22 ديسمبر، 2024 8:46 م

ملامح طبقة ضارية !

ملامح طبقة ضارية !

هناك  واقعتان ، في تاريخ العراق الحديث ، متشابهتان بصورة مدهشة .  شكلا ومضمونا .  اما المآل فمحل نظر . اذ نعلم نهاية الاولى ، في حين مازالت الثانية جزءا من الراهن المعاش ، وامر تحديد مآلها غير ممكن لان هذا الواقع لم يصبح تاريخا بعد ، ولأ ن التكهن بخاتمته مغامرة غير مضمونة النتائج .
فقد شهد بدء تكوين العراق الحديث ، في عشرينات القرن المنصرم  ، واقع اعادة  انتاج البنية الاجتماعية، او ترتيبها ، وفقا لمنظور ورغائب وتوقعات الانكليز، بسبب الحاجة الماسة الى سند اجتماعي ترتبط مصالحه الراهنه والمستقبليه وتتطابق ، جذريا ، معهم . وقد كان عملهم ، في هذا المجال ، مركبا ويعكس خبرتهم الاكيدة كبلد مستعمر  ومعرفتهم ، غير القليلة ،بطبيعة المجتمع وقواه المؤثرة يومذاك . فعمدو ا ، اضافة الى المجيء بعائلة مالكة على رأس الهرم السياسي الاجتماعي ، الى خلق المرتبه التي تليه وتسنده اجتماعيا  ، وتوازيه عند الاقتضاء ،  وذلك باعادة تأهيل  الفئات الاجتماعية السائدة  ابان السيطرة العثمانية  و دمجها بالفئات التي بدأوا يخلقونها ، هم ، والتي كانت تؤيدهم  وتناهض السيطرة العثمانيه ، ووسيلتهم في ذلك ،  كانت ، هي ذاتها الوسيلة التي استخدمها  العثمانيو ن من قبل : ملكية الدولة لرقبة الارض وتحكمها بالواقع الاجتماعي  بخفض او رفع من تريد من الافراد والجماعات عبر اعادة توزيع الثروه من خلال تملك او حيازة وسيلتها الاساسية ، يومذاك ، الارض . لقد شهدت تلك الفترة تكالبا ونزاعا شديدين للاستحواذ على الملكيات العقارية ، بين مكونّات واجنحة هذه الفئة او الطبقة ،عبر القوّة  والعنف والادعاءات الكاذبة وتزييف سندات الملكية وحتى قطع الطرق والنزاعات الدموية ، وامتد ذلك الى مابعد قيام الدولة وترسخ الملكيّة ، بل وبقيت بعض الادعاءات والاستحواذات قائمة ، دون الفصل في صحتها قانونا ، حتى قيام ثورة تموز 1958.  والحقيقة ان معظم العوائل والبيوتات العراقية  المعروفة ،ذات الملكيات العقارية الهائلة ، مديّنه  بملكيتها ووجودها الى الغزاة والاجانب الذين سيطروا على وادي مابين النهرين ، سواء العثمانيين او المماليك او الانكليز .
لم تقبل  الشرائح العليا من هذه الطبقة ، بعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة ، على التعليم او الوظيفة الحكومية بسبب  روح البداوة وانفتها التي كانت تنظر بها الى المهنة والوظيفة والتعليم الذي ماكانت بحاجة اليه . وقد بقيت ، هذه الطبقة ، حتى سقوطها ، فقيرة ان لم تكن معدومة الثقافة الاّ ما ندر . واوكلت امر حراكها وتاثيرها السياسي الى ممثلين عنها من الطبقة الوسطى عموما والضباط  السابقين والموظفين الفيصليين تحديدا  .لقدسقطت هذه الطبقة  بسهولة ويسر بثورة تموز . وكفّت عن التاثير بسبب الضيّق الشديد لقاعدتها الاجتماعية واعتمادها الاشّد على العائلة المالكة ، رغم ان العقد الذي سبق الثورة قد شهد تناميا في ادراكها لمصالحها كطبقة متميزة عن الشعب العراقي . واهتدائها الى الاطر والتعبيرات السياسية المناسبة . وتوحّدها اتجاه المجتمع ككل . مما انعكس في تجاوزها للفوارق القومية والطائفية  بين فئاتها من خلال شراكات ومصاهرات . وكذلك من خلال توحّدها في احزاب وبرامج واتفاقها على رموز سياسية معينه تمثلت ، اخيرا ، في  شخصيات كان لولبها المحرك ورأس حربتها هو السياسي المحنك نوري السعيد .
