23 ديسمبر، 2024 7:31 ص

ملاحظات حول الاصلاحات

ملاحظات حول الاصلاحات

اطلق السيد رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الحزمة الثانية من الاصلاحات الادارية والمعيشية وذلك في ظل توقعات ان ترقى هذه الخطوات نحو اصلاح اقتصادي يؤسس لثورة تنموية شاملة في العراق .
والايجابي في خطابات وبيانات السيد عبد المهدي هو اشارته الى ان قسما من هذه الاصلاحات كانت معدة وقيد الدراسة وان التظاهرات الاخيرة قد عجلت في الاعلان عنها .
ويفهم من هذا التاكيد ان رئيس الوزراء كان قد وضع في خططه الاستراتيجية مشروع النهضة والاصلاح الشامل , مع توقعات بانه يتبنى استراتيجيات كبيرة على غرار ما قام به زعماء وقادة كبار في دول اخرى .
ولدي اعتقاد راسخ بان عبد المهدي يدرك حقيقة ان مسارات الاوضاع في العراق تتجه نحو ازمات كبيرة ومنها تفاقم مشكلة (الدولة الريعية )بعد قراراته بمنح رواتب للمتضررين من النظام السابق بمبالغ تشكل بمجموعها عبئا ثقيلا على ميزانية الدولة .
في البداية كان الانطباع حيال تلك القرارات بمنح المرتبات ,هو ان السيد عبد المهدي لم يعد يؤمن بالتنمية وانه استسلم الى واقع ( الدولة الريعية ) وتوزيع عائدات الدولة الى جانب المتراكم من النخر الذي احدثه ويحدثه الفساد وتبديد الثروة خلال الحكومات السابقة .
غير ان الحزمتين الاخيرتين اعادت الامل بان قرارات وهب المرتبات ,ينطلق من حسابات دقيقة وان لا مخاوف من ان تتحجول ميزانية البلد عام الفين وعشرين الى ميزانية تشغيلية مع تصفير الجزء المتعلق بالميزانية الاستثمارية وتمويل مشروعات التنمية .
** منظومة الادارة والرقابة والاستدامة

وكمدخل لقراءة ما يجول في ذهنية وعقلية دولت الرئيس ,لابد من الاشارة الى مايلي :
ان التعجيل باطلاق حزمة القرارات المتعلقة بمنح رواتب للعاطلين وتقديم تمويل للمشروعات الصغيرة بما فيها توزيع اراضي لخريجي الاختصصات الزراعية .. ما كان لها ان تعلن هكذا من دون وجود رؤية متقدمة , افترض انها اسست او ستؤسس ل( منظومة ادارة ومراقبة والاستدامة ) وصولا الى نتائج عملية ومنتجة وذات مردودات واقعية على الاقتصاد والسوق المحلي .
ولكن .. ان توزيع الاراضي الزراعية لغرض التشغيل والانتاج , خيار محفوف بالمطبات وان عوامل الفشل كبيرة وواضحة في نهايات هكذا مسار للاسباب التالية :
– ان دفعات خريجي الكليات الزراعية لم يتلقوا التدريب والتعليم الكافي لادارة مشروعت استثمارية .
– ان حالة الهوان والاحباط وضبابية المستقبل والنشاة الاجتماعية تؤثر بشكل كبير على ارادة وقدرة وخيارات المهندس الزراعي الذي تمنح له الارض .
– في المحصلة ..ان المزارع الاكاديمي العراقي بحاجة الى الارشاد والتوجيه والالزام بالشروط والمحددات وذلك عبر ( منظومة الادارة والرقابة والاستدامة ) .
وعليه ..هنا استطرد في الحديث عن تجارب سابقة في مجال المشروعات الصغيرة وبايجاز:
في التجارب الاشتراكية لاحظنا النجاح والفشل في تاسيس المزارع التعاونية والجماعية ,.. في العراق فشلت هذه التجربة خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي , حينما تمت ادارتها من قبل اشخاص غيبر مؤهلين وغير كفوئين ولذلك لجأ النظام الاشتراكي انذاك الى الاستعانة بفلاحين من دول عربية وحتى بشركات يوغسلافية وهي ايضا فشلت في النهاية على غرار مشروعات الدجيل والخالصة والاسحاقي .. .
بالمقابل نجحت مشروعات المزاع التعاونية في دول عدة لاسيما في الاتحاد السوفيتي وفي بعض دول اوروبا الشرقية . نجاح لم يؤد الى احداث ثورات كبيرة مقارنة بالمشروعات الزراعية التي تديرها شركات في العالم الرأسمالي في كندا والولايات المتحدة على سبيل المثال والتي تسيطر على نسبة 10% من اجمالي الانتاج الزراعي لمحاصيل الغذاء والصناعية !!.
** التجربة الثورية الصينية
غير ان التجربة الصينية لاتزال تتميز بالفرادة بعد ان نجحت قيادة البلاد في التاسيس لمنظومة ( الادارة والرقابة والمتابعة ) .
