لظاها في ذواتهم الناقصة في محاولة جمعية في تحقيق أي من طموحاتهم المتشرذ مة الفاقدة للأهلية لظنهم ان النجاح سيحالفهم متصورين دول الجوار من السذاجة ان تحتضن أي كان من متسوري جدار الفن العالي الذي لا يتواجد في وسط معمورته إلا من أتى الله بفن عظيم وبالتالي اصطدامهم بسورمنيع عمق جراحهم وانهزامهم ليعتاشوا بعد تقبلهم واقعهم الجديد على نفايات يلقيها لهم الارادنة والسوارنة والمصارنة .
ولبيان مدى كذب زيدون بكونه ملحن وله المقدرة على التواصل الإبداعي مع الآخرينأبدت المجموعة استعدادها لدعم تسجيل الأغاني لنورا ومن الحان زيدون ليرفض وبشدة لعدة أسباب لعدم ثقته بنفسه ولأنانيته المفرطة اتجاه نورا لأنه يريدها له وحده لا يشاركه بها احد والأمرالآخر لوثوقه بأنها وبمجرد ان يكوم لها اسما سترميه من الشباك لتكون نهايته افتراش شوارع دمشق وجرمانة محملا بكل معاني الخزي والفشل وعند سؤاله عن سبب رفضه إقامة مثل هذا المشروع كان جوابه نظريا وفق فلسفة فارغة بأنه لم يتخذ الفن سلما للمجد والشهرة وتعمير الجيوب بالدولار بل ان الفن هو غاية بحد ذاتها غاية جمالية ليحيلنا الكاتب الى التناقض الفلسفي والغاية والوسيلة لنظرتي الفن للحياة والفن للفن ولو أعطينارأينا الخاص بذلك فإننا نقول ان بداية اعتناق الفن من قبل الفنان وللجميع دون تمييز الهدف هو الحب والرغبة في خوض غمار تجربة جميلة يكون أساسها الذوبان المجرد من الغايات النفعية والمادية الحياتية لكن مع تقادم التجربة الأولى واتصالها بتجارب أعمق واكبر وانفتاح مصراعي أبواب الشهرة وتفاقم احتياجات الفن يصبح الفن لدى الفنان نفعي لكن ليس على حساب الغاية الجمالية الأساسية منه وبالنتيجة تبني الاتجاهين وارى بان الفنان يجب ان تكون غايته نبيلة وسيلته أنبل أي لابد من توفر الموازنة بين الاثنين مع الاحتفاظ بالهدف الأسمى وهو بث إشعاعات المعرفة والمتعة اللتين هما أساس كل فن , وفقا لما مر تنتهي قصة زيدون وهي النتيجة الطبيعية وفق التكوين الفني له لتنتهي به تاجرا لسيارات المنيفيس والتي راجت كثيرا بعد السقوط في وطننا الحبيب العراق..
الشخص الثاني هو الشاعر أكثم الشيوعي المعتقد والذي هو الآخر لم يعكس الحقيقة الخلاقة للشاعر العراقي التي يمكن لها ان تؤسس لواقع رصين وشجاع ليحيلنا الكاتب الى حالة سلبية لكتاب عراقيين كأكثم يكتبون بأسماء مستعارة في جرائد المعارضة قد تكون إسلاميةفيها نوع من المجاملة من قبلهم غايتها نفع مادي يمتد بسني غربتهم وتبرير ذلك عندهم خوفهم من ملاحقة النظام البائد لأهاليهم في العراق , ليكون الرأي الجامع الشامل عن أكثم انه هو الآخر لم يخرج من دائرة الفشل التي وصمهم بها جمال بوصفهم أشباه مثقفين علاوة على عدم امتلاكهم لأدوات الشاعر السحرية لأنهم لم يدخلوا من باب الأدب الواسع العريض بل دخلوا من مجاري وبلاليع المشاكسة السياسية بكلمات تسمى شعرا لينتهي به المطاف متزلفا لسياسي ما بعد صدام في منظومة صحفية عملها التصفيق لا غير فاتحا قنوات التعاون الصحفي مع بائعي زنود الست وأرباب الكراجات وخريجي جامعة سجن أبو غريب لهدم الثقافة والفن والأدب وهو حال الكثيرين ممن كانوا يحملون جريدة ما ويجلسون مثرثرين في مقاهي الزهاوي والشاهبندر وأم كلثوم فتطور لديهم الحال ليحملوا بطل ماء بلاستيك كموديل جديد (مثقف مودرن)ولتتحول الجريدة من اليد اليمنى الى تحت الإبط للامعان بتعفين الثقافة برائحةإبطهم المنفرة .
الوجه الثالث بالمنظومة المعرفية العراقية في المهجر سهيل ابن احد المهاجرين العراقيين منذ زمن بعيد فعاش حياة هجينة أثرت سلبا على توجهاته بشكل عام فكان بلا شخصية واضحة متذبذب في بعض قراراته يردد ما يقوله الاخرون استغلالي من نوع خاص محرك لكل عوامل التأجيجبين أصدقائه حتى انه أجهض علاقة حب كادت ان تتم بين جمال ومنال وكان يعاني من ازدواجية اللهجة لديه حاله حال منال وهي من أقربائه فكانا بلا هوية بلا شخصية وربما أراد لنا الكاتب ان نحذر من أمثالهم فربما كانا عينا للقائد الضرورة زرعهم في ارض الله على كل من خرج بجلده من ضربات السياط الإلهية الصدامية وخير دليل على ذلك ان لدى منال قريب لها يعمل في المخابرات العراقية كان يزودها بأخبار جمال عندما اعتقل بعد عودته من سوريا , ومنال هذه هوائية الرغبات كما قال سهيل تربط احدهم بعلاقة حب عنيفة وسرعان ما تدير ظهرها له بعد حين .. وبما أنها مع سهيل من الذين نسوا العراق فنسيهم وبإشارة من الكاتب لهذا الأمر لم يأخذنا معه لمعرفة ما حل بهم بعد ذلك وكأنه يقول لا عليكم بهم فالعراق ميت منذ الطفولة في أحداقهم .
نورا تجد في جمال ملاذا لها وتوافق من نوع خاص وصفات اختمرت وجدانها لم تجدها في زيدون استغلها جمال ليعزف ألحانا من عقله المتغلغل باصطياد النساء لتغني معهأغنية الحب والغزل لتتوج علاقتهم بالنجاح وإعلان الزواج مع اعتزالها الفن نهائيا على يدي جمال لتكون نهايتها الموت بسبب إسقاطها من قبل جمال على حافة سوفا لتعتزل الحياة وتنظم لقافلة ضحايا الاقتران بجمال المشئومالذي تنامى فيه الشك فأصبح هاجسه الوحيد لفقدانه الظن الحسن بالآخرين لتراكمات عديدة أجهزت عليه , ولي رأي هنا بخصوص اعتزال الفن بالنسبة لنورا بعد زواجها من جمال فالكاتب أراد ان يشير من طرف خفي إننا ننتقد من يحد من مواهب زوجاتهم او بناتهم في النضوج والبروز وممارسة كافة الطقوس الخاصة بذلك على اعتبار شرقيتنا المتأسلمة والتي تعج بالدكتاتورية والتي تقف حائلا بين ما نمارسه وما نؤمن به وكأنه يشير الى البعض الذي يحجب نسائه عن الأنظار ويهتك ستر النساء او يمتدح النساء المتبرجات السافرات ليؤشر الكاتب ازدواجية السلوك لدى المثقف او الأديب او الفنان حتى ان احدهم لا يتجرأ ان يذكر اسم زوجته أمامالآخرينناسيا او متناسيا ان أعظم اسم لأعظمامرأة يتداوله الناس وهو اسم سيدة النساء فاطمة بنت محمد وان دلت هذه الحالة على شيء فإنما تدل على عمق الأنانية واهتزاز الثقة بالذات التي منشأها شرقيتنا المنحرفة .
