23 ديسمبر، 2024 6:46 ص

مقهى (الدَّكة) في البصرة : كزار حنتوش..والقصيدة الضائعة – 7

مقهى (الدَّكة) في البصرة : كزار حنتوش..والقصيدة الضائعة – 7

ذات مساء شتوي سبعيني ، دخل المقهى القاص(الياس الماس محمد) ونحن نخوض في شؤون أدبية – فنية وثقافية وسياسية عامة، وعلى وفق ما أتذكره الآن ، كنا نجلس متقاربينَ: عبد الكريم كاصد ومهدي محمد علي، والذي ثوى في إحدى مقابر حلب، ومصطفى عبد الله،نزيل مقبرة القنيطرة بالمغرب ،وجميل الشبيبي ومحمد سعدون السباهي،  وكاظم الأحمدي، النائم في مقبرة وادي السلام في النجف ، وعبد الحسين العامر،وعبد الخالق محمود، الذي يرقد في مقبرة الحسن البصري بالزبير ، والمغدور في بيروت ، ذياب كزار- أبو سرحان- ، وسلمان كاصد، كان حينها طالباً في كلية الآداب/جامعة البصرة ، وعبد المحسن براك،ضيف مقبرة الغرباء بعمان، والمغترب حالياً احمد أمين- أبو عاطف- ،ومجيد جاسم العلي وودود حميد ،والتشكيلي الراحل في الغربة أياد صادق وأنا، وبعض الأصدقاء ، ممن لا تسعفني الذاكرة على تذكرهم جميعاً، فمعذرة لهم. وقف (الياس) في منتصف المقهى ،وخلفه شاب، أسمر البشرة، نظرتُ إليه ، هالني أول الأمر شعر رأسه الذي اعتقدت انه لم يضع المشط عليه ربما لأسبوع وأكثر، ثم عيناه الصغيرتان اللتان تشبهان عيني نسر،وحذاؤه الذي خمنت تماماً انه لم يصبغه مذ اشتراه، إضافةً إلى انه لم يكن قد وضع في قدميه جوربين، مع أن البرد قارس بعض الشيء. قال (الياس) وهو يشير إليه: كزار حنتوش. ولم يضف شيئاً. تعالت أصوات الترحيب ،وتم التعارف بسرعة.اذكر انه منحني قبلة حارة بادلته إياها بسب من انه وأنا ، وبحكم المصادفة، كنا نلتقي غالباً على الصفحات الثقافية في طريق الشعب، والفكر الجديد، والتآخي والجمهورية والثقافة الجديدة ، دون أن نتعرف على بعضنا. بعد أكثر من ساعة غادر الجميع ، وبقينا وحدنا. اقترحت عليه الجولة المعتادة، فرحب مسروراً.ثم القينا بأنفسنا في أقرب مكان،للمتعة البريئة، المحرمة الآن تماماً في البصرة،تلك المتعة التي تُصعّد اللغة الإنسانية الحميمة المشتركة.علمت منه انه نُسب للعمل،بوظيفة مَسّاح ، في مديرية طرق البصرة،وانه يذهب، صباحاً ،بسيارة الدائرة ، للعمل في مشروع تبليط طريق الفاو- بصرة، و يسكن في دار استراحة الدائرة، مع قلة من المهندسين ومعاونيهم.ثم طلبت منه شيئاً من الشعر فأعطاني الكثير منه. مذ تلك الليلة لم نفترق ، إلا عند إجازاته الشهرية التي يقضي بعضاً منها بين الديوانية وبغداد.