ان التجربة الصينية مثال يحتذى في الخطوات الثورية في قيادة عمليات التنمية , اذ ان الفلاح في الريف الصيني لا يعمل لوحده ولا يحمل الهموم بمفرده . فالى جانبه مؤسسة زراعية تدير بكفاءة العملية الانتاجية من اصلاح الارض ثم البذر والغرس والزرع والرعاية والانبات والتطوير الجيني فالحرث والقطف ثم التسويق والبيع ..
اما القيادة الحزبية المحلية فهي تراقب كل ذلك لضمان انجاز تلك المراحل ووفق قوانين وتعليمات دقيقة وواضحة وصارمة .
والسؤوال : هل لدينا كل هذا ؟!! .. هل لدينا النزاهة في كل مراحل عمل هذه المنظومة ..؟ هل لدينا الادارة الزراعية الذكية والمتطورة ؟ هل لدينا ابحاث التطوير الجيني ؟ هل لدينا القيادات المحلية الثورية التي تعتبر الحصاد والتسويق انجازا وطنيا ؟
اعتقد ان كل هذه المخاوف حاضرة في ذهنية المهندس الزراعي العراقي حينما يتسلم الارض من الدولة وفق قرارات الحزمة الثانية .
*** المشروعات الصغيرة وتجارب الاخرين .
من بين القرارات التي اتخذتها الحكومة العراقية هي تقديم منح لتمويل مشروعان المهن والحرف للافراد .
يقول خبراء الاقتصاد : ان تمويل المشروعات الصغيرة يشبه الى حد كبير السير على حبل رفيع فوق نهر مليئ بالتماسيح .
وعبر ذلك الحبل المحفوف بالمخاطر عبرت الكثير من الدول من بينها : تركيا والصين وسنغافورة واندونيسيا وحققت نجاحات هائلة في خيار ( تمويل المشروعات الصغيرة ) .
# التجربة التركية مثالا
في عام 2001 كانت تركيا ترزح تحت نظام فاسد واحزاب تتقاسم السلطة وتعتاش على هبات الشركات الراسمالية الكبيرة المتعددة الجنسيات , في وقت بلغت مديونية الدولة بحدود 265 مليار دولار ( الدين الخارجي والداخلي ) .
لما وصل حزب العدالة والتنمية الى السلطة كان اجمالي الاحتياطي الواقعي من العملات في البنك المركزي هو 66 مليار دولار .
لجأ قادة حزب العدالة والتنمية الى القيام بعملية في غاية السرية وهي سحب الجزء الاكبر من احتياطي العملات وقرروا استثماره في احداث نهضة اقتصادية ..
ان سحب المخزون النقدي الاحتياطي عملية في غاية الخطورة فلو تسرب هذا الخبر لانهار كل شيئ في تركية, لكن رجال العدالة والتنمية كانوا واثقين من انفسهم .
لماذا قادة تركيا كانوا واثقين ؟
وذلك لانهم اعتمدوا على علماء وخبراء في الاقتصاد يتقدمهم الدكتور عبدالله غول الخبير المالي والدكتور علي بابا جان الخبير الاقتصادي .
كيف وظفت تركيا الامول؟؟
ببساطة شديدة وكمثال بسيط جدا ( مجموعة انتاج الملابس ):
1-استنفار كافة كوادر الحزب المخلصين لجرد قوائم باسماء المستثمرين الذين توقفت او تعرقلت معاملهم ومصانعهم .
2-زرع وتوزيع كوادر الحزب المخلصين على الادارات الفعالة في الحكومة ..
3-تتم مفاتحة المستثمر وليكن مثلا صاحب معمل لانتاج القمصان .. يمنح مبلغ لاعادة التشغيل .
4-مفاتحة تاجرمع تخصيص مبلغ لاستيراد الاقمشة
5-يفاتح صاحب مصنع انتاج الازرار ويخصص له مبلغ للشروع في العمل لتزويد معمل الخياطة بانتاجه .
6-يفاتح تاجر يتولى التسويق الى دول الجوار والدول العربية .
7-تؤمن ضمانات مصرفية وقانونية لجميع هؤلاء .
8-يتم التوصيل والتنسيق بين هؤلاء عبر مديريات تابعة لوزارتي التجارة والصناعة .
علما ان المبالغ التي يتم تسليفها لكل هؤلاء معفاة من الضرائب ولا تستحصل الا بعد عامين من بدء العمل والانتاج والتسويق .
ووفق هذا المثال : كم سيتم تشغيل عاطلين في مصنع الخياطة , وكم سيعملون في مصنع الازرار .. وكم سيعملون في التغليف وفي النقل وفي التسويق ؟؟؟ اكيد سيتم توظيف المئات في مشروع واحد وهو انتاج القمصان وتصديرها .
وهكذا الحال في مجالات الزراعة وفي الصناعات المتوسطة والثقيلة بما فيها صناعة السيارات ,وقطاع التشييد والبناء والسياحة …
**** المهارات ..اين ؟؟
سؤوال .. لو قامت الحكومة بتقديم منحه مالية للعاطل العراقي ليبدا بمشروع صغير يامل منه رئيس الوزراء انه سيؤدي الى تشغل اخرين وان المشغل الصغير سيؤدي الى انتاج سلعة او تقديم خدمة معينة .. فهل هذا العاطل الذي منح المبلغ لديه المهارة في مجال المشروع لكي ينجح في عمله وبالتالي تحقيق الانتاج ؟ !!!