كما قلنا في مقدمة مقالتنا ان الكاتب لم يترك صغيرة او كبيرة مرت على العراقيين لم يذكرها وقد استطاع استثمار ذلك الأمر وتوظيفه دراميا أغنى العمل بالحركة والديناميكية الصورية وهذا مؤشر في كل أعمال الكاتب انه يخلق من الجماد جسدا يتحرك نابضا بالحياة ووفقا لما أسلفنا هل يغفل عن أعظم لحظات الإنسان العراقي على مدار حياته وتاريخه الممتد لآلاف السنين والمتمثلة بلحظة سقوط الصنم والتحول والتغيير بالتأكيد لا بل أدلى بدلوه ونقل صورة صادقة لتناقضات الموقف العراقي اتجاه الحدث كل يراه وفق ترجمة عيونه وقلبه فالحدث كالكتاب حينما يتناوله المترجمون كل يترجمه وفق ثقافته وأدواته في الترجمة فكانت هذه الصورة التي اسردها أمامكم في لحظة اجتماع عائلة جمال والتي تضم جمال وأمه وشذى ونورا وفي مشهد آخر ضمه مجلس مع نورا ومنال وسهيل واكثم فكانت هناك ستة عشر عينا تنظر للموقف بشكل مختلف كل ينظر له من زاويته والموقف هو متفرعات أربعة هي العراق وشعبه وأمريكا وصدام .
سهيل يعول على مقاومة الجنوبيين في مواجهة الاحتلال وردهم من حيث ما أتوا واكثم مكوي بنار الكره لنظام صدام فيتمنى سقوطه وان كبرت التضحيات وان جاع الناس وان شردوا المهم سقوط صدام وكفى منال لا يعنيها الأمر لا من قريب ولا من بعيد لأنها في عالم آخر يتمثل بمراهقتها وقلبها المتذبذب العاشق ,,, لقطة جميلة جدا للكاميرا وهي تستشرف وجوه العائلة ليقرا المشاهد في عيونهم أحاسيس وانفعالات شعب بأكمله.
وسقط الصنم كل له رؤيته كل له هواجسه هناك فرح هناك تشفي هناك خوف هناك فضول ليختمها جمال بقوله ((انتهى كل شيء)) عبارة لها مغزى وقع في النفوس ترجمة خاصة ما بين الانتهاء الكلي لصدام والانتهاء الكلي ربما للعراق لتوقع ما سيؤول إليه الموقف من انهيارات متتالية تحمل الموت بين جوانبها ربما حرية او نوع من الحرية ذو مواصفات خاصة وربما زوبعة او إعصار اسمه حرية من صنع أمريكي قي مصانع والت ديزني او هولويود المعروفة بالسيناريوهات المحكمة والمحبكة بأيد احترافية ,, حرية تحمل رمادا يذر في عيون الطامحين بالتغيير … كم كانت جميلة تلك الصور للدبابة الأمريكية حينما غطت كل الكادر وهي تسير على إسفلت صنعه صدام لتعطي جملة مفيدة لقد ولت و ذهبت صورة كانت تحتل الشاشة بكاملها اسمها صدام فالغناء لصدام الزهور الصدام والحياة لصدام لكن اليوم .. الموت لصدام الموت للعفلقية الخونة لتحل محلالصورة العفنة والصنم البائس .. الدبابةالأمريكية والتي هي الأخرى لا تقل عن سابقتها في حملها موتا مجانيا للعراقيين.. لكن السؤال الملح أين ذهب البعثية الجبناء اختفوا كلمح البصر من الشوارع التي طالما تسيدوا أرصفتها طالما قطعوا الطرق طالما فتلوا شواربهم شبيهة الرقم ثمانية طالما داسوا الجمال ببساطيلهم الحمراء وكأنهم يتلذذون باللون الأحمر لدمويته الغريبة .. والجواب تغير الحكم فتغيرت جلودهم توزعوا على الجوامع والحسينيات تنازلوا عن مواقع القرار فاكتفوا بمواقع اقل أهمية لا يهم إنما المهم إنهم ما زالوا في الواجهة وان حلقوا شواربهم وان أطلقوا لحاهم وان صبغوا شعورهم وان وهبوا مؤخراتهم لبريمر يعيث بها كيفما يشاء حتى حملت صورة المنخل فأصبحوا يرى ظاهرهم من باطنهم .
قام الكاتب العبقري حامد المالكي باستدعاء جمال على وجه السرعة لمعاينة العراق وما حل به قبل انتهاء زمن العرض السينمائي نعم إنها فرجة تحمل القيح والدمع يحيلنا عليها الكاتب بأدواته الفذة المتمثلة بالمعالجة الخبيرة لشان كان الكاتب احد أبطاله ولي التفاتة هنا بهذا الشأن ان الكاتب ظهر في احد المشاهد في هذا المسلسل وهو يئن هامسا وربما صارخا بصوت مجلجل يهز أركان الكون …إنها قصتي معاناتي أنا العراق أنا العراق أنا العراق .
تفقست صور العراق الجديد عن بؤس بلون آخربعد موت الإله صدام اخترع العراقيون لهم آلهة عديدة فهم لا يمكن ان يعيشوا بلا آلهة فقد أدمنوا عبادة الغير وهنا إشارة من قبل الكاتب بإعجاز تحرر العراقيون من تخاذلهم من تصاغرهم من عدم ثقتهم بذاتهم وكان الضوء الذي كان يشع مع بداية السقوط مصدره فانوس كانت فيه ذبالة من زيت لكنه سريعا ما استهلك فانطفأت جذوة كان يعول عليها العراقيون الكونيون ان تلتهب وتتصاعد لتنير ظلمة حالكة بات محوها عسيرا .. والآلهة لا تعني أشخاص يعبدهم العراقيون فقط بل هو سلوك اجتماعي مغاير يتمثل بمصطلحات هجينة دخلت ونفذت في أسماع العراقيون كالحواسم والعلاسة وغيرها وقد أبدع الكاتب في تسليط الضوء على هكذا مصطلحات في كل المراحل وذلك لارتباطها بذهنية العراقي وترسيخها الواضح كما في مرحلة البعث كمصطلح اليو أن ومصطلح المساعي الحميدة والعفو العام والأنفال والحصار والتأجيل من الدراسة أو الخدمة العسكرية وكم هائل من على هذه الشاكلة كان لها وقعها المؤثر في النفس .. إذن العراق تحرر من صدام لكنه احتل من قبل الفكر الصدامي المنتهج ربما مع سبق الإصرار والترصد من قبل قادة العرق الجدد .
ان عودة جمال الى العراق بعد السقوط صادفت عودة الكثير من عراقيي الخارج وعلى مختلف مشاربهم وهو ما يبشر بخير لان عودتهم ستسهم في بناء البلد ورفع معنويات أهله وعكس التجربة التي عاشوها في الخارج على مفصليات الحياة في العراق لكن الذي حدث يختصره الكاتب العملاق حامد المالكي بعبارة (( الذين تركوا العراق سرقهم العراق وحينما عاد الاخرون سرقوا العراق ))
عاد جمال ووجد شيئا من الماضي ورثه العراقيون لم يرتحل أبدا فهو خبزهم ومائهم الذي يعيشون عليه انه اللون الأسود الذي يتشح به الصغير والكبير وجدران البيوت الخارجية وحتى الداخلية ليصل إشعاعه الى غرف نوم العرسان في ليلة عرسهم فاللونالأسود احد الآلهة الذين أعقبوا صدام ويجب احترامهم فهم هوية تعريفية لنا .
عاد جمال وشاهد الحواجز والشراك تنصب من جديد وان تغيرت أحجامهاوأشكالهاوأوزانها .. خرج العراقيون من سجن ودخلوا في سجن آخر سجن أطبق على خناق الحياة لديهم حواجز وسجون معنوية مثلت فواصل بين القيادة والجماهير فواصل بين النظرية والتطبيق فواصل لا تزول حتى تصيح الساعة او تبتلع الكراسي جميع العراقيين .
