” الصور والوقائع والحقائق التي انقلها واعتمد عليها ليست محفورة في الصخر، بل هي نابعة من كائنات بشرية. إنها خيارات ، هل كان يمكن اختيار سواها!؟”.كنعان مكية/ جمهورية الخوف
طرأت على المشهديْن الاجتماعي والثقافي في المدينة تحوّلات باتت واضحة وانعكست عل مواقف عدد من الأدباء والكتاب والمثقفين تجاه السلطة التي رهنت العمل في أغلب مؤسسات الدولة العامة ، وخاصة الثقافة والنشر بالولاء لها. ومع سياسة الترهيب والترغيب التي اتبعتها اصطف بعض الأدباء والمثقفين معها خاصّة بعض أولئك الذين نالهم ما نالهم من قهرها خلال إعصار 8 شباط الدموي، مع تغيرات قناعاتهم. وجرت محاولات لتفعيل النشاط الثقافي والفني في بعض المنظمات ومنها جمعية الاقتصاديين ونقابة المعلمين والنوادي الاجتماعية والمهنية وكان الغالب على نشاطاتها توزيع المشاركين فيها بموجب الانتماء الحزبي وفي المقدمة منه البعثي أولاً والشيوعي ثانياً ولم تخرج تلك النشاطات عن ذلك الطابع والتوجه ، دون النظر للكفاءة والقدرة الفنية، وكانت أشبه بعملية (تقسيم للغنائم) في تلك النشاطات خاصة الشعرية منها. أسس فرع الفرقة القومية للتمثيل، ولم يقبل في الفرقة نهائياً إلا مَنْ كان بعثياً أو قدم تعهداً فورياً بذلك، وفي المقابلة الشخصية بالذات. قدمت الفرقة بعض الأعمال المسرحية منها (الرواد) تأليف عبد الله حسن، وكان عنوانها الأصلي (خلف السدة) وتجري أحداثها في منتصف الخمسينيات ، فتم التلاعب بنصها وزمنه إذ أقحم في نهايتها شريط سينمائي حمل خطاب احمد حسن البكر وهو يعلن عن تأميم النفط العراقي و أخرجها محمد وهيب ، تابعتها في مقال مطول نشر في الصفحة الثقافية لجريدة” طريق الشعب”،وكان عنوانه( الرواد مسرحية مشوشة النماذج ..جاهلة بالزمن) و “شناشيل حسيبة خاتون” عرقها وأخرجها عبد الأمير السماوي عن مسرحية نعمان عاشور (الناس إلي تحت)،كذلك كتبت عنها مقالاً في الصفحة الثقافية لجريدة” الفكر الجديد” ، وبعنوان( شناشيل حسيبة خاتون.. المتداعية) وقدمت مسرحيات أخرى غيرهما، لبعض المخرجين الذين تم الاستعانة بهم من بغداد، لتقديم بعض أعمالهم المسرحية . هذه المسرحيات جميعها عرضت على قاعة (بهو الإدارة المحلية) هذا الصرح الثقافي الكبير والضخم و الذي وقفت على منصته أهم الأسماء العراقية والعربية والعالمية المعروفة في مرابد السبعينيات وشهد عروضاً مسرحية راقية لفرق عربية وعراقية وعالمية. سيطرت عليه بعد 9نيسان 2003 قوة دينية- سياسية قادمة من خارج العراق وأقامت لها إذاعة وتلفزيون،محليتين، فيه، ثم في صراع المليشيات على مناطق النفوذ والتحكم في البصرة ومواردها المادية ، قامت ميليشيا أخرى بالهجوم عليه وإحراق جزء منه، وتم منح استغلاله ، في صفقة مشبوهة زنخة ، كما يتردد ، إلى شركة استثماريه إزالته من الوجود تماماً وسوته بالأرض ، وهي تضع الركائز الأساسية حالياً لمبنى كبير ضخم يتألف من طوابق متعددة للتسوق والتبضع التجاري!!. شيئاً فشيئاً بات عدد البعثيين من الأدباء والفنانين في ازدياد ملحوظ ، من خلال السيطرة على المنظمات المهنية والجمعيات الاجتماعية سواء بانتخابات