استطيع أن أؤكد أن كزار قد حمل معه إلى البصرة ،عادة التسكع في طرقاتها، بعد خروجنا منتشين من نوادي الفنون أو التعارف أو نقابة المعلمين،أو جمعية الاقتصاديين أو بعض الأماكن الجميلة في شارع الوطني عند انتصاف الليل ، والى الساعات الأولى من الفجر، وانه فرضها عليَّ،أولاً، ثم حببها إليَّ، مقترحاً مبيتي معه في دار الاستراحة، كون سكني بعيداً عن مركز المدينة، وليس ثمة وسائط نقل تنقلني إليه في تلك الساعات. عادة بعد الثانية فجراً، لا احد في ساحة(أم البروم) غير بعض المتشردين ، الذين لا مأوى لهم ، يفترشون أرصفة الساحة نياماً، و كزار وأنا والكلاب ، التي اعتادتنا ،وهي تبحث عن طعامها في أكوام النفايات التي تعج بها الساحة ، وكان احد الكلاب يتبعنا أينما نذهب فيقول كزار بمرحٍ: انه من سلالة الأجداد النازحة من الدغارة للبصرة. فأعلق بسخرية: انه يشم رائحة أسلافك فيك، لذا تراه يتبعك، و يحبك ويودكَ بشكل (كلبي). تعرضنا لأسئلة عدة، من الحراس الليليين، وكذلك من دوريات شرطة النجدة، ثم ألفونا ، بعد أن تأكدوا من هوياتنا، وأدركوا متعتنا الليلة البريئة تلك. كنا نصل إلى دار الاستراحة مشياً، وفي بعض المرات يتكرم علينا أفراد شرطة النجدة، ، الذين اعتادوا علينا، فينقلوننا بسيارتهم قريباً من دار الاستراحة ، وعند نزولنا من السيارة يعلق كزار ساخراً:” هؤلاء اشرف شرطة في الكون. ويكمل: تأكدت فعلاً إن الشرطة في خدمة الشعب”, فأضيف:” لكن.. ليلاً فقط”. عند وصولنا الساعة الثانية فجراً ، أو أكثر من هذا الوقت أحياناً، يذهب كزار للنوم على سطح البناية الفخمة و التي تقع في منطقة “الطويسة”، رافضاً المنام معي في الغرفة المخصصة له ، والتي تحتوي على مكيّف “الاركندشن” النادر في ذلك الزمان،  تاركاً إياي ، في غرفته متنعماً بنسائم هوائه الباردة جداً، بينما هو يغرق في الريح الشرقية ورطوبتها المعروفة في البصرة. كان كزار ينهض من النوم في الساعة السابعة صباحاً بسرعة وحيوية ، لتقله سيارة الدائرة ،إلى عمله الذي يبعد عن مركز المدينة مسافة (52)كم . بينما أبقى نائماً إلى وقت متأخر،أو اقرأ في غرفته، لان عملي يبدأ في الساعة الواحدة ظهراً. حاول بعض أدباء السلطة في المدينة استمالة كزار نحوهم ، وعندما تلمسوا صدوده عن هذا الأمر ، وردوده المفحمة والواضحة عليهم، امتنعوا عن إقامة جلسة شعرية له في دور الثقافة الجماهيرية ، ومع أننا  وبحكم ترددنا عليها ومساهماتنا في الجلسات الثقافية طرحنا عليهم مسألة تخصيص جلسة ثقافية خاصة به ، لا بل طالبناهم بذلك فلم يستجيبوا نهائياً، والأكثر من هذا رفضوا حتى مشاركته في الجلسات الشعرية المفتوحة و التي تقيمها دور الثقافة الجماهيرية ، في المناسبات العامة، بحجج واهية وتافهة، منها انه غير معروف أولاً!!. وهو ليس من أدباء المدينة ثانياً!!. بينما كانوا يخصون أي أديب ، موالياً لهم، و قادم إلى البصرة بجلسة ثقافية ترافقها حملة إعلانات في  المدينة مكثفة حولها . وعندما أخبرته بذلك لم يعبأ كزار بهذا الشأن أو يعره أي اهتمام نهائياً. بعد نهاية عام 1978 شَّرقتْ الدنيا وغَرَّبتْ بنا ، وبغِيرنا من الأصدقاء ، والمعارف:
 ” فلا يمكن البتة المراهنة على النيات
أو تعليق الكثير على الآمال المجردة
…..
لقد قُضي الأمر
 ولا سبيل للاستدارة أو الرجوع
لقد دفع الحساب سلفاً
…..
