بداية، اود لفت انتباه القارئ، الى ان التحقيق كتب فترة الحرب العراقية ــ الايرانية. لذا ارجوه مراعاة الظروف الزمانية لطرح الافكار والتحليلات التي جاء بها. ولاهمية الافكار الواردة فيه وعمق مادته في كتابة تاريخ هذه الحرب، ارتأيت اعادة نشر ترجمته اعماماً للفائدة ــ المترجم
كيف تحافظ سلطة الملالي الآن على نفسها بالرغم من استمرار الحرب والفوضى الاقتصادية؟ ما هي اساليب الارهاب التي تنتهجها؟ كيف يعيش الناس في ظل نظام القمع؟ وما هو رد الفعل الاجتماعي المدني في مواجهته؟
هذه الاسئلة وغيرها هي التي حول الموفد الخاص لجريدة (Le Figaro) الفرنسية تلمس اجاباتها في لقطات من طهران.
◊ الحمى الرسمية
كان ذلك في يوم الجمعة، يوم الصلاة والعطلة الاسبوعية في ايران عندما عبرت منتزه (فرح) باتجاه مسجد جامعة طهران حيث الاعداد الغفيرة من النساء والرجال تستعد للصلاة.. ثم يأتي حجة الاسلام رافسنجاني رئيس البرلمان والرجل الثاني في البلاد بعد خميني فيلقي خطبته التي يتعرض فيها للاخطاء التي ارتكبتها حكومة بازركان ــ اول حكومة اسلامية بعد الثورة ذات توجه معتدل ــ فيقاطعه جمهور المصلين البالغ عددهم نحو (30) الف شخص بالصراخ والتكبير والقبضات المرفوعة ــ الله اكبر، خميني قائدنا، الموت لامريكا، الموت لروسيا، الموت لاسرائيل ـــ مثل هذه الخطبة التي قد تطول لأكثر من ساعتين يكلف بالقائها عادة رجل سياسي من الصفوف الاولى.
ويروي رفسنجاني على مسامع المصلين انه قد رأى فيما يرى النائم ان آية الله بهشتي الرئيس السابق للحزب الرسمي قضى في حادث تفجير في حزيران من عام 1981، قد افضى له بقلقه على مصير الشهداء الذين سقطوا مؤخراً في الجبهة، فهم محتجزون على ابواب الجنة لا يستطيعون الدخول لان عائلاتهم تستفيد كثيراً من موتهم ــ المقصود من هذه الرواية ان تتخلى هذه العائلات طوعاً عن التعويضات التي تتقاضاها والبالغة (2) مليون ريـال ــ ومن الجدير بالذكر ان كل المساجد تغلق في طهران يوم الجمعة عدا مسجد جامعة طهران فيتحقق هذا الحشد الاسبوعي للناس.
◊ مقبرة بهشت زارا
هذه المقبرة التي اكتسبتها الحرب مع العراق امتداداً ملحوظاً تموج بالنساء والشجر والرايات والاعلام الايرانية.. وكل حجر تعلوه صورة لشهيد اغلبهم في مطلع الشباب بينما ترتفع صورة خميني ويتدفق من نافورة في وسط المقبرة ماء ملون بالاحمر ليرمز لانسكاب دم الشهداء.
◊ القمع وعدم الرضا
خارج منطقتي الحُمى الرسمية ــ الجامعة ومقبرة بهشت زارا ــ في الباصات والتاكسيات والسيارات العمومية يترحم الناس في طهران على العهد الماضي وعلى سهولة الحياة في زمن الشاه الذي اصبح يتمتع بشعبية مذهلة.
ومن الظواهر الجديدة في ايران، انفجار المظاهرات العفوية من وقت لآخر كتعبير عن عدم الرضا العام والتي كان من اخطرها تلك التي خرجت في احياء جنوبي العاصمة يوم 10/ نيسان اثر غارة للطيران العراقي على المنطقة، وقد ضمت تلك المظاهرة خمسة آلاف متظاهر كانوا يهتفون بشعارات معادية للحكومة ولاستمرار الحرب.
بعدها بأيام، قامت اللجان الثورية باعتقال خمسين شاباً من الذين شاركوا في المظاهرة واودعتهم سجن ايفين. ومنذ ذلك الوقت لم يتحدث عنهم احد.
على أية حال، ان هذا النمط من التحرك الجماهيري لا يشكل تهديداً خطيراً للنظام طالما انه ليس في مقدور اي تنظيم حزبي او نقابي ان يستثمره في مواجهة جهاز القمع الهائل والمنظم الذي تمتلكه السلطة وتبسط من خلاله ظلال الخوف وعدم الثقة في كل مكان.
◊ جهاز القمع
ان النظام في الجمهورية الاسلامية لم يعد يحظى بدعم الاغلبية لكنه يستطيع الاعتماد على شبكة محكمة الخيوط تستند الى:ــ
اللجان الثورية التي تقوم بكافة مهام الشرطة النظامية بملابس مدنية وباسم الاسلام، ولا يتردد اعضاء هذه اللجان في التحرش بالناس تحت اي ادعاء مستخدمين عصابات من حثالة البروليتاريا التي تصف نفسها بأنها حزب الله وهي مزودة بالدراجات النارية ومسلحة بالهراوات.