شكلية مزورة أو بقوة السلطة القامعة بنعومة أحياناً أو بشدة واضحة عند الحاجة والضرورة التي تخدم أهدافها، وشمل ذلك الانقسام الأدباء والكتاب والفنانين، خاصة من الذين كانت مواقفهم وتوجهاتهم الفكرية مشوشة وهشة وغامضة لحدٍ ما، ومنهم من كانوا من رواد المقهى الذين انقطع بعضهم عن التردد عليه نهائياً، خشيةً من رقباء السلطة أو حياءً. دأبت السلطة على تحجيم وتهميش كثير من النشاطات الثقافية والفنية وفي مقدمتها نشاطات “نادي الفنون” إذ تم الاتفاق على قيام نادي الفنون بإقامة أسبوع ثقافي وفني بمناسبة حرب تشرين ومشاركة الجيش العراقي فيها، تحت مسمى (أسبوع المعركة القومية..والجبهة الوطنية التقدمية)!. وافقوا على ذلك في البداية مرحبين بهذا النشاط ومؤازرين له ، وقرروا المشاركة في كل فعالياته الأدبية والثقافية والفنية خاصة أن النشاط وُضِعَ تحت مسمى (أسبوع المعركة القومية) . في مناورة لم يحسب لها حساب ولم تكن متوقعة و في ليلة الافتتاح بالذات، وبموجب أوامر رسمية حزبية ، فورية وصارمة ، صدرت إليهم ، انسحبوا جميعاً من المشاركة فيه ضمن أية فعالية مهما كانت وأي شكل اتخذت، وبات النشاط فعلياً مجيراً في واقعه للحزب الشيوعي وأنصاره فقط. أقيم الأسبوع في نادي الفنون ونجحت نشاطاته المتنوعة أدبياً وثقافياً ومسرحياً وفنياً نجاحاً نوعياً وشعبياً، وتم تغطيته إعلامياً،عن طرق إعلام الحزب الشيوعي ، لكن وسائل النشر الرسمية المرئية والإعلامية في البصرة وبغداد تجاهلته تماماً. كما تم الحصول على موافقة رسمية لتأسيس فرع لـ” نقابة الفنانين” في البصرة وأقصي عن الترشح لانتخابات عضوية الهيئة الإدارية إلا مَنْ كان بعثياً أو قدم تعهداً بذلك ، عندها باتت الهيئة الإدارية ورئيسها حكراً على المنتمين لحزب البعث ومناصريه فقط. ورفضوا بإصرار متواصل تأسيس فرع لاتحاد الأدباء والكتاب في البصرة، بحجة أن كثيراً من الأدباء والكتاب يرون أن الوقت غير مناسب لذلك وانحصر المشهد الثقافي والفني بين رحى الحزبين الحليفين شكلياً /الشيوعي والبعثي/ دون إعطاء هامش ما لحرية حتى بسيطة لغيرهما، وكان واقع الحال (معَ أو ضدْ) وعشنا بالضرورة في صراع متواصل ، وواضح المعالم، وباتت الأمور والنشاطات الثقافية والفنية والدعوة للمشاركات فيها بمثابة لعبة شطرنج بين خصمين غير متكافئين، و يحاول حزب البعث، بحكم امتلاكه السلطة ونفوذ وقوة أجهزتها نقلات متواصلة ناجحة إعلامياً، فلم يحدث نهائياً أن محطة التلفزيون وهي الوحيدة المرئية حينها في البصرة وجنوب العراق أن ضيّفت أو تعاملت مع أي أديب أو مثقف أو فنان في برامجها الثقافية والفنية، ناهيك عن السياسية، ما لم يكن بعثياً أو موالياً للتوجهات الحزبية البعثية، يستثنى من ذلك الفنان كوكب حمزة بعد انتشار أغنيته ( ينجمة). فبعد الطلب المتواصل من المشاهدين في برنامج يتم بثه على الهواء مباشرة ،أجريت معه مقابلة تلفزيونية قصيرة جداً ، وبثت في وقت غير مناسب ، و تم منتجتها بشكل مشوه ، في هذا يمكن استثناء دور الثقافة الجماهيرية لأسباب عدة يقف في مقدمتها انحصار روادها على الأدباء وبعض المثقفين فقط ، وانعدام تأثيرها على الواقع الاجتماعي في المدينة ، والنشاط المتواصل للأدباء والكتاب الشيوعيين ومناصريهم والذي لا يمكن لدور الثقافة الجماهيرية تجاهله أو التفريط به وهي في طور التأسيس وبداية نشاطها الثقافي” حديقة اتحاد الأدباء في بغداد، على اتساعها لا تستوعب الجمهور- أكثر من نصفه نساء!