فالذي كان … كان
 والذي قد جرى … 
 قد جرى …”- حسين عبد الطيف  
2
في المربد الثالث المنعقد بتاريخ 15-17 نيسان 2006 – دورة الشاعر عبد الكريم كاصد- كُلفت برئاسة تحرير جريدة المهرجان ، ولأول مرة عبر تاريخ مهرجانات المربد، تتألف الجريدة من ثماني صفحات وبالحجم الكبير. في ليلة المهرجان الثانية زارني كزار بعد الساعة الواحدة والنصف ليلاً ، في مقر الجريدة ، بملحق فندق المربد، فوجدني اعمل والتعب والإرهاق باديان عليَّ. بعد المزاح والمناكدة الأخوية والاستذكار. رغب في أن انشر له قصيدة في جريدة المهرجان. رحبت جداً بذلك، فتح دفتراً مدرسياً ، كان معهُ ، واستل منه ورقة وضعها بيدي، كانت قصيدة نثر تتألف من خمسة عشر بيتاً أو ربما أكثر. ما استوقفني في القصيدة عنوانها أولاً !؟. وعندما قرأتها. قلت له: من غير الممكن أن انشرها ، وهي بهذا العنوان والمتن !؟. أوضحت له : إن مَنْ تحمل القصيدة اسمه ، جزء من تاريخ العراق السياسي-الاجتماعي، منذ منتصف العشرينيات ، وهو مناضل عنيد ومعروف على المستوى العربي وحتى العالمي ، ونَشرُ القصيدة وما فيها وهي تحمل اسمه، سيضعني أمام بعض أعضاء الهيئة الإدارية للاتحاد وهيئة المهرجان بحرج ، إذ إن شاعر المهرجان ، وأنا ، نُحسب على جهة سياسية معينة ، و مَنْ كُتبتْ القصيدة لأجله، وتحمل اسمه ، هو من قادتها التاريخيين المعروفين، والمؤسسين كذلك. ومع أنني غير منتمٍ ، تنظيمياً، لهذه الجهة السياسية حالياً، ولكنني محسوب عليها ، وأتشرف وأفخر بذلك. إضافة إلى أن القصيدة تُعطي إشارات ودلالات واضحة ولا لبس فيها ، عن إحداث ووقائع غير متفق عليها من قبل تلك الجهة السياسية ذاتها !؟. وما زالت محط اختلافات واجتهادات وتقولات، بعضها جارح وقاس، ووجهات نظر متعارضة متعددة ومتضاربة حتى الآن!؟. وسيحرجني هذا الأمر جداً أمامها،أو قد يفسر بسؤ النوايا المبيتة ، منك ومن قبلي كذلك تجاهها، و هذا الأمر أكثر أهمية بالنسبة ليَّ من سواه. ورجوته بمودة أن يعفيني من نشر هذه القصيدة ، لكني سأحتفظ بها، وربما سأنشرها في وقت مناسب، على  أن اكتب مقدمة بسيطة لها. وافق كزار على ذلك، وأعطاني قصيدة قصيرة ، فطالبته بقصيدة ثانية.  ونشرتهما، في العدد الثاني من جريدة المهرجان، وفي أعلى الصفحة السادسة مع صورته ، أما تلك القصيدة التي لم انشرها ، فكان عنوانها (زكي خيري)، وتركتها على المنضدة ،التي كانت بيني وبين كزار. بعد مغادرته الغرفة، بَقيتْ القصيدة على المنضدة، دون أن انتبه لها حينها، واختلطت مع عشرات المسودات، التي مزقتها ، بعد ذلك ،لانتفاء الحاجة إليها، عند إكمال العدد الأخير- الرابع- وإرساله إلى المطبعة ، وكان مخصصاً في غالبيته لشاعر المهرجان/عبد الكريم كاصد/. كم أحس ،الآن، بالندم والحسرة والخسارة ، على فقدان قصيدة كزار تلك ، في غمرة العمل وازدحامه ومنغصاته التي تمتد إلى الساعات الأولى من الفجر، إذ عليَّ أن أنسب أحد الزملاء من المحررين ليقوم بتغطية آخر فعاليات نشاطات اليوم المربدي الطويل، وهي الجلسات النقدية والبحثية ، التي كانت تعقد عادةً بعد الساعة التاسعة والنصف ليلاً ، على قاعة فندق المربد ، وتمتد إلى الساعات الأولى من الفجر أحياناً. أدناه القصيدتان اللتان نشرتهما لـ(كزار) في جريدة مهرجان المربد الثالث ، ولم ينشرا ضمن أعماله الكاملة:
 
*عراق
 عراق
اقلب
 قارع
 احذف العين
 …. راق
 احذف الراء
  هنا مربط الديناصور
 ……….
……….
الراء سيف عليّ
  لماذا تريد انتزاعه
 من العراق
. أيها العاق
 *عبد الله كوران
  أنت شجرة بلوط في كردستان
  أوراقها قصائدك
 عصافيرها غناؤك
 ثمارها التي نثرتها على الجبل
 حياتك
 كبلوطة أودعك الثرى
 وها أنت ثانية شجرة بلوط وارفة الضوء
 والعصافير والثمار