رجال الدين. لم يكن في ايران من قبل هيئة دينية منظمة وذات هيكل مركزي الى ان جاءت الثورة لتمنح رجال الدين الملالي سلطات واسعة، فهم القضاة المعنيون من قبل الحكومة في غياب القضاء المدني، وهم الذين يترأسون كل الدوائر المهمة، وهم ممثلو الامام في التوجيه الديني وفي المساجد التي لا تكتفي ببث رسائل الحكومة بل تتدخل في كل مجالات الحياة الاجتماعية، ويتحمل الملالي ايضاً مسؤولية توزيع البطاقات التموينية لتزويد المواطن بالسلع الاساسية والكمالية. ويدرس النظام الآن مسألة منح الهيئة الدينية سلطة التنظيم السياسي المركزي، بعض الملالي من آيات الله يخفون امتعاضهم من هذه الخطوة التي تجعلهم جزءاً من جهاز الدولة، لكن الاغلبية التي تعي مصالحهم الجديدة تدعم اي قرار يزيد من نفوذها.
الحرس الثوري (الباسدران)، ويبلغ عددهم نحو 400 الف رجل، وهم مدربون جيداً ومجهزون بأحدث الاسلحة. قسم كبير من عناصرهم موجودة على الجبهة في وحدات منفصلة عن الجيش النظامي.
اذا كنت من حرس الثورة، فهذا يعني انك من النخبة التي تتمتع بكافة الامتيازات اضافة الى الرواتب المغرية. فاذا كنت ريفياً لك افضل الاراضي الزراعية، واذا كنت من سكان العاصمة لك اسواقك الخاصة ومدارسك الخاصة وثكناتك الخاصة.
اما ولاء الحرس الثوري المطلق فهو للامام الذي قد يكون موته فاتحة لصراع داخلي على السلطة، يقف فيه الحرس الثوري فجأة في طريق من يتولى الحكم بعد خميني.
◊ الغارات العراقية
الغارات العراقية على طهران في بداية الربيع وحين انهمرت عليهم قنابل تزن الواحدة منها 250 كغم، تحقق سكان العاصمة من خطورة هذه الحرب التي لم تمسهم حتى الآن الا قليلاً، فالذي دفع ثمنها هم ابناء الريف الايراني ــ والمتطوعون للموت ــ من الحرس الثوري وغيره. اما الشباب في طهران فقد استطاع تفادي اداء مدة الخدمة العسكرية في الجيش النظامي على الجبهة، وذلك باعفاء رسمي او وظيفة سهلة في مناطق سكنهم.
وعندما تسقط القنابل العراقية على شمال المدينة حيث البيوت الفخمة والحدائق، لا يترتب على ذلك سقوط الكثير من الضحايا.. اما حين تضرب الغارات الاحياء الشعبية في جنوب العاصمة ذي الكثافة السكانية المرتفعة فلا احد يستطيع احصاء القتلى.
وتتردد في طهران الحكاية التالية: وصل الى الجنة (200) شخص من ضحايا القصف، فاعتذر حارسها، بأن الشواغر لديه تتسع فقط لاربعين شخصاً ــ الرقم الذي ادلى به الناطق الرسمي ــ.
◊ بين الحثالة المسلحة والقطط السمان
¤ غلاء المعيشة:
يشكل غلاء المعيشة احد عوامل عدم الرضى في طهران، فقد انخفض مستوى المعيشة الحقيقي للعمال وصغار موظفي الدولة والقطاع العام الى اقل من النصف منذ قيام الثورة.
وفي الوقت الذي يتقاضى فيه العامل (40) الف ريـال شهرياً، فان ثمن كيلو الرز قد يصل الى 700 ريـال في السوق الحرة، وكيلو اللحم الى 2000 ريـال وعلبة السكائر الامريكية الى 750 ريـالاً.
وفي ايران سوق مزدوجة رسمية تتوفر فيها السلع الاساسية التي يمكن الحصول عليها بالبطاقات وباسعار معقولة، وسوق اخرى موازية يتوفر فيها كل شيء ويتضاعف السعر فيها الى 6 او7 مرات.
◊ كيف يتدبر (المحرومون) امورهم
يقوم النظام بتأمين ضرورياتهم على اكمل وجه، فالاشد فقراً بينهم يتكدسون في الجوامع ببطاقاتهم التموينية، ولعائلات الشهداء منهم الحق بكافة التعويضات والامتيازات كالمخازن الخاصة والحجيج الى مكة لتعود منها محملة بالاجهزة الكهربائية التي تباع في طهران بسبعة اضعاف سعرها الاصلي.
اما مناطق (المحرومين) التي ترفد الجمهورية الاسلامية باطفالها المدللين من الحرس الثوري واعضاء اللجان الذين يتمتعون بالنفوذ والسلطة، فان الغلاء يطحنها لكنها اذا ثارت فسيكون ذلك في وجه ابناء العم.