- الذي جاء لحضور الأمسية الشعرية ، التي أحياها شعراء البصرة، من شيوعيين وبعثيين،أبلى فيها الشيوعيين بلاءً منقطع النظير،ظلت تردد صداه الصحافة الثقافية أسابيع عدة ، مما اضطر القيمون على الثقافة في بغداد، وهم يرون هشاشة وتواضع شعرائهم إلى الاتصال بمدير دار الثقافة الجماهيرية في البصرة موبخين، فردَّ عليهم ، وهو الشاعر محمد راضي جعفر ، بصراحته المعروفة: هذه بضاعتنا يا رفاق، فأين العجب”!؟.(محمد سعدون السباهي/ كوكب المسرات/ص166). وجهت دعوات متعددة لنا للمشاركة في بعض أنشطتها ومنها جلسة عن ديوان الشاعر طالب غالي “أغنية لطائر النورس”وقد قدمت عنها مداخلة ، وجلسة ثقافية أخرى عن ديوان الشاعر شاكر العاشور” في حضرة المعشوق والعاشق” واشترك معي الشاعر حكيم الجراخ كما خصت الشاعر عبد الكريم كاصد بجلسة طويلة وممتعة خاصة بتجربته الشعرية ومكوناته الثقافية، وكان عدد كثير من أدباء وكتاب البصرة يشتركون ويقدمون جلسات ثقافية على حديقة دور الثقافة الجماهيرية عصر كل يوم ثلاثاء، منهم الراحل يعرب السعيدي وحكيم الجراخ وكاظم نعمة التميمي والراحل كاظم الأحمدي ومهدي محمد علي والمؤرخ الراحل حامد البازي والكاتب عباس الرباط والراحل عبد البطاط وبعض الزملاء الآخرين الذين لا يمكن تذكرهم جميعاً فمعذرةً لهم . كان يطلب منا المشاركة عبر المكتب الصحفي لجريدة” طريق الشعب” بمناسبات خاصة تخص تأسيس حزب البعث أو ذكرى صدور جريدة (الثورة) ، وغيرها فكنا نلبي الدعوات على وفق توجهاتنا وقناعاتنا الفكرية ، وللأمانة لم يحصل أن دور الثقافة الجماهيرية تدخلت في الاطلاع المسبق على مساهماتنا نهائياً. كنا نستجيب دائما للمشاركات الثقافية الخاصة حتى بمناسبات بعثية انطلاقا من (حسن النوايا) ولكن من وجهة نظرنا وتوجهاتنا فالشاعر الراحل مصطفى عبد الله، وفي حفل دور الثقافة الجماهيرية قرأ بعض قصائده ، بمناسبة (7 ) نيسان، وهي قصائد سبق له أن نشرها في طريق الشعب لمناسبة العيد الأربعين لتأسيس” الحزب الشيوعي العراقي”، كما شاركتُ ببحث عن الصفحة الثقافية في صحيفة (الثورة) بمناسبة الذكرى الثامنة لصدور الجريدة ، وكان معي القاص أحمد أمين وأدار الجلسة الشاعر الراحل كاظم نعمة التميمي الذي طلب مداخلتي لغرض نشرها ، لكنهم نشروا مقتطفات من مداخلة الصديق أحمد أمين فقط ولم يذكروا حتى في إشارة عابرة إلى مشاركتي في الجلسة ببحث إلى جانبه ، في رسالة البصرة الثقافية التي نُشرت في مجلة(الطليعة الأدبية)، و لم يحصل أن أسهم أي كاتب أو شاعر بعثي إطلاقاً في أي مناسبة خاصة بالحزب الشيوعي رغم دعواته المتكررة لذلك. ساهم عدد من الشعراء من الجانبين في جلسة شعرية مسائية أعقبت حرب تشرين و (عبور قناة السويس) على مسرح قاعة التربية في العشار