لقد تكررت ، وعلى يد الامريكان ، هذه المرّة ، واقعة  تدمير واعادة انشاء الدولة  بعد 2003، وتكرر معها امر اعادة ترتيب البنية الاجتماعية ، فالدولة ودورها الاجتماعي  مازال متصدرا ، بفعل ريعيتها واستقلالها عن المجتمع وتاثيراته . اذ انها مازالت المالك الاوحد لمصدر الثروة الاجتماعية الوحيد والذي لم يعد الارض فقط وانما ما ظهر تحت باطن الارض .. النفط .  ولذلك فان الامساك بها هو امساك بالمفتاح الاعظم للفعل الاجتماعي المؤثر والسيطرة  على باب السلطة والثروة ، لكن الامريكان لم يفعلوا ما فعله الانكليز ،من قبل، واكتفوا  بتدمير الدولة  القائمة ، مراقبين عن كثب ، نشوء دولة ثانية  من بين الانقاض معتمدة على ما يقدمه الواقع من لبنات  اجتماعية ستربط  مصالحها ومصيرها، بالنتيجة ، بهم . واذا كانت الفئات والطبقات الاجتماعية القديمة قد تحدرت من اصول ذات مراكز اجتماعية  قائمه على اسس الوجاهة  التقليدية والشرف القبلي  والنفوذ والمال فان الفئات التي تلقفت الدولة والملكية العامة بين انيابها  عقب 2003 قد صعدت، في معظمها ، من المستويات الدنيا في السلم الاجتماعي ، و كانت ،في الغالب ،مجردة تماما من الملكية . وهي في جوع كاسر الى المال والجاه والسلطان والمؤهلات وهذا ما يمكن ان يفسر لنا الكثير مما نشهده من ظواهر !
لقد شاع منذ سنوات ، في لغة الاعلام وعلى ألسنة الناس ، تعبير ” الطبقة السياسية ” مما كان  يحسب كتعبير من اللغة اليومية الشائعة التي تفتقر الى الاساس العلمي والتحديد المفاهيمي . فالطبقة تكوين اجتماعي يقوم على اسس اقتصادية .  مضمونه الجوهري هو العلاقة بالملكية والانتاج  والتوزيع الاجتماعي للثروه  . ولذلك لايمكن القول بوجود ” طبقة سياسية ”  حيث لا يمكن لطبقة اجتماعية ان تعيش بالسياسة ومن السياسة رغم امكانية ذلك لبعض الافراد . لكننا نلمس ، اليوم ،صحة ما توّصل اليه الحدس العام ، حيث تنهض امامنا ، بالفعل ، طبقة تعيش من السياسة وبالسياسة ، وهي تستحوذ على النصيب الاكبر من الناتج الاجتماعي رغم ان مساهمتها في خلقه هي الصفر او دون الصفر . وهي في حالة صراع وتبلور وتفاعل  واستقطاب وترّكز مستمرين :
لقد اجتاح افراد هذه الطبقة الاحزاب والقوى السياسية الفاعلة والمهيمنه ، وهي احزاب نخبوية ،، وشكلوا على جناح السرعة ، جزءا لايستهان به من لحمتها وسداها ، وهم يتناسلون ويتقدمون في مراكز تاثيرها كما فعلوا سابقا  مع حزب النظام السابق .  انهم ، في الغالب ، غير معنيين ببرامج او توجهات او مباديء اية قوة سياسية ، حقا ، ان ما يعنيهم ،فقط ،ىىهو  النفوذ والمال والقوة والسيطرة ولذلك فهم يمكن ان يتنقلوا عبر اطر هذه الاحزاب والقوى ويتركزون  ويوالون حيث تتركز القوه الفعلية  والقرار .
 ومثلما تكالبت الفئات القديمه على الثروة العقارية والاستملاك فان الفئات المعاصرة ، مجموعات وافراد ، تتكالب وتتصارع بضراوة ، على المال العام وعلى مراكز السيطرة والنفوذ التي تمّكن من  وتسّهل الاستحواذ عليه . ويمكن ان يجد الفساد المستشري وغير المسبوق من ناحية الحجم ، تفسيره ، هو الاخر في هذه الحقيقة.