عاد جمال فكان العراقيون يتداولون في المقاهي والأماكن الاجتماعية الأخرى مصطلح المقاومة والذي بسط نفوذه علىآراء الشعب والخوف المتجدد في تحديد سلبياته ليكون امتدادا لخوف قديم حينما كان العراقيون لا يمكن لهم توجيه نقد ولو بشطر كلمة لحزب البعث لينتقل الخوف الى شيء جديد اسمه المقاومة والتي هي في حقيقتها كذب وتخريف .. مقاومة يكون هدفها العراقي .. تبت يدا مثل تلك المقاومة , والأدهى ان بعضهم راح يسميها تمييزا المقاومة الشريفة أي شرف تحمله تلك المقاومة التي تذبح الناس لانتماءاتهم المذهبية والعقائدية والمناطقية ..أيةمقاومة تقتل العريس وتغتصب عروسه في ليلة عرسهم .. أية مقاومة التي تقطع أوصالالأطفالإرباإربا ..أية مقاومة تلك التي تمنع الناس من التعبير الحي عن مشاعرهم في الأفراح ..أية مقاومة تتدخل في حيثيات الحياة الخاصة للناس أية مقاومة تلك التي تشيع الفاحشة في أوساط المجتمع وتتاجر بالممنوعات ويكون رجالاتها من مأفونين ومن واهبي العطايا عن طريق مؤخراتهم ليكون قولهم انت ومؤخرتك ملك للجميع تبا لهم ولمن تبعهم ومن أسس بنياهم ومهد لتواجدهم المقرف .
عاد جمال فاشر الكاتب عدة شواهد تبعث على الأسىفأكثر العراقيين يريدون الانخراط بالسياسة لتحقيق مكاسب مادية ومعنوية على حساب خدمة الشعب الغبي الذي أعطى صوته لهم وتحدى المقاومة الغير شريفة وجاهر بصوته ليكون جزاءه سرقته في وضح النهار .
عاد جمال فوجد انتشار كثيف للقتلة والموبوءين من سجناء النظام السابق الذين أطلق سراحهم ما قبل السقوط بأشهر معدودة فكانت نسبة الدمار والقتل على أيديهم تفوق ما ارتكبته يد الأمريكان لان الأمريكان كانوا يقتلون ما يواجههم أما هؤلاء المرتزقة فكانوا يحرقون ويقتلون كل ما تطاله يداهم العفنة ومن ثم يتفاقم دورهم التخريبي لنجدهم في أماكن لا يتوقع احدنا وصولهم بهذه السرعة لها كالجيش والشرطة والبرلمان والحكومة بشكل عام وحتى منظمات المجتمع المدني وهي إحدى التسميات التي أرهق الشعب بوبالها فكم من المجرمين والقتلة والإرهابيينهم قادة وأعضاء في إدارة هذه المنظمات التي شاركت بفاعلية في تقويض نشاط المجتمع مدنيا .
بعد ان شاهد جمال كل ذلك قرر العودة سريعا الى سوريا شانه شان أكثر العائدين لاصطدامهم بواقع لا يمثل طموحهم ولعجزهم عن المواجهة والتغيير اثروا النفاذ بما تبقى لهم من إنسانية خوفا من ان تسحق بأقدام احدهم من أبناء العراق الحضاري الذين كشفوا بأحرف من نار حقيقة كذبة اسمها حضارة .. ثقافة العراق , عاد جمال الى سوريا ليواصل عمله الأدبي وكتابة الرواية ليشكل له اسما محترما في خضم الأوساطالأدبية وكم كان هذا الاسم وبالا عليه فقد جره للمتاعب والويلات ومعانقة القهر حد النشوة نعم اسم صنعه بتعب وجهد ومكابرة يتحول الى لعنة تقض المضاجع فكان الكاتب ذكيا عندما خلق شخصية جديدة تترجم طبيعة تغلغل الفكر السلفي التدميري والمتمثلة بغالب بحري الذي يعترض طريق جمال عنوة ويساومه على كتابة رواية مقابل مليون دولار ولكن أي رواية وأي حكاية تحمل ..إنها رواية الموت الذي يريده الآخرون للعراق وكإنهم لم يرتووا من سيل التوابيت وقوافلها التي هاجرت هجرتها الأخيرة الى قعر الأرض لم يكفهم صدام وما أحدثه في العراق لم يكفهم أمريكا وما زرعته من قروش وحيتان احتكرت البحر ودجلة والفرات كل ذلك لم يشفي غليلهم ليخترعوا موتا آخر اسمه الطائفية .. ساطور يهشم جمجمة كل يعترضه , هذا هو هدف الرواية التي يريد غالب بحري ان يكتبها جمال , لكن جمال رفض أولالأمر نتيجة لتفكيره بمستقبله الأدبي لا التفكير بمصير العراقيين الذين لو وقعت الرواية التي تحرض على القتل الطائفي في أيديهمماذا سيكون تصرفهم .. لم يفكر بهم مطلقا وان تحجج بهم لذر الرماد في العيون إلا ان الحقيقة هي الخوف من تدمير مستقبله الأدبي على اعتبار ان ثمة لمعان عالمي بدا ينشر ضياءه من خلال كتاباته ومثل هذا التوجه الأدبي سيهز بنيان اجتهد كثيرا في إتقانتصميمه لذلك رفض وبشدة هذا العرض المغري لكن القشة التي قصمت ظهر و طهر جمال هي اختطاف ولده جمال الصغير في بغداد وطلب الخاطفون فدية مقدارها مليون دولار وهو نفس المبلغ الذي رصده غالب بحري لكتابة الرواية والجميل في الأمر والذي أبدع الكاتب في تصويره هو مصير الولد لو لم يقدم جمال المبلغ كاملا خلال مدة زمنية معلومة والمصير هو (( ستجد جثته عند الطب العدلي )) أوه لك أيها الطب العدلي وكأنكمتواطئ مع القتلة او كأنك دار أمانات لمفقودات الناس ليحيلني هذا الموضوع لذكرى قديمة عند دراستي في بغداد فقد نسيت في إحدى المرات الكثيرة حقيبة ملابسي وأشيائي الخاصة في إحدى سيارات النقل الداخلي المسماة (الفورتات) فتحيرت في كيفية الوصول لهذه السيارة واستعادة حقيبتي فأشار علي احدهم بوجود كابينة في باب المعظم تسمى أمانات النقل وستجد ضالتك هناك على اعتبار نزاهة السائق ورغم يأسي الشديد توجهت الى هناك فوجدتها بالحفظ والصون ولكنهم اخذوا مني رشوة مبلغا من المال قيمته خمسة دنانير عراقية وذلك في عام 1986 , إذن الطب العدلي متعاون مع القتلة على اعتبار إنهم في كثير من الحالات وحسبما يقول البعض ان أكثر الجثث يستلمها الطب العدلي من مواطنون عاديون وربما هم القتلة أنفسهم علاوة على الجهات الرسمية التي تنتشل الجثث من أزقة وحواري وشوارع العاصمة والمنتشرة بكثافة ولسان الحال يقول لكل من يتغيب أبنائه عنه حتى صباح اليوم التالي عليك بمراجعة الطب العدلي .
احد الخاطفين وهو أبو العتة (سعد خليفة) القزم والذي نجح الكاتب في تصويره بهذه الصورة الصادقة لان رجال الإرهاب والقاعدة هم في حقيقتهم أقزام ديدان وحشرات ضارة غاية في الصغر تغتال براءة الأشياء غدرا وغفلة لا عن مواجهة الند للند هكذا هم الجبناء دائما فلا نامت أعين الجبناء ((آني مو بيدي آنيأحب اسمع صوت واحد يصرخ))عبارة يقولها القزم سعد خليفة لها معنى كبير وهو يعذب جمال الصغير متلذذا بتوجيه الضربات القاسية لجسد الشاب الذي لا حول له ولا قوة فالسادية الوحشية تجذرت في تفاصيل حياة أمثال هؤلاء القذرين القادمين من المجهول العفن فلديهم آهات الناس ومنظر دمائهم عزاء لسد النقص في ذاتهم الخربة والبعض يؤكد ان أكثر هؤلاء هم من كان يبدع الإبداع الخلاق في تعذيب العراقيين في سجون ومعتقلات النظام السرية والعلنية اوإنهم تناسلوا فسجلت ولاداتهم في سجل القتلة والسفاحين لذلك أصبحوا بهذه الكثرة العجيبة .
لي تعليق بسيط على أبو العتة وطبيعة المكان وتواجده لوحده مع المخطوف وطريقة موته المفاجئة وكيفية دخول الشرطة للموقع واكتشاف الأمر ونقل جمال الصغير الى المستشفى كل ذلك لم يحمل معه الإقناع بحقيقة الحدث او بعكس الصورة الصادقة ونحن نؤكد على جميع إخواننا الكتاب والمخرجين بالتعامل بصدق مع الواقع وان يكون سيد الموقف الإقناع ثم الإقناع ثم الإقناع .