وقرأ فيها عدد من الشعراء منهم عبد الكريم كاصد الذي ساهم بمقاطع شعرية قصيرة جداً عن الحرب ، لم ينشرها بعد ذلك قط ، وقصيدة “تشيلي في القلب” لتزامن الجلسة مع أحداث تشيلي. بعد انتهاء الجلسة جاء بعض المثقفين البعثيين نحو عبد الكريم ، ونحن نغادر القاعة ، وعلقوا بكلام كله مديح نحوه ولكنه لا يخلو من الخبث قائلين له: كأنك قادم من المطار للتو وحقيبتك معك من تشيلي. ينبغي أن نؤكد أنهم ، بصفتهم الرسمية، كانوا يحظرون علينا المشاركة في المربد ، وبعد نهاية فعالياته ، يعتذرون بأننا أفضل من بعض المشاركين ولكن لظروف، خاصة، يرجون أن نعذرهم عليها، قاصدين بقولهم هذا ، ومن طرف خفي:( هو حظر حزبي على مشاركات الشعراء الشيوعيين أو ممن يحسب عليهم في المدينة). وحدث أن أعلنت مجلة الأقلام عن نيتها إصدار عدد خاص تحت مسمى(الأدب والاشتراكية) فأرسل عبد الكريم كاصد قصيدته(ابن فضل) -قصة (أبن فضل ) كاملة سردها د. رفعت السعيد في كتابه “تاريخ اليسار المصري”- للمشاركة في العدد، لكن هيئة تحرير مجلة ” الأقلام” رفضت نشرها متحججة بأن نشرها سيسيء للعلاقات المصرية- العراقية (دبلوماسياً) ، ولأول مرة نسمع أن قصيدة ما تفعل هذا الفعل بين الدول!!.رغم كل المغريات ومحاولات التحجيم والتجاهل الرسمي فقد بقي غالبية الأدباء مصطفين مع (الحزب الشيوعي) حتى دون انتمائهم ، فصحف بغداد اليومية و مجلاتها الأسبوعية أو الشهرية لا تخلو من نشر نتاجاتهم المتواصلة ، المتميزة . ذات صباح جمعة ، منتصف عام 1975، وفي المقهى أعلمنا الكاتب والصحفي الراحل (عباس الرباط) وهو شيوعي سابق منذ الخمسينيات وكان سجيناً لسنوات في (نقرة السلمان) أن ثمة جريدة ستصدر في المدينة بصفتها ملحق (مجلة الإذاعة والتلفزيون) التي كانت تصدر في بغداد وستحمل اسم (المرفأ)، خمنا إن هذا التوجه هو لخلق قاعدة بعثية بين صفوف الأدباء والشباب منهم بالذات، خاصة أن مَنْ سيرأس تحريرها مدير تلفزيون البصرة وعضو فرع حزب البعث، حينها، إحسان وفيق السامرائي، ويساعده في ذلك بعض الأدباء البعثيين، أو ممن تحول واصطف إلى جانبهم. صباح احد الأيام دخل مقهى(الدَكّة) احد موظفي تلفزيون البصرة، ممن كان يقدم برنامجاً سياسياً أسبوعياً فيه ، وهو من الإعلاميين البعثيين المتزمتين جداً، وصادف إن كنتُ هناك ومعي الشاعر الراحل مهدي محمد علي، وهو على معرفة قديمة به تعود لأيام الصبا والدراسة والسكن في منطقة واحدة،. بعد التحيات قدم الإعلامي نسخاً من جريدة(المرفأ) بعددها الأول ، وطلب أن يستمع لرأينا فيها!؟. أبدى مهدي بعض الملاحظات المرحبة بصدور الجريدة ، وتحدث – كعادته- بتحفظ عن نوعية موادها وإخراجها فنياً وأهمية ترتيب المواد فيها. أنا أيضاً رحبت بصدورها وطلبت ألا تكون مغلقة على جهة واحدة، خاصة أنها تمول من المال العام، ثم استغربت من شعارها الذي كان نصاً (من أجل فكر قومي اشتراكي) وذكرت له أن هذا الشعار لا ينسجم مع أدبيات حزب البعث ذاته، وهو شعار (الحزب النازي القومي الألماني) ويجب أن يكون الشعار(من أجل فكر قومي واشتراكي). في العدد الثاني تم الانتباه لملاحظتي من خلال اعتماد