ويفسر هذا الواقع ، ايضا ، ما نشهده من صراع ضار وتكالب على السلطة التنفيذية ومراكزها و عدم ايلاء نفس الاهمية لعضوية الهيئة التشريعية ، لما تتيحه الاولى من امكانية الاستحواذ  على حجوم كبيرة من المال العام بصيغة اختلاسات وسرقات ومقاولات وعقود ورشى  وامكانية كبيرة على الفعل الاجتماعي عبر السيطرة والقوة .
ان هذه الطبقة ، بعكس مثيلتها في الماضي البعيد ، تتكالب ، كذلك ،  على التعليم الجامعي والشهادات العليا والالقاب العلمية ، واذ سمح لها تدني مستوى القيّم لديها وممارساتها السابقة .بتزوير  الوثائق والشهادات والالقاب في البدء لتعويض نقص تحسه وادعاء كفاءة يستلزمها وضعها الجديد ، فانها بدأت منذ سنوات ، بالاستحواذ على  اكبر حصة من القبولات الجامعية للدراسات العليا او احتكارها تماما . وحيث انها غير معنية اساسا بالمضمون الحقيقي والمحتوى المعرفي لهذه الالقاب والشهادات وهي تحتاجها فقط للوجاهة والرقي الوظيفي فقد هبط المستوى الحقيقي لهذه الدرجات . واذا كنا نشهد قبل 2003 حملة القاب “دكتوراه ” عديمي الثقافة او ضيقي الافق فاننا يمكن ان نشهد ، اليوم ، حملة نفس اللقب  لكنهم قد  لايتقنون القراءة والكتابة  !
ان المستوى الاخلاقي المتدني للكثير من افراد هذه الطبقة واحتواءها ،في بعض الاحيان ، على لصوص وحثالة سابقين ، جعلها لا تتوقف عند اي حد في استحواذها على الثروات العامة فشهدنا كيف ان البعض من افرادها ، المعروفين ،استحوذوا ، حتى ، على انابيب تصدير النفط الخام ، في بعض الاوقات ، غرب البلاد وجنوبها ، وبدأوا ببيع وتهريب النفط  بشكل مباشر ! وهم ، لذلك ، يشكلون ، امكانية كامنه يمكن ان تستثمر في اي اتجاه ولصالح اي هدف ، وتدرك القوى الخارجية ذات الاهتمام بالشان العراقي هذا الواقع ويمكن ان تستثمره في اي حين !
ورغم  تأجيجها ، هذه الطبقة ،لصراعات  ومواجهات  داميه ، في بعض الاحيان ، بين مكوّناتها  ، على اسس اثنية او طائفية ، وايصالها الامور  ، احيانا الى طريق اللاعودة ، فانها باستمرار ، تجد سبيلها الى التراضي والتسوية في اللحظات الاخيرة ، مدركة لطبيعة مصالحها الواحدة والتي تجعلها في خندق واحد والشعب العراقي كله في الخندق الآخر ! انها تجد الاستثناءات للقتلة والاعفاءات للمجرمين وتتجاهل الضحايا السابقين والحاليين وتتاجر بآلامهم بل و يستحوذ متنفذوها على  قدر كبير من استحقاقاتهم وتعويضاتهم .  انها تجتمع وتتآلف وتتوحد ازاء  زيادة وتوسيع امتيازاتها والتشريعات الخاصة بها ، كرواتب ومنح ومخصصات وخدمات ومنافع وتكفل  ممثليها البرلمانيين ، مثلا ، بقانون تقاعد هو الاوحد والاغرب في العالم . تقاعد  مترف لمدى الحياة مقابل ” خدمة ” اربعة اعوام يقضيها المشمول في سفرات وايفادات وحياة مترفة  واستهلاك باذخ . لقد بدأ يتطور لديها وعيّ بذاتها كطبقة متمايزة عن بقية الشعب وهي تنشط في ترسيخ مكاسبها وتستخدم بعض اجنحتها ، اليوم ، التلويح بالحرب الاهلية ، لأخافة وابتزاز الشعب او لتحسين مواقفها ازاء بعضها كما تفعل الجيوش في استثمار الفوز او استغلال فرص الهدنه وايقاف اطلاق النار للوصول الى خطوط  ومواقع افضل . وضغوط تحسّن موقعها التفاوضي …انها تستعين كذلك بالخارج للاستقواء على بعضها البعض وترهن نفسها للاجندات الاقليمية والعالمية دون مبالاة بسيادة او كرامة وطنية .