ماهي المهارات المهنية التي يجيدها الانسان العراقي .. ومن اين يتعلمها بعد نحو 41 عاما من الحروب والازمات واعمال العنف والعسكرة ؟؟؟؟؟؟؟
يقول صديق : شقيقتي معلمة في مدرسة ابتدائية طلبت منها اجراء استبيان للتلاميذ في عام 2006 حول ما يطمحون ان يكونوا عليه في المستقل فجائت النتائج كالتالي :
+ عدد التلاميذ 35
+ النتائج : 21 تلميذا قالوا انها يطمحون ان ينضموا الى ( جيش المهدي )
+ 10 تلاميذ قالوا انهم يطمحون للانضمام الى قوات التدخل السريع
+ تلميذ واحد قال انه يريد ان يصبح معلما
+ 3 تلاميذ لايعرفون ..
في ذات المدرسة وفي عام 2016 جرى استبيان ثان فكانت النتائج مايلي :
+ عدد التلاميذ 44
+ 15 تلميذا قالوا انهم يطمحون للانضمام الى ( العصائب ) !!
+ 17 تليمذا قالوا انهم سينضمون الى الحشد
+ 3 تلاميذ قالوا انهم يتمنون ان يكونوا مهندسين
+ 7 تلاميذ لايعرفون
+ تلميذ واحد يطمح ن يكون طبيبا
+ تلميذ واحد يطمح ان يكون معلما .
+ هذه عينة ربما عشوائية وغير علمية ولكن في المجمل تظهر مديات وآفاق الطموحات لدى الافراد في ظل الامية والجهل المجتمعي والانغلاق وقصر الافاق والمديات والتمنيات وذلك بفعل المحيط والتاثيرات البيئية .
***وعليه من اين يكتسب العراقي المهارات ؟؟؟؟؟؟
++ التجربة الايرانية
في عهد الراحل هاشمي رفسنجاني خرجت البلاد من حرب طاحنة مع العراق وعقب الحرب كانت اجيال من الشباب الايراني تعيش المرحلة الثورية وتاثرت بتداعيات الحرب فضلا عن توقف عجلة التنمية والتطوير خلال اكثر من ثمانية اعوام .. فما الحل ؟
انشا الشيخ رفسنجاني معاهد التدريب المهني التي ينتسب اليها العاطلون لتعلم المهارات والمهن والحرف .
في غضون ذلك , اسست الحكومة مؤسسات ودوائر تتولى تشغيل الخريجين من تلك المعاهد فيما جرى تكليف والزام البنوك بتمويل القروض الميسرة لهم وذلك في ظل اشراف كامل من وزارة العمل التي نظمت سوق العمل عبر تشكيل الاتحادات النقابية المهنية , وهذه الاخيرة منحت صلاحيات واسعة في ادارة القطاعات المهنية .
والاهم من كل ذلك هو ان استراتيجية اعادة بناء النظام الاداري والاقتصادي في ايران تمت على اساس التخلي عن نظام ( الدولة الريعية ) ..مثال :
الاتحادات والنقابات في ايران وعبر التنسيق مع شركات التأمين هي التي تتكفل بالرواتب التقاعدية للعمال والحرفيين وهي ايضا تمول نفسها ذاتيا عبر الرسوم والاستقطاعات المالية الشهرية من المرتبات , وكل هذا يجري بعيدا عن مسؤولية الحكومة .
بمعنى : ان مليونين وخمسمئة الف متقاعد ايراني مدني , مرتباتهم التقاعدية خارج حسابات ميزانية الدولة السنوية !!!!
+ اذن هل النموذج الايراني يمكن ان يؤمن خيارات لتلاميذ المدرسة الابتدائية في العراق لتتفتح آفاقهم لتكون لديهم خيارات اخرى في المستقبل غير ( العسكرة ) ؟؟؟؟
* الخلاصة مما سبق
اعتقد ان السيد عادل عبد المهدي يمتلك من حيث القدرة الاستطاعة لاطلاق ثورة تنموية , تخرج البلاد من محنتها التي تهدد مستقبل النظام والدولة .
ولكن .. دولت الرئيس بحاجة الى رجال لديهم : الكفاءة والمهنية والثورية والوطنية لكي يكونوا امناء على تطبيق ( الادارة والرقابة والاستدامة ) .
رجال يقتحمون كل الخطوط الحمر ولديهم كل الصلاحيات التي تقفز على الحواجز المصطنعة ( الدستور , التوازنات , التوافق ) .. رجال لاتاخذهم في الله والوطن لومة ( لجان الاحزاب الاقتصادية المافيوية ,البيوتات السياسية ,, الرموز , المليشيات , والسفارات …. ) ..رجال يعملون من اجل ان نخلدهم ونذكرهم بعد خمسين عاما امثال : مهاتير محمد وليكوان بو وجيانغ زيمين وفلاديمر بوتين ورفسنجاني وعبد الله غول واخرين .. ..