تجلت قدرة الكاتب الإبداعية وتفننه في إعطاء السمة الأساسية لما يكتب والمتمثلة بالصراع المجدي الناتج من الأسباب الطبيعية والواصل بين عين المشاهد ورغباته بقوة نادرة تجعلنا لا نكل ولا نمل من مواصلة التصفيق بحرارة إعجابا وهذا ما لمسناه في وقوع جمال بين نارين نار الكتابة الهدامة ونار خطف ابنه جمال الصغير ونجح الكاتب في المزواجة بينهما فلو وضع احدنا نفسه محل جمال ولنكن صادقين ماذا يكون علاجنا لحل هذه المعضلة بالتأكيد سنستجمع كل قوانا الذهنية في سبيل كتابة رواية من النوع الثقيل وهي تحمل رؤوسا نووية محشوة بصنوف مختلفة من المسامير والكرات الحديدية كي تقتل وتحطم اكبر عدد ممكن من الضحايا العراقيين في سبيل رضا غالب بحري واستلام المليون دولار وإعطائها للخاطفين وإنقاذابنه وفعلا شمر جمال عن ساعديه وأنامله الشريرة ليكتب رواية من صفحات عدة ليسلمها طائعا بيد غالب بحري هذا المتثيقف المدسوس من قبل القوى الظلامية … ومن خلال جمال وغالب بحري نستقي الدروس من الكاتب حامد المالكي في حقيقة الإنسان الشيطانية المدمرة ففي داخل كل إنسان شيطان يتحرك لكنه مقيد بسلاسل اجتماعية وقانونية وحبال طابعها المصلحة الذاتية ولو حلت تلك السلاسل وقطعت تلك الحبال لكشر الشيطان عن أنيابه الصفراء الهاتكة للستر وهذا ما حل بجمال فشيطانه ألهمه كتابة رواية الحرب والموت إذنأقلامنا سلاح ذو حدين وكل له وسائله وأسبابه التي بموجبها يكتب .
وأخيرا استطاع الكاتب بمعية الحب والسلام ان يحقق الانتصار لجمال على نفسه الشيطانية وعلى غالب بحري ويخرج ابنه من قبضة خاطفيه وتنتفي الحاجة الى المليون دولار وبالتالي تمزيق الرواية والقضاء على الشيطان الرابض في أعماقه وبالتالي فتح صفحة جديدة يشيعها الكاتب بوجوه مريديه للتأمل خيرا بالعراق وبمستقبله الذي نتمناه حبا وسلاما وقد قدم الكاتب الحب لأنه سبب وأخر السلام لأنها نتيجة ولله درك أيها الحامد من جبل ينحدر عنك السيل ولا يرقى إليك الطير .
المكان لدى المخرج واضح غير مبهم خلق بواسطته تأثيرات درامية معينة استطاع ان يعكس المستوى الاجتماعي والاقتصادي للشخصيات وكل ذلك من خلال تشكيلات صورية أعطت هذا الصدق وكذلك اتساع الحقل بالنسبة للكاميرا جعلها تنبئ بطبيعة الأشياءكالأثاث والمباني والشوارع وما يعنينا بهذا الخصوص هو البيئة العراقية وهي طبيعة أماكن التصوير الحقيقية المشابهة للبيئة العراقية المتمثلة بمدينة الثورة سابقا وصدام لاحقا والصدر حاليا , وأجمل ما شاهدنا من بيئة المسلسل هو بركة الماء التي يخوضها الأطفال والتراب الذي يلعب به الأطفال في سكك المدينة إنها مقاربة وان كانت رمزية إلاإنهاأعطت جمالية واقعية ينشدها الجميع لضخ سيل من المصداقية يحيل المشاهد الى الاسترجاع الذهني وتنشيط الذاكرة المعتلة .
انتقالات المكان بالنسبة لجمال هي انتقالات اجتماعية نفسية تخلق لك حالة من الترقب والتوقع ومدى تذبذب جمال وأحلامه بالارتقاء وما عودته الى سوريا سريعا إلالأنه طلق الأماكن الشعبية التي كانت تمثل صباه او إنها طردته بشكل نهائي الى حيث الأماكن الارستقراطية التي كان يحلم بها .
أما الزمن استطاع الكاتب بمعية المخرج من استدراج المشاهد لزمن هم يريدوه زمن يحمل كل صور المأساة ليجمعها في صورة واحدة صورة ما بعد الاحتلال وما حل بالعراق من دمار وقد نجحا في ذلك ايما نجاح رغم إنني كنت أتمنى لو اقتصر المسلسل على فترة الحرب العراقية الإيرانيةوبالإمكان التحول بجزء ثان الى سوريا وزمن الحصار وهكذا في أجزاء اخرى لتعميق حيثيات المرحلة في النفوس وبالتالي استيعاب جماليات الصورة من خلال التأمل العميق لا كما حصل عدة صور متتابعة أرهقت المشاهد في الإمساك بها دفعة واحدة .
ايجابيات وسلبيات
أشرقتبعض الجماليات المهمة والتي كان لها صدى في خبايا النفس الإنسانية لدى المشاهد لذا تم توثيقها بحيادية مطلقة في سبيل إبراز المحطات المشعة بالجمال والذوق الفنيين وبالنتيجة قيادة ذوي الاختصاص للتسلح بالعلمية المطلوبة لانجاز وإنجاحأعمالهم الدرامية .
أجمل مشهد وأجمل تصوير وأجملإضاءةوأجملإخراجوأجمل صياغة أدبيةأبدعها الكاتب وأجملأداء تمثيلي هو ذلك المشهد الذي احتضنت فيه ماما كلاويش (ضحى الدبس) لجمال بعد عودته من سوريا فإنها احتضنت فيه العراق بأكمله واحتضنت فيه زوجها القتيل سلطان لأنهآخر من كان معه .. والله لقد أبكاني وما زال يبكيني هذا المشهد لأنه اختزل علاقة شعبين ذابا في مصب واحد في نهر واحد اسمه دجلة العراق .
جميل جدا نداء جمال الصغير (ذوالفقار خضر)المختطف وصرخاته بطلب النجدة ليعبر صوت استغاثته جدران مكان الاختطاف ويعبر الى الشوارع في بغداد والناس وهي تمارس أعمالها وكان للكاتب والمخرج إبداع حقيقي في إيصال هذه الفكرة وكأنهم يقولون للعراقيين كفاكم خوفا من مدعي المقاومة من خفافيش الظلام من القتلة من السراق ممن تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء من العراقيين تحرروا وتخلصوا من قيدكم لأنكم لو تحررتم فهذا يعني تحرير العالم بأسره والقادم نور على نور.
كان لأصوات الباعة المتجولين وأصوات الأطفال وهي تلعب في الزقاق كخلفية للمشاهد الداخلية للحي , كذلك صوت بكاء هناء محمد كخلفية صوتية لمشاهد عائلة عبود بعد استشهاد جمال , كل ذلك أعطى فكرة عن شعبية المنطقة وأضفى صورة جمالية معبرة غاية في التشويق .
البيئة الساحرة والخلابة للشمال العراقي أعطت مساحة من الحرية وعدم التقيد للمخرج ومدير التصوير كي يرسموا صورا رائعة عمقت الإحساس المدخر بجمالية المكان فكان تصويرا مبهرا للغاية بلقطات متنوعة وبزوايا مثيرة تحرك المشاعر غبطة وسرور .
بعض المشاهد رغم إنها لا تبني حدثا او يبنى عليها إلاإنها من ضمن واقعيات الزمن الآفل تشع بالصدق والحرارة والتي اعتبرها فاكهة العمل التلفزيوني الدرامي وعلى سبيل المثال حديث النساء ببعض خصوصياتهن وحوارات الرجال في المقهى وغيرها.
