تحكمنا المكاتيب بسحر ذكرياتها ، وهج الحروف ، وارتعاش الحبر ، وبراءة العواطف وفطرتها ، وغير ذلك فالمكاتيب قمصانها خفق القلوب يوم ترسل ويوم تصل ، ولحظة ملامسة الطابع لخدِ المظروف تخلع الكلمات اشواقها وترميها على الأجفان التي تقرأ بلهفة وشوق وحنين موسيقى حضن أو وسادة أو دمعة.
تسجل المكاتيب تواريخ أزمنة يخشى من هاجسها الملوك وامراء الأفواج ، ولكن سعاة البريد يوصلونها في هاجس فيهم يشعرنهم أنها مهمتهم النبيلة وبالرغم أن سعاة البريد لن يصلوا القرى إلا أن ( جبر ) ساعي البريد في ملاحظية بريد الجبايش حريص على البحث عن الزوارق التي تتجه الى قرية أم شعثه ليرسلَ مكاتيب الجنود من ابناءها وهو يقول : أوصلوا أغنية ياس خضر بطريقكم . وهو يقصد أغنيته الشهيرة ( أعزاز ) التي أعتاد الجنود كتابتها في نهاية الرسائل :
أذكروني كلما غنى ياس خضر اغنية أعزاز والله أعزاز .
وبالرغم أن سكان ( أم شعثه ) لا يملكون مذياعا ولم يسمعوا الأغنية سوى من فم المكاتيب إلا أن اولاد ( ريكان ودشر وحلبوص ) الذين يخدمون في مناطق ( راوندوز ورانية وسبيلك) الشمالية يكتبونها مقلدين ذلك الجنود من ابناء المدن ولأن كتابة هذه العبارة صارت تقليدا شائعا في نهاية الرسائل.
وعندما تصل أتحمل أنا مهمة قراءتها ، لأجد اللهفة والدمعة هي من تعزف موسيقى أصغاء المعدان لرسائل أبناءهم الجنود ، وأراهم يتفقون على جمع مبلغ من المال وتكليفي شراء جهاز راديو ، فقط لأجل أن يسمعوا أغنية ياس خضر التي يتمنى عليهم ابناءهم ذكرهم من خلال صداها وقدرتها على بث لوعة الشوق والتلاقي بين الأحباب.
تسجل مكاتيب ( ياس خضر ) تأريخا من فصول الحلم الروحي والأمل والخوف في حياة جيل ومرحلةٍ وقدر ، وبالرغم من أن أغنيته هذه من رومانسيات النغم السبعيني في الأغنية العراقية إلا أنها التصقت بنهايات ورق المكاتب أكثر من أيِ ذكرى اخرى كانت تكتب في الرسائل منذ رسائل آشور بأنيبال الى ولاته حول اقتناء الكتب الجديدة وجلبها الى مكتبته الشهيرة وحتى رسائل ويليكس التي نقلت الايملات والرسائل والمكالمات والقرارات السرية لدوائر البنتاغون حول ما يجري في العراق وافغانستان وروسيا ومناطق الصراع الأخرى في العالم.
لقد كانت المكاتيب زوارق نجاة للمرسلِ والمُستلم ، ووحده شغاتي صنعَ لها تعريفا غريبا وسريالياً وجماليا عندما قال : رسائل الجنود مثل سفينة نوح ، لكن نوح يصنع سفينته من القصب والخشب والجنود يصنعونها من دموعهم والورق.
عند أعتاب حنجرة ياس خضر ونعوش شهداء قرية ( أم شعثه ) الذين لم يتسنى لهم اكمال مشاعر وطقوس وهواية كتابة الرسائل لذويهم ، تقف الذكريات ، ويسجل الموقفُ العاطفي لحظته الرهيبة حين وقف ريكان أمام جثمان ولده قبل أن يرسلوه بزورق الى سرمدية دلمون الخالدة عندما تساءل مع نحيبه الخفي : تُرى من يكتب لنا المكاتيب غيرك يا ولدي ؟