علينا ألا نتهرب من حقيقة الفرق الشاسع بين ما تقدمه دور النشر في العالم من دعم للكتاب الذي تقوم بنشره، وبين معظم دور النشر العربية، حيث لا يتجاوز دورها دور الوسيط بين الكاتب والمطبعة.
تناولت الصحافة الأدبية في العالم مؤخراً، ما شهدته العاصمة اليابانية، ليلة صدور رواية “مقتل قائد الفروسية” للروائي الياباني هاروكي موراكامي، إذ أقبل الألوف من اليابانيين على محال توزيع الكتاب، ليلاً، ولم ينتظروا إطلالة النهار، لاقتناء نسخ من هذه الرواية التي بيع منها حسب تقرير صحافي كتبته مايا الحاج، ونشرته صحيفة الحياة، أكثر من مئتي ألف نسخة خلال يومين، ومن المعروف أن روايات موراكامي هي الأكثر شعبية في اليابان، ومنه انتقلت إلى عدد من بلدان العالم، حيث ترجمت إلى أكثر من خمسين لغة، من بينها العربية.
لقد صدرت الطبعة الأولى من هذه الرواية بسبعمئة ألف نسخة، وستليها الطبعة الثانية بستمئة ألف نسخة، وربما تلتهما طبعات أُخَرْ.
إن هذه المعلومات تعيدنا أولاً، إلى الفكرة الشائعة التي مفادها أن زمن الكتاب المطبوع قد انتهى، أو في طريقه إلى النهاية، وأن البديل هو جملة المنابر الإلكترونية، فهذا الإقبال على رواية “مقتل قائد الفروسية” يقودنا إلى الشك بتعميم الفكرة المذكورة، ويؤكد عدم دقتها وموضوعيتها، إذ أن زمن الكتاب المطبوع ما زال قائماً، وما زالت كتب مطبوعة كثيرة، تحتل مكاناً بارزاً في محيط التلقي وسعة الانتشار.
كما تقودنا -ثانياً- إلى عدد من الملاحظات الأساسية، حول القراءة، وبخاصة في ما يتعلق بنشر وتوزيع الكتاب العربي، إذ أن معلومات كالتي ذكرناها بشأن هذه الرواية، طالما قادتنا إلى مقارنة مع الكتاب العربي، على مستوى توزيعه وانتشاره.
وقبل أن نتوقف عند الملاحظات التي تتعلق بتوزيع الكتاب العربي، ينبغي أن نشير إلى أن أرقام توزيعه -وهي متواضعة، حتى حين يتعلق الأمر بكتاب واسع الانتشار نسبياً- لا يجوز أن نقارنها بحالات استثنائية تتعلق بتوزيع الكتاب الأجنبي، كما هو توزيع روايات موراكامي، مثلاً، وتواضع أرقام توزيع الكتاب العربي ليس جديداً، ولا ينبغي أن نحيله إلى فعل المنابر الإلكترونية.
وحين نتوقف عند النصف الثاني من القرن العشرين نجد أن عدد النسخ الموزعة من كتب مبدعين ومفكرين مثل نجيب محفوظ ونزار قباني ود. علي الوردي -وهم كما يقال كانوا الأكثر توزيعاً- لا يتجاوز خمسة آلاف نسخة، بل إن د. الوردي كان يطبع مؤلفاته بمبادرات منه ولا يسلمها للناشرين، يبدأ بطباعة خمسمئة نسخة، فإذا نفدت طبع نسخاً أخرى.
ولا تجوز مثل هذه المقارنة مع أي كتاب، إذ أن بعض الكتب لا تتوفر على الحد الأدنى من مقومات القراءة واستقطاب المتلقي، وإنما مع كتب تحرك رغبة المتلقي في اقتنائها وقراءتها، على صعيدي الفكر والجمال، وتقترن بأسماء كتّابٍ لهم حضورهم، لكن قد يحقق اسم جديد في فضاء القراءة ما لا يحققه اسمٌ معروف.
وعلينا ألا نتهرب من حقيقة الفرق الشاسع بين ما تقدمه دور النشر في العالم من دعم للكتاب الذي تقوم بنشره، وبين معظم دور النشر العربية، حيث لا يتجاوز دورها دور الوسيط بين الكاتب والمطبعة، بينما تقوم دور النشر في العالم بكل ما يتعلق بالإعلام والإشهار، وقبل ذلك التحرير والتصحيح وغيرهما من مقومات النشر.
ولا ينبغي تجاوز عوامل أخرى، مثل نسبة الأمية وطبيعة مناهج التعليم التي تحض على القراءة ودورها في التعلم والحياة في آن واحد.
ويلعب تراجع الوضع الاقتصادي دوراً سلبياً في الإقبال على القراءة والقدرة على اقتناء الكتب، وقد التقيت في الصيف الماضي بمجموعة من الفتيات العراقيات ممن تقيم أسرهن في الأردن، وهن يقتنين نسخة واحدة من كتاب، ويتقاسمن ثمنه، ثم يقرأن الكتاب واحدة بعد أخرى، وقد تتصل إحداهن بالكاتب لتطلب نسخة من كتابه على سبيل الإهداء. ومع الاعتراف بأهمية هذه المبادرة يكون الكاتب في جميع الحالات هو الخاسر.
ورحم الله الجواهري.. القائل:
وعلَلتُ أطفالي بشرِّ تعلَّةٍ
خلود أبيهم في بطون المجامعِ
هذا إذا تحقق للكاتب مثل هذا الحال؛ حال الخلود في بطون المجامع.
نقلا عن العرب