عند ولادة جمال الصغير كان هناك إحساس كبير برسم لوحة فنية خالدة من قبل الكاتب والمخرج والمصور عندما تحركت الكاميرا من أسفل السيارة لترتفع فوقها وبشكل راسي لتبدو الفرقة الموسيقية مع الجمهور وهم في فرح غامر منتقلة داخل البيت حيث مكان الأم وولدها و عبارة تتقافز بين الجميع موجهة للوليد الجديد مفادها (( ثمن أبيك سيارة كرونة أم التبريد فماذا سيكون ثمنك يا ترى ))
التفاتة مميزة من قبل الكاتب من خلال ذبح الضحايا من الخراف في المناسبات الخاصة بالزواج ومجالس العزاء فقد كان ذلك شائعا في الثمانينات وما زال يتكرر وذلك للموروث الديني ولما لحيثياته المختلفة من وقع خاص في نفوس العراقيين ولسان حال الجميع يقول (( إننا نُذْبَح ُيوميا كأضاحي وقرابين للقائد الضرورة ونقول له ان كان هذا يرضيك سيدي فخذ حتى ترضى )).
كان لأغنية الشارة والموسيقى التصويرية وبالذات عزف الأغاني العراقية القديمة والتطابق الحسي بين الصورة والموسيقى التصويرية كل ذلك كان له أثره الواضح في تكامل خصائص النجاح للمسلسل ومن خلال ذلك نؤكد بان الموسيقى التصويرية أصبحت من أساسيات النجاح ويجب ان يتناولها فنان متمكن من أدواته شاعرا هامسا بكل معاني الحب .
مرت على المسلسل بعض العواصف الترابية التي جعلت من وجه المسلسل مغبرا في فترات معينة رغم محدوديتها كما في أمر السيدة إكرام (هديل كامل) بان ظهرت في مشهد واحد متأخر من الحلقات الأخيرة , فعودتها بعد سنين طويلة وبعد الحريق الهائل الذي حل بها وبزوجها وببيتها وعدم ظهور أي شخص يحاول إنقاذها لا اعتقد أن ظهورها مؤثر بالعمل البتة بل شوه العمل كما تشوه وجهها المحترق وتساؤل آخر كيف مكنها جنونها من تذكر خضر وقد احدث الزمن به كل تلك التغييرات والشيب قد غزا شعره ومظهره الخارجي من ناحية ملبسه وبنظرة واحدة وبمجرد مروره من أمامها تعرفت عليه ؟ كل هذا ليس بمنطقي , وهذا المشهد لم يكن بمستوى حامد الذي تعلمنا منه الإقناع التام للمشاهد بقابلية حدوث ما يراه الآن مستقبلا فكان من الأجدى ترك هذا المشهد وإعطاء الفرصة للمشاهد ليبني وفق خياله نتيجة ومآل إكرام الى أين ينتهيان .
. اقتحام العائلة العراقية ببعض العبارات الشعبية المخدشة للحياء كما في صباحية عرس حمال وهو يقول لنادية (( ديري بالك عليه )) فتجيبه (( ليش واني مقصرة وياك )) مع ابتسامة مثيرة , كذلك في وصف نادية لصديقتها ليلى بكلمة ((زمو)) وهي كلمة لها وقع في ذهن المشاهد ما كان ينبغي ان ترد على لسان امرأة شفافة لديها من الهم ما يفوق الوصف .
قام المخرج بتشويه بعض الحقائق نتيجة لمقاصد معينة , مما أدى الى تحريك مشاعر الرفض والاستهجان اتجاه تلك المقاصد كما في مجلس الفاتحة في العراق ومجلس الفاتحة في سوريا ففي العراق قارئ يقرا القران وأهل الميت والمعزون في شغل شاغل عن المصيبة وعن قراءة القران مما يؤدي لوصفهم بالانفصاليين عن القران وآثاره , أما في سوريا فان الجميع في إنصات وإصغاء تام للمقرئ حتى ان الكاتب تواجد في هذا المجلس كواحد من المعزين عكس تأثره الشديد بالمصيبة وذوبانه لسماع قراءة القران … وما أكد لنا هذا المنحى في التحليل ان المخرج يريد وبشكل قسري توثيق ما يمكن توثيقه في ذهن المشاهد من ضحالة ثقافة العراقيين وهمجيتهم ويعطي زخما من المديح للواقع والثقافة السورية , بالإضافة الى ما سبق فقد حاول المخرج توجيه صفعة اخرى للعراق والعراقيين من خلال مشاهد قيادة السيارة في العراق والسائق بلا حزام للامان , أما في سوريا وتركيا فالسائق يرتدي حزام للامان وبالتأكيد تلك الحالات وغيرها أهداف مقصودة من قبل المخرج يريد بها تعميق الصورة المشوشة عن العراقيين وتوجهاتهم الاجتماعية والثقافية .
في تركيا تعرف جمال على عامل مصري اسمه عبدو , و عبدو هذا كان نائما في احد المرات بقرب جمال واستيقظ بلا سابق إنذار مرعوبا وهو يصرخ وانتهى المشهد ولا نعرف ما قصة عبدو وما هذه الصرخة وما سببها وهذا المشهد وبعض الحوادث الأخرى ظهرت واختفت بلا فاعلية أو تفسير من خلال ارتباطها ببقية عناصر التكوين الدرامي فقد تغربت عن العمل برمته.
عند ولادة جمال الابن كان هناك مشهدين أشرا أمرا خطيرا بعدم وجود من يهتم بالتفاصيل الصغيرة والتي هي من يقصم ظهر العمل لو تركت بلا رقيب وبالنتيجة ضياع لجهود مضنية كبيرة للكاتب وللكادر بشكل عام والمشهدين هما على التوالي الأول في لحظة الفرح الغامر بذبح الأضحية للمولود جمال الابن وتواجد خضر (سعد محسن) وهو ممسك بالسكين وبجواره رجل كومبارس ربما يكون القصاب والضحية مذبوحة للتو ومطروحة تحت أقدامهم , نتساءل هنا هل خضر هو من ذبح الأضحية ؟ وهذا شيء غريب فما الداعي إذن لاستدعاء القصاب ؟ وفي تلك الإثناء يدخل المختار أبو ليلى (طه علوان) مع عبود (عبد الجبار الشرقاوي) وشاهدا الذبيحة والقصاب بقرب خضر ليقول المختار فرحا ( إي عفية خضر ذبحت الذبيحة )وفي المشهد التالي وبعد عدة مشاهد المختار يسال خضر فكان هذا الحوار …
المختار : اجا القصاب ؟ ( الم تره أيها المختار في المشهد السابق)
خضر : أي اجا
المختار : تره هذا خوش قصاب
خضر : أي مبين عليه ( اذا كان القصاب هو من ذبح الأضحية ماذا تفعل السكين بيدك يا خضر ؟ )
و لو اقتصر أمر الذبيحة على المشهد الاول لكان أفضل بكثير من هذه المفارقة السمجة .
ليس هناك تعاقب زمني في بعض المشاهد مع عدم وجود فاصل مقنع بطريقة الربط بين المشهد الحالي واللاحق بأي من أساليب القطع المعبرة كما في خروج الدكتور صبري من غرفة جمال ودخوله عليه في المشهد اللاحق على اعتبار انه عاد إليه في اليوم التالي مع عدم حدوث أي تغيير يذكر في شكل المشهد فيكون السؤال الم يغير صبري ملابسه الم يغير جمال جلسته والكثير من هذه المشاهد تواجدت في العمل .
مشهد هروب سيف وعناد وسقوط بيرية الجندي الذي يطاردهم مع مجموعته بطريقة مضحكة وتردده بين إكمال المشهد او التوقف لارتدائها من جديد .
سجن الوحدة مليء بالسجناء عند سجن جمال ولكن عندما قام الرائد صكبان بزج جمال وسيف وعناد في السجن لم نرى ولا سجين واحد وهذا يعني التماهل والتساهل في تأكيد الإقناع مقابل ضغط النفقات وهو أمر سيء بالتأكيد … سجن الوحدة العسكرية مضحك للغاية وفيه هذه النافدة الكبيرة والجميع يعرف كيف تبنى سجون الوحدات العسكرية فهي عبارة عن مغارة خانقة للامعان في تعذيب السجين نفسيا … وفي مشهد قصف السجن وسقوط تراب السقف على جمال ورفاقه واشتعال النيران الواضحة من خلال النافذة لم يحرك أي منهم ساكنا وبعد عدة لقطات متعاقبة للقصف وتحطيم السجن يقوم عناد بالصراخ والعويل وهنا غرابة لا تغتفر للمخرج والممثلين ففي مشهد سابق مع طلقة واحدة يفز الجميع عندما أطلق جمال رصاصة وهو بالمخزن خائفا من الشبح .