الشعار الذي ذكرته. بعد توالي صدور الجريدة، والإعلان عنها مكرراً عبر محطة تلفزيون البصرة ، نقل إلينا مساءً، في المقهى، القاص الصديق احمد أمين/ أبو عاطف- المغترب حالياً/ رغبة رئيس التحرير بأن نشارك فيها ، وصادف قبل ذلك بقليل أن عرضت على عبد الكريم كاصد ومصطفى عبد الله مقالاً لي لغرض تبيان رأيهما فيه، وهو ما كنا نعتمده قبل إرسال أي مادة للنشر، فاستحسناه بعد تصحيح بعض هفواته ، وكان المقال عن كتاب أستاذنا الراحل الدكتور”جلال الخياط” المعنون”الشعر والزمن” من إصدارات وزارة الثقافة العراقية- بغداد. وقد ناقشت الكتاب من زوايا عدة، واعتمدت في مقالي بعض الإشارات والفقرات عن الزمن ومفهومه وما جاء عنه في كتاب “المادية الديالكتيكية” ،تأليف مجموعة من العلماء السوفيت والرائج حينها جداً، وكذلك استثمرت ما ورد في كتاب” الجمال في تفسيره الماركسي”، لعدد من الفلاسفة السوفيت ، ترجمة يوسف الحلاق ومراجعة أسماء صالح/ دمشق، وما ورد فيه عن الزمن الفني بالذات، كما سجلت على الكتاب عدم اهتمامه المناسب بالعلاقة بين الزمن والمكان . عندها اقترح علي كريم مباشرة، وفي ضوء الدعوة التي حملها الزميل القاص أحمد أمين بتكليف من رئيس التحرير أن أشارك به في (جريدة المرفأ)، تقديراً لذلك الطلب وللتعبير عن عدم التحفظ في المشاركة بجريدة(المرفأ) وتصدر نصف شهرية ، رحب القاص ” احمد أمين ” بمساهمتي ونقله إلى الجريدة. بعد ثلاثة أعداد نُشر مقالي المعنون “الشعر والزمن وما بينهما” مع حذف كامل لكل تلك الإشارات والاقتباسات من الكتابين، وقد استفسرت من احد الأصدقاء العاملين في الجريدة فذكر لي: بحكم مشاغل إحسان السامرائي الوظيفية والحزبية فأن المشرف الفعلي على الجريدة الشاعر(……) وهو الذي قرر حذف هذه الفقرات والاستشهادات تحاشياً لأي إشكال قد يقع له ، ما دعاني لإعادة إرساله إلى “طريق الشعب” فنشرته كاملاً. وبعد التطور البسيط الذي أصابته (المرفأ) في مستواها الثقافي والفني نشر فيها القاص محمد خضير قصته “اله المستنقعات” وكذلك نشر فيها كاظم الحجاج ومصطفى عبد الله ومحمد صالح عبد الرضا وفهد محسن فرحان متابعات نقدية لقصائد الأعداد الماضية ، وكذلك قصص للراحل يوسف يعقوب حداد و كاظم الأحمدي وعبد الصمد حسن واحمد أمين وعبد الإله عبد القادر وغيرهم، وخصها مهدي محمد علي بمقال عن ديوان الشاعر الراحل كاظم نعمة التميمي (إسراء في سماوات أخرى)، ونشر فيها كذلك الشعراء حامد عبد الصمد البصري وفوزي السعد وسعدي علي السند وقتيل الحرب العراقية- الإيرانية الشاعر إسماعيل الخياط وعدد آخر من الشعراء وكتاب القصة ، ونشرت فيها مقالات وترجمات لبعض الأكاديميين في الجامعة ، ولا يمكن ذكرهم جميعاً ، لكنها بقيت في غالبية ما ينشر فيها حكراً على المنتمين والمؤيدين لحزب السلطة ، في محاولة واضحة لخلق كتلة بين الأدباء والكتاب موازية لمؤيدي وأنصار “الحزب الشيوعي”، الأكثر عدداً وتأثيراً في الوسط الثقافي البصري، وعبر صفحات(المرفأ) نشر بعض الشباب نتاجاتهم الأولى، وقسم منهم واصل الطريق، وبعضهم اختفى عن النشاط الأدبي والثقافي