واذا كانت وسيلة الثروة بالنسبة للطبقة القديمة ، وهي الملكية العقارية ، تربطها ، على نحو من الانحاء، بالارض وتصرف  معظم مداخيلها في العراق ، فان وسيلة الثروة بالنسبة للطبقة الحالية هي مراكمة الاموال النقديه بصيغة اختلاسات وعقود وهمية وسرقات مباشرة وهي تستثمرها خارجا لغسيلها في هيئة عقارات وشركات وارصدة . انها تخاف من الداخل ولا تتصور استمرار وجودها  فيه وارتباطها مصيريا معه وتتوقع الاسؤ ولذلك فانها تضع كل  بيضها خارجا .ولذلك ، ايضا ، فهي غير معنية بالوطن ومستقبله الاّ بقدر ما تستطيع امتصاصه  وهضمه في اقل  زمن ممكن .
وحيث ان هذه الطبقة قد تسلمت دولة من الاحتلال تحت لافتات  الديمقراطية ودولة المؤسسات والتداول السلمي للسلطة وحرية الاعلام ، فان المناخ ما يزال يتسع لبعض الحريات رغم انها  تسفر عن اساليبها المضادة للديمقراطية ،هنا او هناك ، في هذه الواقعة او تلك ، لكن تجذر مصالحها ورسوخ امتيازاتها وثباتها النسبي ، مستقبلا ، كطبقة متميزة ، سيضطرها الى اسقاط الكثير من البراقع التي تتخفى تحتها وربما ستمارس تسلطا وجبروتا اشّد مما يتوقع للحفاظ على وادامة مكاسبها. ولربما نهض على انقاض ” ديمقراطية ” اليوم ، نوع مقنع من الفاشية !
لقد كانت الطبقة السياسية القديمة تفتقر  بشدة الى المعرفة والثقافة والقدرات السياسية ولذلك فوضّت امرها الى حفنه من السياسيين المحترفين وفي المقدمه منهم نوري السعيد و كانت خالية الوفاض من اسلحة سياسية او ايديولوجية يعتد بها او عمق اجتماعي مؤازر ولذلك سقطت في صبيحة الرابع عشر من تموز بكل بساطة ويسر ، اما اجنحة الطبقة السائدة او التي في طريقها الى السيادة ، اليوم ، فهي اكثر خبثا ودهاءا وتمتلك اسلحة فائقة التدمير هي العنصرية والطائفية وروحا مغامرة ونفسا قتاليا ولا تتحرج من البيع والشراء في اخطر وانبل القضايا ولذلك فلا يتوقع ان تهزم بسهولة وهي يمكن ، ببساطة ان تشعل الحرب الاهلية وتمزق الوطن اشلاء وتجعل منه ميادين قتال لقوى اقليمية او عالمية . كما يمكن ان تبيعه او تؤجره  جملة او بالتجزئة.ولقد اسفرت ، بعض اجنحتها ،عن وجهها ،في هذه المرحلة ، حينما اوصلت الامور بالفعل الى التلويح بالحرب الاهلية والتقسيم . ورغم ضغوطها المادية والمعنوية الهائله ، في هذا الاتجاه، فانها لم تستطع جرّ قطاعات كبرى من الشعب الى الاستفزاز ولكن ذلك لا يعني ان جماهير الشعب باتت محصّنه ضد هذا النوع من السلوك . او انها فقدت هذه الاوراق الرابحة ، انها ببساطة اجلّت المعركة واتفقت على هدنه وعادت الى مائدة المساومة بعد  استعراض القوة !
 ان ثقافة هذه “الطبقة “خاوية . والوطن  وكذلك الشعب بالنسبة لها هو  مصالحها المباشرة . وهي يمكن  ان تنسق نشاط اجنحتها وتتوحد في طبقة متمايزه على صعيد العراق . كما يمكن ان تمزقه وفقا لاعتبارت اثنية او طائفية يستحوذ فيها كل جناح على حصته من الكعكة . وفي كل الاحوال  ،  ترتسم  ، على سيمائها ملامح  ضراوة وخسّة . انها ملامح الضبع الشوهاء : هارب من  ضوء النهار. كاسر  بلا حدود في الظلام ، مولع بالفطائس ، مع قوة اطباق في فكه  تفوق قوة فك الاسد ، ويمكن ان تطحن العظام !