استخدام أم جمال (هناء محمد) دلو بحجم كبير لرش الماء خلف ولدها لدفع الشر عنه أمر غريب حقا والمتعارف استخدام ما يسمى باللهجة الدارجة (طاسة) او قدح صغير , وكذلك في مشهد آخر لام جمال وهي تقلي الباذنجان في ما يسمى باللهجة العراقية المعجانة وهو أمر غير متعارف لدى العراقيين والمتعارف لديهم هو القلي بإناء مصنوع من الألمنيوم يسمى الطاوة او التاوة في بعض المحافظات العراقية وكل ذلك يؤشر خللا واضحا في نقل الواقع بالشكل الصادق فكان ذلك مدعاة للسخرية والتندر .
هناء محمد كانت متألقة في أدائها عند مجيء نعش ابنها إلا إنني استغرب لامرأة بهذا العمر على اعتبار إنها كبيرة بالسن وهي ترتقي السيارة لتحتضن النعش بهذا الشكل شيء مضحك للغاية .
بعض المشاهد الأرشيفية مسجلة بكاميرا تختلف عن الكاميرا التي صور بها المسلسل ومن اجل المقاربة الغير ناجحة عُمل مونتاج لها اضر بالعمل .
بعض المشاهد تظهر البعثية وهم يتهيئون للحرب قبل سقوط الصنم بدا بعض الجنود وهم يحملون أكياس التراب او الرمل لبناء السواتر وهم مهرولين بها جيئة وذهابا في الأزقة الضيقة بشكل كوميدي ساخر والجميع يعرف ان السواتر الترابية أقيمت قبل السقوط في الشوارع العامة لتوقع حرب شوارع تطوح بها الرؤوس بعيدا ورغم الجهل ألمعلوماتي لطبيعة الحدث وصورته لدى المخرج إلا ان الكاتب بإشاراته الخالدة أفضى بنا لاسترجاع ما كان يتلوه علينا الحزب الفاشي من كذائب عن مدى إصراره لقمع الاحتلال الأمريكي ومواجهته حتى الرمق الأخير لتضاف هذه الكذبة المفضوحة الى سلسلة ضخمة من الكذائب التي كان يطلقها النظام وأزلامه المعوجين .
لا اعلم ما السبب في إلحاحالأعمال الدرامية بإظهار الرفيق البعثي بهذا الجهل والسخرية منه واعتباره محدود الثقافة ان لم يكن قد تلاشت كل صور المعرفة لديه وهذا برأييأمر لا يحمل من الصدق إلا القدر اليسير فالبعثية لو لم يكونوا من الوعي والحنكة والثقافة لما حافظوا على وجودهم على سدة الحكم كل ذلك الزمان واستطاعوا مسك الثقافة بقبضة من حديد تراخت عراها أمامهم فسميت بأسمائهم واتشحت بمنهجهم الإيديولوجي والذي يجب ان لا ننكره ان البعض ان لم يكن الجميع خرج من تحت عباءتهم الثقافية والعلمية .
عند عودة جمال وأمه الى بيتهم القديم في العراق قادمون من سوريا كانت هناك لقطة كلاسيكية مصرية بحتة لصورة عبود المتهدلة على الحائط لتقوم أم جمال بتعديلها , وهنا ثمة تساؤل لم بقيت هذه الصورة فقط دون قطع الأثاث الأخرى و التي اختفت كليا ؟ كما ان اختفاء صورة الرجل العابد المتشكلة على هيئة حروف قرآنية ثم عودتها من جديد كل ذلك يؤكد وجود ارتباك واضح في عمل المخرج وعدم استعانته بفنيين لديهم عين الصقر لمتابعة مفصليات العمل .
وفي نفس المشهد السابق أيضا كم كان جميل لو ان أم جمال استقبلت أبو نادية (مهدي الحسيني) بالبكاء وهو يدخل عليهم لمبادلته مشاعره الحزينة عندما قال باكيا (( ياخوية ياعبود )) لكن هناء محمد كانت صامتة بلا إحساس أشبه بالميت في تناقض عجيب مع ولولتها ونحيبها عندما دخلت واحتضنت صورة عبود .
لم يراعى التتابع الزمني في بعض الملابس للأبطال وهي تتواجد في سنين قادمة الم تبلى الم يحدث لدى الأبطال تغيير مادي او معنوي يستدعيهم لارتداء ملابس أفضل بعد انتقالهم من حال الى حال وحسب وجهة نظري ان النقطة السوداء واضحة للعيان في الثوب الأبيض للعمل وهي حالة سلبية بالتأكيد.
خيمة مجلس العزاء لجمال وأبيه وأمه وأبو نادية هي نفسها في كل المجالس مع تشكيلها وتصميمها المنافي للواقع فهي عبارة عن مشمع ملون وبشكل مضحك جدا والدارج ان الخيمة مقوسة ومصنوعة من الوبر او الصوف الثخين ومثبتة بأعمدة خشبية هذا على اقل تقدير في زمن الحرب لكن ان تستمر نفس الخيمة في كل مجالس العزاء لسنين طويلة فهذا شيء مثير لسخرية .
شعارات الدوري العراقي لكرة القدم وشعارات الحزب البعثي المكتوبة على الجدران كانت مملة وغير واقعية وهي بهذا الإلحاح الغيرمبرر أربكت العين في الإمساك بالصورة والتمعن بجماليتها.
تواجد الأسلوب الكلاسيكي المصري في مفصليات كثيرة من قبل المخرج ومصمم الديكور في مواقع التصوير المختلفة كما في موقع الاختطاف لجمال الصغير فقد تواجدت الإطارات والأخشاب والسكراب وغيرها من القمامات على اعتبار إحالة المشاهد الى ان مكان الاختطاف مكان موبوء وهي محاولة فاشلة في تشويه هذا المكان بهذه الصورة المستهلكة .
المطاردة بين سيارة جمال والمجرمين على الطريق السريع والقطع بين اللقطات لم يراعي الترتيب والموالاة فلقطة تقترب فيها سيارة المطاردين بجانب سيارة جمال ويخرج احدهم من نافذة السيارة ليوجه طلقاته له يتواجد قطع للسيارة وهي مبتعدة لتطارده مرة أخرى مع وجود مسافة كبيرة بينهما وكأن من قام بإدارة هذا المشهد لا يعرف من أبجديات العمل الفني شيئا يذكر وتساؤلي هو ما الداعي لهذا المشهد وأنت لست أهل له ؟ هل تبغي شد المشاهد بهذا المشهد الذي احدث شرخا في قوة وترابط العمل واخل بالنظام العام ولم يضف متعة تذكر ؟ .
عملية تعذيب القزم أبو العتة (سعد خليفة) لجمال المختطف (ذوالفقار خضر)تافهة للغاية لم تحرك فينا أية مشاعر وبالذات استخدام السكائر في كي جسم جمال دون ان تكون هناك لقطة للسيكارة وهي تحرق جلد المختطف والأدهى من ذلك هو عند نقل جمال الصغير الى المستشفى بعد موت أبو العتة ومداهمة الموقع ان الحروق والجروح غير متواجدة على جسم جمال .
مشهد عرس جمال وغيره تواجدت العباءة الإسلامية وبعض البنطلونات للنساء الكومبارس كذلك دشداشة بعض الشباب وفي بغداد وفي ذلك الزمن هو منافاة للواقع علما ان لبس الدشداشة أمر نادر بين الشباب في هكذا محافل , وبجامات العروسين جمال ونادية في ليلة عرسهما غير واقعية بالمرة في ذلك الوقت فهي من تشكيلات الوقت الحاضر ولا تناسب طبيعة عائلة شعبية في مدينة شعبية في بغداد في الثمانينيات وكل ذلك وغيره متكرر في الأعمال العراقية المصورة في سوريا ولبنان .
مشهد جمال وقدومه لقتل نامق وإشهاره المسدس بوجهه أمر ساذج لا يعكس حرفية الممثل والمخرج وكأننا نشاهد المسلسل الكوميدي كاريكاتير او احد أفلام الدمى القديمة والتي يطلق عليها سابقا بمسرح العرائس , وهنا أسجل اعتراضي على المخرج والممثل ففي الأداء الساكن المعتمد على الحوار نجد بعض النجاح لكن مع الاكشن والحركة واللقطات السريعة المتقاطعة نجد فشلا يهدم كيان العمل مما يعطي الانطباع ان أكثر الممثلين بلا لياقة او مرونة جسدية .
