أرسل لي الصديق الدكتور خليل عبد العزيز نصَّ المقابلة الهامة التي أجراها معه الأستاذ محمد القحط بخصوص الحدث المفصلي الهام في تاريخ العراق الراهن وأعني به ما عُرِف بمؤامرة العقيد الركن عبد الروهاب الشوّاف في الموصل التي وقعت ممهداتها وأحداثها في الايام 6-10 آذار (مارس) 1959..ثم تفضل الدكتور عبد العزيز مشكورا بطلب رأيي في الموضوع؛ وحيث أن الموضوع يحتمل تعدد وجهات النظر من ناحية ممهدات الحدث وتفاصيله والدروس المتوخاة منه ؛ وحيث أن الحدث رغم تقادمه لم تسلط عليه الأضواء بما يتناسب وأهميته باستثناء ما كتبه القليلون بنزاهة وتجرد ومنهم فتح الله جرجيس في ج2 من كتابه عن عبد الكريم قاسم، ناهيك عن وثائق الحزب الشيوعي العراقي وما دونه الأستاذ عزيز سباهي عن تاريخ الحزب وآخرون.. لذا تنطوي هذه الشهادة على أهمية كبيرة حين تكون من رجل كان مشاركاً بفاعلية في صنع الحدث نفسه.
وكنت أتمنى على المحاور أن يتجاوز الأسئلة النمطية –على أهميتها- ويتدخل في التفاصيل بعيدا عن الأسئلة المكتوبة والمرسلة عن بعد لتنتظر أجابة مكتوبة! فكلاهما (المحاوِر والمحاوَر) يقطن على قرب في مدينة واحدة ما يتيح للأول أن يكون أكثر حيوية في أسئلته ليتدخل ويستوقف المحاوَر لاستدرار أكبر قدر ممكن من التفاصيل.. ولي أن أتوقف مع المقدمة حيث جاء فيها: ” علينا التمعن جيدا ومحاكاة (لعله يقصد محاكمة) الأحداث في زمانها ومكانها والظروف السائدة آنذاك، كي لا نقع في خطأ التقييم (يقصد التقويم)، فلكل زمان ومكان أحكامه وظروفه الخاصة التي علينا أخذها بالحسبان، فليس من الصحيح محاكاة (ها هي تظهرة مرة أخرى!) الأحداث بعقلية وقوانين هذا الزمان.”
وأنا أتفق مع المبدأ الموضوعي في أن تسلط الأضواء على ظروف الحدث وأرضيته والتوقف عندها لفهم الحدث فهما موضوعياً لكنني حذر في قبول الجزء الأخير من العبارة وهو ألّا ننظر للحدث بمعيار وعقلية وقوانين هذا الزمان..فلو تكلمت يا أستاذ الكحط عن حدث حصل قبل قرون ربما وافقناك بعض الموافقة لا كلها فالنهج الموضوعي أن تدرس ظروف الحدث وتحاكمها وفق الأساليب العلمية والاستفادة من التطورات العلمية التي تساعد في فهم الحدث ومآلاته، أي إننا ننظر الى ثورة الزنج مثلا على أنهم شريحة مضطهدة ومهمشة وننظر لهم –وفق المنهج المادي التأريخي- أن تطلعاتِهم تطلعاتٌ ذات نزوع مادي تأريخي ضد استغلال الإنسان لأخيه الإنسان..الخ ( يمكن مراجعة كتاب حسين مروة النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، الفصل المخصص لثورة الزنج)، والأمر الثاني أن الحدث مازال طرياً في ذاكرة الناس واستُخدِم وما زال كسلاح من قبل القوى الرجعية للإساءة للشيوعين العراقيين وتاريخهم وسنتوقف عند حادثة مقتل حفصة العمري الذي ذكّر به إبراهيم الاشيقر الجعفري وزير الخارجية الحالي قبل سنوات!!