تماماً. وأصدرت الجريدة مختارات شعرية بعنوان”كتاب المرفأ الشعري”. شيئاً فشيئاً بدا النضوب على الجريدة، لكونها لم تنفتح على المشهد الثقافي في البصرة دون الاهتمام بالتوجهات السياسية والحزبية بالذات لمن يسهم فيها، ثم أغلقت مباشرة بعد اعتقال” إحسان وفيق السامرائي” فيما سمي حينه بـ”مؤامرة محمد عايش”. من جهة أخرى فأن “المكتب الصحفي في جريدة”طريق الشعب” بالبصرة، مع أن قسماً كبيراً منا لم تكن له علاقة تنظيمية بـ”الحزب الشيوعي” بل كانت علاقة فكرية فقط ، تم إعلامنا ، عبر احد الأدباء الشيوعيين وعضو المكتب في ذات الوقت، بأن موادنا التي ترسل إلى جريدة طريق الشعب والفكر الجديد ومجلة الثقافة الجديدة يجب أن تكون عبر(المكتب). استجبنا لذلك ، إكراما لهذا الطلب ، وحدث أن قدمنا موادنا الأدبية والثقافية والصحفية كذلك ، لكن بعضها لم ترسل، بل تم إعادتها إلينا، بعد فترة، لأنها وحسب منطقهم: “لا تنسجم مع خط الحزب وسياسته حينها” وقد تحرج ممثليهم في قيادة الجبهة الوطنية في البصرة. والمضحك في الأمر أننا وعند إرسالها عبر دائرة البريد الحكومي إلى الصحف والمجلات التي تصدر في بغداد، والرسمية بالذات، نُشرت جميعها دون تحفظ ما. حاول الحزب الشيوعي مراراً التأكيد على ما جاء في “ميثاق العمل الوطني” عن الثقافة والفن ودورهما الاجتماعي ، وقرر أن يقيم في مقره ندوات موسعة عن “مساهمة الأدب والفن” في كيفية تفعيل ما سمي حينه “خطة التنمية الانفجارية”، التي صعبت جداً الحياة اليومية للناس في المدينة ،دون تلمس ، حتى الآثار البسيطة لها، لكنه لم يجد التفاعل المناسب من غالبية الأدباء والفنانين لهذا المنحى ، والذين يعلمون جيداً أن هذا لم يكن غير تكرار واجترار للتوجهات السوفيتية خاصة في عهد ستالين، وإزاء ذلك تراجع عن محاولة الاستمرار في مثل هذه التوجهات التي لم تعبأ بها أساساً قاعدته أو مَنْ يناصره في الوسط الفني والثقافي والأدبي ولم تشغل حتى حلفائه ، فتراجع عن تلك الندوات، بعد أن عقد ندوة واحدة فقيرة في مضمونها و كان التوجه السياسي في صميمه. قيادة الحزب الشيوعي في البصرة حاولت جاهدة التخفيف من الضغوط المتواصلة، معنوياً ، من قبل حزب السلطة وأجهزته على مناصريها ومؤيديها في الوسط الثقافي والفني في المدينة وعمدت لعقد لقاءات معهم لغرض توضيح سياستها الرامية للارتفاع إلى مستوى مرحلة (التحالف الوطني الراهن) ، والعمل على امتصاص غضبهم المتواصل والحيف الذي بات يحيق بهم من خلال القيام بالحوارات مع الطرف (الحليف) لفك الخناق عنهم ، لكن الأيام والممارسات اليومية المتواصلة والمحسوبة بدقة، من قيادة البعثيين كانت تكشر عن أنيابها عبر ممارسات متعمدة وواضحة من قبل حزب السلطة (الحليف) مستعيناً بأجهزته المتعددة للسيطرة التامة على المشهد الثقافي والفني والاجتماعي في المدينة تدريجياً، وعلى وفق خطة محكمة بانتظار وقت الشروع بها وهو ما حدث بعد فترة.
*هذه المادة وسابقاتها ، والقادمة منها ،معنية بالوضع الثقافي- الفني في مرحلة السبعينيات في البصرة تحديداً ، وهي القسم الثاني من كتاب جاهز للطبع بعنوان:(تلك المدينة…)