الكثير من صور صدام المعروضة لا تمثل توافقا بين زمن التقاط الصورة وزمن الحدث فهناك اختلال واضح يؤكد ما ذهبنا إليه سابقا بوجود عدم مبالاة من قبل المخرج وكادر العمل بالجزئيات الدقيقة والتي هي أساس النجاح .
مشهد الطلق لنادية باهت لم يعكس الصورة الحقيقية لواقعية الموقف وذلك بسبب الأداء المتواضع لآلاء حسين وكذلك لهناء محمد التي كانت تجلس بجوارها لكن ما تدارك المشهد هو صرخة الطفل الوليد مع الموسيقى التصويرية ونزول خضر على السلم حاملا إياه , هنا كان بعض التوازن تلاشت معه إخفاقات هناء محمد وآلاء حسين .
اليشماغ الأحمر للرفاق البعثيين إلحاح زائد من المخرج بإعطاء الانطباع بأنه احد تشكيلات زيهم الرسمي كما إن المخرج جانب الحقيقة عندما جعل جميع الرفاق كومبارس من فئة الشباب فلم يتواجد فيهم كبير السن والمرأة واللذان كان لهما الدور الفاعل في ثبات وبقاء الحزب لفترات طويلة .
بعض مظاهر الحزن عن طريق الماكياج لم تتضح لدى نادية (آلاء حسين) وصديقتها ليلى (شيماء رعد) كما إن وجود موديل التاتو والشفة المنتفخة لدى أكثر الممثلات لم يكن واقعيا بخصوص تلك المرحلة .
هناء محمد تلبس المحبس الذهب وفي مجلس العزاء وهي المثكولة بفقد ابنها وهي حالة لم نألفها لدى نسائنا وبالذات كبيرات السن .
المبردة الإيرانية وقطع الأثاث الأخرى الحديثة الصنع موجودة دائما في أكثر المسلسلات العراقية التي تتناول الماضي العراقي .
الجدار الواطئ جدا والفاصل بين السطوح لا يمثل الواقع أبدا وباعتقادي استخدمه المخرج في لقاءات جمال وخضر ونادية وليلى للضرورة الصورية في سبيل إظهار أجزاء معتد بها من أجسام الممثلين والسؤال الم يكن بالإمكان من استثمار أماكن أخرى لتفريغ الشحن الكلامي ؟ وكأن العقل والخيال توقفا عن اكتشاف ذلك وهنا نقول ان المخرج تقاطع مع القيمة الفعلية لنجاح العمل من خلال التركيز على المعنى دون الشكل او بالعكس وبالتالي احدث شرخا كبيرا بين تكوينات العمل الفني مما اثر سلبا على متعة المشاهد .
هناك لقطات زمنية مطولة غايتها واضحة هي إطالة زمن العمل مما جعله أربعا وثلاثين حلقة او ربما هو تأسيس لتقليد نعم تقليد دراما تركية بأجزاء متعددة وحلقات تفوق الخمسين والستين حلقة , والإطالة هنا خلوها منالفعل الدرامي المؤثر في المشاهد كالموسيقى التصويرية او انفعالات الممثلين او حركتهم او حواراتهم فبدا واضحا عدم التعامل بجدية مع العلة والمعلول والسبب والنتيجة من قبل المخرج الذي أثقل العمل بأخطائه الفادحة .
ابن عم جمال المدعو عدنان (طلال هادي) لم يتلاءم لا شكلا ولاعتمرا ولا مضمونا مع علاقة الصداقة بابن عمه خضر نتيجة للتفاوت في ما ذكرنا وكان الساحة الفنية خلت من عنصر الشباب القريب من عمر خضر (سعد محسن) .
مشهد لإكرام (هديل كامل) تطلب فيه من خضر ان يلف بها شوارع بغداد لتظهر ساحة التحرير في مشهد أرشيفي قديم والسيارات تدور حول نصب الحرية إلا إننا لم نرى الكرونة أم التبريد التي يقودها خضر بل وجدنا تاكسيات ذات اللون الأحمر والأبيض وسيارات من نوع آخر , فكرة المخرج جميلة بترجمة عبارة إكرام (( أريدك أدور بيه بشوارع بغداد )) إلا انه اخل بإيصالها بالشكل المناسب علما ان الكاتب وحسب وجهة نظري حينما وضع هذا المشهد كان يريد ان يقول وعلى لسان حال إكرام .. أريد ان أجوب شوارع بغداد جميعها واصرخ بأعلى الصوت كي يسمع العراقيين ما أقول .. هل يرضيكم أيها الناس حالي الذي أنا فيه امرأة شابة لديها رغبة بالحياة تعيش في أحضان تمثال اسمه واثق هل منكم من يستطيع مساعدتي اخبروني بالله عليكم ولكن المخرج فشل في توثيق سبب رغبة إكرام وهدف الكاتب في الدوران في شوارع بغداد بواسطة السيارة .
في احتيال مكشوف قام المخرج بتصوير خضر و سيارته بصحبة إكرام نهارا ولوحدهما وفي أزقة خالية من السيارات الأخرى وذلك لاختفاء السيارة الكرونة من التواجد في شوارع بغداد في الزمن الراهن , أما في الليل فيعطي المخرج لنفسه بعضا من الحرية في وجودها برفقة سيارات أخرى لاختفاء معالمها ومعالم بقية السيارات وهنا يظهر جليا واضحا عجز المخرج وعجز الميزانية الإنتاجية ومبررها هو ضغط التكاليف والتي تعتبر من أساسيات التدمير للعمل الفني .
مشاهد السيارة وهي تقل خضر وإكرام تظهرهما بنفس الملابس في أكثر المشاهد رغم البعد الزمني بين مشهد وآخر مما يدلل على ان التصوير يكون بحزمة واحدة توفيرا لوقت الممثلين إذن هنا نوع من التماهل واللامبالاة هو من خاصة المخرج والممثل .
لحظات الوداع والاستقبال كثيرة بين الشخصيات أفقدت المشاهد متعة حميمية اللقاء التي يعول عليها في استدرار عطفه حيث اشر سلبا ذلك الأمر بوجود تكرار للأساليب التعبيرية الإيحائية من قبل المخرج .
الضابط العراقي ليس له هيبة تذكر أمام البطل في كل الأعمال العراقية أي عدم الاهتمام بهذا الدورمن قبل المخرجين فالممثل لا يشعرك بالرعب والخوف أبدا كما في تحقيق الضابط العراقي مع جمال حينما القي القبض عليه بعد عودته من سوريا فقد وجدنا بسط شخصية جمال بقوة على شخصية الضابط المتلكئ المتلعثم وأيضا هذا الأمر اعزوه لارتخاء شديد يعتري المخرج ويكشف تواضعه وكأنه يقول في قرارة نفسه النقود في الجيب وليكن بعد ذلك الطوفان.
هناك بعض الأثاث والديكور والإكسسوارات تتحرك من مكان الى آخر بين مشهد وآخر بدون سبب يذكر.
خروج جمال من السجن بعد تنقلات من سجن الى آخر بملابس نظيفة وبنطلون مكوي والجميع يعرف ما الذي يعنيه دخول احدهم في سجون البعث وخروجه منها وخاصة لمن لديه جريمة كجريمة جمال .
مشاهد الأكل وشرب الشاي كثيرة ومملة وكذلك تنظيف الرز الذي تقوم به أم جمال ونادية وأمها وصديقتها ليلى وهو موضوع في صينية لقطة كلاسيكية عفا عليها الزمن ولذلك أقول ان أدوات المخرج الفنية مستهلكة جامدة باردة لا تشع منها الحياة .
حذاء خضر أثناء مراسيم عرسه من ليلى من أحذية الزمن الحالي أبو البوز وهذه النوعية غير موجودة البتة في زمن الحرب .. هناك عجز واضح في تغيير الأزياء والإكسسوارات لدى الممثلين مع صمت مطبق للمخرج حيال ذلك .