تتسم الموصل بخصوصية تميزها عن باقي مدن العراق، فتأريخيا تعاقبت عليها شعوب وأقوام مختلفة من فرس وتتر وترك ..ما خلق مجتمعا مختلطا من شتى الاثنيات والطوائف مع غلبة كبيرة للعرب السنة، وهي تتميز بلهجتها الخاصة التي تقترب من اللهجة السورية الشمالية، حتى أن الموصل وحلب شقيقتان من منظور الجغرافية..وللموصل تراثها الغنائي الخاص المتميز..ومن الناحية الاجتماعية ففي الموصل
أكبر برجوازية تجارية لها عراقة كما فيها أرباب الصناعات الخاصة بها مثل صناعة السمسم والصابون والأقمشة المشهورة تاريخيا بالموصللي مع صناعات غذائية، كالبرغل والزيوت، كما أن للمطبخ الموصلي حضور وتميز..المدينة سُنِّية محافظة مع اعتداد أهلها بالنفس واستعلاء على غيرهم من المسيحيين والأكراد والعرب الجنوبيين..وترتبط برجوازية الموصل ارتباطا مصلحيا وعشائريا( شمّر، طي، دليم، جبور ..) وثيقاً بملاك الأراضي الزراعية وأصحاب المراعي..الأمر الذي يفسر اصطفاف هؤلاء ضد الإجراءات الثورية عقب التغيير الثوري في الرابع عشر من تموز/يوليو 1958 ..وتعتبر الموصل من أكبر المدن التي انخرط ابناؤها بالسلك العسكري على مرّ الحقب السياسية حيث يشكلون نسبة عالية من الضباط وكبار الضباط ذوي النزعة القومية والدينية! ومن جهة أخرى كان للحزب الشيوعي نفوذ كبير لدى الشرائح المثقفة من البرجوازية الصغيرة والكادحة بين العرب والكرد والمسيحيين.. ما سيكون له اثر كبير في الصراع السياسي اللاحق في أحداث الموصل وما بعدها!!
كان الحزب الشيوعي على دراية بحجم التحالف القومي البرجوازي العشائري للإجهاز على الحكم الجديد، وحذر من عواقب المؤامرة ولكنه كان في تعليماته ميّالاً إلى التهدئة وعدم الإنجرار كما أكّد على ذلك في أكثر من مرة الدكتور خليل عبد العزيز: “في الموصل واصلت القوى الوطنية والديمقراطية استعداداتها لأستقبال الوفود القادمة من أنحاء البلاد للمشاركة في مهرجان السلام المقرر في 8 آذار 1959م، وكان الشيوعيون يؤكدون ويطلبون من الجماهير الشعبية عدم الإنجرار وراء الاستفزازات والاعتداءات والحفاظ قدر الإمكان على الهدوء والتزام النظام “.
ونرى أن القوى المتآمرة بدأت بتصعيدها للتوتر منذ يوم 6 آذار فما معنى أن تكون حَملَاً أمام ذئب مكشر عن نواجذه؟ كان على الحزب أن يُنزل قواه المسلحة (المقاومة الشعبية) وينظم الجماهير المؤيدة له منذ البدء ليجهض المؤامرة لكي لا تتفاقم الأحداث مثل الذي حصل.. وسيتكرر الأمر في كركوك بشكل أسوأ ..فقد كان الحزب متراخياً في الموصل ثم العكس في كركوك حيث لم يكن مسيطرا على الحدث وفلتت الأمور من نصابها، والخطأ جسيم في الحالتين ودفع الحزب ثمنا كبيراً..
ومن الشهادة الهامة التي ساقها الدكتور خليل عبد العزيز أن الفضل في إجهاض المؤامرة يعود الى مبادرة العسكريين الشرفاء من ضباط وجنود واندفاع الجماهير العربية والكردية والمسيحية من ورائهم .. وإلا لكانت النتيجة كارثية على المعتقلين الشيوعيين! فالقوى الفاشية لا تتورع من حملات الإبادة فقد كان في نيتهم تفجير القطار الذي يحمل الجماهير المشاركة في المهرجان الصاعد من بغداد ولولا اكتشاف المتفجرات قبيل وصل القطار اليها لحدثت كارثة كبرى! وستتكرر تجربة قطار الموت بعد أربع سنوات من قبل القوى نفسها التي جاءت بانقلاب 8 شباط الدموي عام 1963 فهي ليست التجربة الوحيدة في سجلهم الدموي!
عن حادثة مقتل حفصة علي عبد الله العمري نجد اختلافا جذريا بين ما رواه الدكتور عبد العزيز خليل: وملخصه أن المتآمرون بعد انهزامهم فرّوا لاجئين الى بيت العمري وقد تبعتهم القوى الأمنية وحصل تراشق بين الطرفين قتل فيه المعتصمون بالدار وبضمنهم حفصة…