◊ البرجوازية الايرانية
النظام الذي دمر كل اشكال الحرية الشخصية لم يتعرض ابداً لحق الملكية. لذا فهو يلقي الدعم ــ غير المعلن دائماً ــ من البرجوازية التجارية التي اسست ثروتها في الماضي على حساب المشاريع الكبيرة كالسدود والكهرباء المركزية ومصانع الحديد والصلب.. الخ.
الآن لم يعد في ايران مشاريع كبيرة بعد ان تحول التجار نحو حقل الاستيراد واضعين ايديهم على العديد من السلع المدنية، والمحظوظون منهم هم اولئك الذين تربطهم علاقة ما بالملالي الذين يتعذر الاستيراد من دون اذوناتهم.
الفساد يستشري من جديد واكثر بكثير مما كان عليه في زمن الشاه، والعمولة التي يتقاضاها متنفذو الصف الاول من الملالي في النظام تصل الى 20% فتؤدي فعالية لا تنكر.. لم يعد هؤلاء يعيشون حياة اسبارطية وليس ادل على ذلك من ملايين الدولارات التي تحفظها لهم بنوك قبرص وسويسرا.
◊ كيف تصبح ثرياً في ايران اليوم
المبدأ من اجل اثراء سريع هو الدخول في لعبة السوق المزدوجة وقواعد اللعبة هي شراء المنتجات من السوق الرسمي بسعر معقول ثم بيعها فوراً للسوق الموازية فيتحقق فارق في السعر لا يقل باي حال عن الفارق بين سعر العملة في البنك المركزي وسعرها في السوق الحرة مقارنة بالدولار، اي بنسبة 1/6.
ومن الامثلة (النابضة) في هذا المجال، استيراد سيارات المرسيدس الذي لا يتم الا بأذن من الملالي في الجهاز الاداري والذي يمكن به فتح اعتماد مصرفي لاستيراد عدد من السيارات التي يباع بعضها بالسعر الرسمي للجمهور الذي ينتظر دوره في قائمة طويلة ومحددة ، ويباع عدد آخر في السوق الموازية بسعر يصل الى عشرة اضعاف السعر المعلن. وينطبق المبدأ نفسه مع فارق في الحيثيات على اعمال البناء، فاذا كنت استاذاً في جامعة طهران من الذين يتمتعون بسمعة اسلامية جيدة ولم يكن لديك منزل خاص بك او بأحد افراد عائلتك يمكنك الحصول على اذن لشراء الارض والبناء، وتستطيع بما تحمله من بطاقات ان تشتري مواد البناء بالسعر الرسمي ثم تبيع البيت نفسه بخمسة اضعاف تكلفته.
◊ الخاسرون
المثقفون والطبقة الوسطى هما الشريحتان الاكثر خسارة من (المحرومين) في مجتمع يتسلط فيه القمع والارهاب المغلف بالدين. وهذا مهندس كهربائي درجة اولى في احدى شركات القطاع العام يعرب عن المرارة والندم على الخروفين اللذين كان قد ضحى بهما احتفاء بعودة خميني الى ايران.
.. كان مرتبي في زمن الشاه يعادل ثلاث آلاف دولار شهرياً والآن لا يتجاوز الخمسمائة فاضطر الى تأجير منزلي لاحافظ على مستوى الحياة التي اعتدتها.
وتضيف زوجته المدرسة في جامعة طهران: اشعر وببساطة ان حياتنا اصبحت فارغة ودون معنى.. اتناول العقاقير المضادة للاكتئاب كما تفعل الكثيرات من صديقاتي لنستطيع احتمالها. في كل مرة اذهب فيها للدرس يتملكني الخوف من ان اكون قد تفوهت بكلمة او تصرفت بطريقة ليست اسلامية بدرجة كافية.. عليَّ ان اسيطر ودون توقف على كلماتي وعلى المواضيع التي اطرحها، اما الشادور فهو عقوبة وخاصة في فصل الصيف.. نحن نعيش وكأننا في سجن.
مسعود، مثقف يعيش في شمال المدينة واستاذ علم اجتماع أحيل الى التقاعد، لخص الحياة في المجتمع الجديد بعبارة مقتضبة (مواطن وحريات شخصية) مصطلحان مُلغيان من القاموس الايراني.
كثيرون من المثقفين الذين يعانون من الاختناق يفكرون في الهجرة (2 مليون ايراني يعيشون حالياً في كل من اوروبا والولايات المتحدة) لكن مصوراً موهوباً قال لي (عليهم هم ــ اي الملالي ــ ان يرحلوا وليس نحن).
الى متى يستمر قبول الايرانيين بمعادلة طرفيها (حثالة البروليتاريا) المسلحة والبرجوازية التجارية النهمة.
خميني يمارس سطوته على الشارع الايراني لكن موته سيكون مناسبة لاطلاق وحش الصراعات الداخلية على السلطة وتفجير مشاعر الاحباط والغضب التي تراكمت بفعل الفوضى والظلم الذي يمارسه النظام.
◊ المصدر
جريدة Le Figaro ، باريس، الاعداد 13و14/ حزيران/ 1985، تحقيق بقلم رونو جيرار، ترجمة ــ وليد خالد احمد
[email protected]