لم نرى لمسات إبداعية للإضاءة لأنها لم تعكس لنا طبيعة المنظر وجماليته وزمن تصويره هل هو منظر خارجي أم داخلي , ليل أم نهار , الإضاءة معتمة بعض الشيء تعطي انطباعا هاما بان هناك ضبابية للحدث من قبل المخرج كونه غير عراقي او ان السوداوية طاغية على العمل لعمق المأساة وكذلك لم يحسن المخرج ومدير الإضاءة التعامل مع خلفية الصورة بما يناسبها من تشكيلات حية تتكلم بما معناه لم يكن هناك اهتمام بجمالية الصورة وتفصيلاتها البصرية .
وضع الكاميرا بالنسبة للموضوع وعدستها وحركتها بمعية الإضاءة وعناصر التكوين الأخرى لم تتكلم كانت صماء لولا الحوار الذي أنقذ العمل إذن هناك ثمة عجز في استنطاق الصورة إلا من بعض اللمحات التي لم تسعف العمل في ان يكون ذو جمالية متكاملة باختصار لم يتواجد الخلق والإبداع الحديثين في كل ما يتعلق بالكاميرا فقد كانت بلا روح حتى ان 99% من المشاهد خلت من حركة الكاميرا والممثل والأشياء المحيطة به لخوف المخرج من فشل الكاميرا والممثل في التوافق السحري المعول عليه في تحقيق النجاح أي ان ما رأيناه من تواضع في مفصليات عمل الكاميرا هو نتيجة عدم الثقة المتبادلة بين المخرج ونفسه وأدواته الإخراجية .
الانتقالات من مشهد لآخر فشل المخرج في توازنها وفق الانفعال وطبيعة الحدث الحاصل في نهاية كل مشهد بحيث لا نجد ثمة موازاة تذكر بين النهاية والبداية كما ان سكون بداية كل مشهد من ناحية الصورة وحتى الحوار جعل المشاهد في بعض الأحيان يشعر بوجود مصباح متذبذب الإنارة , يتقد وينطفئ أرهق متعته كثيرا .
الممثل يعمل لتأكيد النتيجة ولا يهتم بالطريقة التي يصل بها لهذه النتيجة او انه يأخذ الفكرة العامة وعلى أساسها يبني حوار من صنعه وهذه سلبية لا يمكن السكوت عنها , تدمير لسمعة الفن العراقي وتشويه للمبدعين الذين نحتوا في الصخر حتى يكون لهم اسما محترما ويأتي مخرج عقيم الأدوات الفنية يطلق عليهم رصاصة الرحمة مخولا إياهم في الأداء بأي طريقة شاءوا .
زهور علاء (وداد) وزوجها طلال هادي (عدنان) لم يكن لهما تأثير يذكر لا بالنص كجدوى وضرورة درامية ولا بالادعاء التمثيلي كخلق وإبداع فكانا باهتين كأسمال بالية في مجمع نفايات كانا مجرد حشو لا أكثر .
لم تكن صرخة هناء محمد مؤثرة عند موت زوجها عبود فقد أتت باهتة ويبدو ان التعب والإرهاق وتقدم العمر والانقطاع عن التمثيل أثرا بشكل سلبي على الممثلة في بعض الفقرات رغم إنها ممثلة محترفة لها ماض جميل مع الإبداع .
الممثل أياد راضي كانت له صولات أدائية متميزة يرتقي بها بمعية العمل الى القمة لكن تراه في أشواط اخرى يتسافل منحدرا ككرة تدحرجت من على جبل بسرعة فائقة لكنه بالعموم ممثل يمتلك أدواتإبداعية مؤثرة يمكن لها ان تطور ولديه خزين إشعاعي كبير حاله حال أكثر الفنانين العراقيين لم يخلق المخرج المتميز الذي يمكن ان يفجر طاقاته ويحررها للوجود .
الفنانون مهدي الحسيني وعبد الجبار الشرقاوي طه علوان ومعهم الكبيرتان هناء محمد وفوزية حسن يبقى لهما الدور المتألق والمتميز في اعتدال وتوازن كفتي الميزان لكل عمل يتواجدون به لما لهم من الظل الذي يفتقد إليهالآخرون وذلك للإحساس العالي بالكلمة والموقف ومقدرة فائقة في التعبير بأجزاء الوجه بصدق لا ينقصه الجمال .
آلاء حسين لم تتناسب مع الدور ولم تكن أهلا له وقد أخطا المخرج كثيرا في إسناد هذا الدور لها لعدة أسبابلأننا لم نجد العواطف المتضاربة والإحساس بالبؤس والظلم ولم نرى بالمختصر المفيد عراقية من ذلك الزمن بل ممثلة حاولت ان تتعَرْقَنْ او تتلون بثوب الحداد الذي بدا عليها مثيرا للسخرية لذلك فشلت فلم تعطي أيةإضافة للعمل بل ربما في لحظات كثيرة أخلت بالنسق العام للوتيرة المتصاعدة في أداء الممثلين وحتى إني وجدت تهلهلا في الأداء لبعض الممثلين المتميزين وهم يشتركون مع آلاء حسين في أداءها المميت البارد .
لا يمكن لنا بأي حال من الأحوال ان ننكر الإبداع المنقطع النظير لكادر العمل المتواجد في إحداث الشمال بين جمال وعائلة كاكا سلطان فان كان بخصوص المعالجة الدرامية التي أعطتإحساس بالمتعة والجدوى الحقيقية للمتفرج لتواجده أمام الشاشة أم بشان الإخراج المتميز والذي لا يدانيه تميز على الإطلاقأم التصوير الساحر أم الديكور والاهم من كل ذلك أداء كاكا سلطان (جرجس جبارة) وماما كلاويش (ضحى الدبس) الأداء العفوي والسهل الممتنع والإشعاع المنبعث والمثير للعاطفة مع كل حركة او سَكَنَة تبدر منهما كانا أجملأبوأم , ومن خلال هذه الخصال الفنية المعبرة امتدت روعتهما لتصل الى الرقيقة الرشيقة الشفافة التي كانت كشعلة من المشاعر الملتهبة ترفل بالجمال والرومانسية وكل ذلك نتيجة لأداء راقي ممتع إنها الممثلة الشابة (هبة النور) بدور فيان كذلك كان للطفل (محمد الحسيني) عبدالله نجاح مضاف يشاركه فيه (لقمان ديركي) كمال ولا ننسى إن هذه المجموعة استطاعت أن تمزق شرنقة الأداء المتميز لإياد راضي فكان ندا لهم في الإمكانية الواضحة لعمق الأصالة في الأداء فكان الجميع في حالة تأثير متبادل أجج المنافسة فكانوا بحق أباطرة المسلسل وملوكه .
بعض المشاهدين اكتشفوا من خلال العمل إنأكثر الممثلين العراقيون ناجحون في الأداء مع الصوت العالي المتشنج في لحظات العصبية كما في كريم محسن و خليل إبراهيم لكنهم حينما يكونا في لحظة الاسترخاء لا ترى منهم أية سمة إبداعيةلينكفئا متقهقرين الىالوراء .
كاظم القريشي نجح في تجسيد شخصية العراقي الذي ضيع المشيتين حينما سقط في الازدواجية بين اللهجتين العراقية والسورية وهو نجاح يضاف الى سجله الخالد.
بعض الممثلين ما زالوا تائهون في صحراء النمط الكلاسيكي لم يستطيعوا التخلص من تبعاته التي تنفر المشاهد فهم يواصلون التمسك بالأداء الكلائشي الواحد فلم نرى تلون في الأداء حسب ووفق المعطيات الدرامية كما في سعد محسن وسعد خليفة وهديل كامل وغيرهم .
الشاب (ذو الفقار خضر) جمال الصغير ممثل متميز عفوي غير انفعالي او متشنج ريلكس لذلك نجح في منح الدور تلك الأهمية وارى فيه نجما لامعا سيكون مفخرة للفن العراقي .
ورغم هذا التواضع وذاك التألق من نصيب هذا الممثل او تلك الممثلة إلاإن ما يجب أن نقوله إن الجميع ذاب في بوتقة واحدة فكان الصورة المميزة لهم هو التألقوالإبداع لسبب وجيه إن النص كان من القوة بحيث طمر كل السلبيات الأخرى التي طرأت على العمل وبالذات أداء الممثلين .
في المحصلة النهائية نجد إن العمل نجح نجاحا كبيرا بكل المقاييس رغم بعض الهفوات واستطاع ان يحجز له مكانا بين الإعمال العراقية الخالدة .