23 ديسمبر، 2024 9:18 م

مقهى (الدكّة) في البصرة .. فضاء ثقافي.. وزمن سبعيني – 5

مقهى (الدكّة) في البصرة .. فضاء ثقافي.. وزمن سبعيني – 5

1
ذات مساء ربيعي زارنا ونحن مسترخين على (دكّة) المقهى الأستاذ (عادل يوسف) ، المعيد في كلية الآداب فرع اللغة الإنكليزية ، وبرفقته القاص سلمان كاصد ، الذي حصل على درجة الدكتوراه ، بعد عقدين في النقد الأدبي من جامعة البصرة ، وهما زملاء خلال دراستهما معاً في كلية الآداب ، مؤكداً لنا أن الجامعة ، قررت المساهمة النشطة بالمشهد الثقافي- الأدبي والفني من خلال المركز الثقافي لجامعة البصرة. ووجه الدعوة لنا في أن نحضر و نسهم في الجلسات التي ستعقد فيه ، وان الدكتور زاهد العزي ، الأستاذ في الجامعة ، قد تسلم مسؤولية المركز وهو مساعد له. بدأ المركز نشاطه باستضافة أسماء لامعة في الثقافة العراقية ، منهم العالم الدكتور نوري جعفر إذ غصّت قاعة المركز بالحاضرين الذين أنصت كثيرون منهم إلى محاضرته وقوفاً، وكانت فرصة نادرة لأن نستمع للدكتور نوري جعفر، الشخصية الوطنية الديمقراطية المعروفة وذات التاريخ الناصع ومستواه الرفيع علمياً وبحثياً ، وأطروحاته حول آلية الإبداع الثقافي والعلمي في الدماغ الإنساني ومكونات مخه. بعده بفترة حضر جبرا إبراهيم جبرا مقدماً محاضرة عن تجربته في الترجمة ، والمعروف ان جبرا قدم لنا وللقراء العرب، خدمات ثقافية جمة عبر تراجمه العديدة ومنها، للمثال فقط وليس للحصر، تموز أو ادونيس وهو فصل من كتاب( الغصن الذهبي) للسير جيمس فريزر و الصخب والعنف لفوكنر وهملت والملك لير، واغلب مسرحيات شكسبير وتراجم أخرى منوعة و مهمة ساهمت بالتكوين الثقافي والمعرفي لأجيال من المثقفين العراقيين والعرب ، و لا ضرورة لعدها فهي معروفة جيداً، وكانت فرصة ثمينة أن نستمع لجبرا وهو يتحدث  أمامنا عن ذلك . كما وتحدث جبرا عن كتاب حديث له تحت الطبع.وبعد أن انتهى توالت الأسئلة والمداخلات وبينها كانت مداخلة الشاعر عبد الكريم كاصد الذي أشكل على جبرا مسألة حديثه عن كتاب جديد له تحت الطبع لم يطلع عليه القراء ، وملاحظات أخرى عن بعض ترجماته. و عقب عليها جبرا، باللغة الانكليزية أحياناً ومترجماً تعقيبه إلى العربية، ثم جرى الحوار بين الاثنين بالفرنسية والانكليزية لنحو نصف ساعة ، وسمعنا لكل منهما ترجمة للغة العربية ، قرر جبرا بعدها بأنه على اختلاف مع كاصد ولا يمكن أن يلتقيا لأنه يعتقد أنّ “في البدء كان الكلمة”، فردّ عليه عبد الكريم  قائلاً “أرى أن في البدء كان العمل”. وحضر ضيوف من بغداد منهم حسن العلوي عندما كان رئيساً لتحرير مجلة “ألف باء” وقدم محاضرة عنوانها “الزمن .. ومفهومه  لدى صدام حسين “، و قام بتغطية محاضرة العلوي احد الصحفيين الذين حضر معه ، خصيصاً لذلك ، في مجلة ” ألف باء” وعلى صفحتين كاملتين في المجلة ، وكذلك الدكتور عوني كرومي والشاعر بلند الحيدري وشخصيات ثقافية وفنية وعلمية عراقية وعربية وأجنبية  تواجدت في زيارات بحثية وعلمية في الجامعة، وثمة جلسات خاصة عن الموسيقى الكلاسيكية العالمية، ونماذج متنوعة منها ،عبر جهاز” كرامفون” حديث جدا ، ويُعلقْ على ما يقدم من موسيقى احد أساتذة الجامعة المصريين والمتخصص بمادة التذوق الفني في الموسيقى العالمية.
2
“انكببت على كتابة قصص أضمنها مجمل انطباعاتي الاجتماعية ، عن علاقات وملامح واقعية حقيقية وفريدة ، كنت أريدها أن تشتمل على تحسسي العاطفي لانفعالات وسلوك أفراد يجدون صعوبة في الاستجابة لوضعهم الاجتماعي”. محمد خضير.
بعد محاولات حثيثة من قبل د. زاهد العزي وبعض الأصدقاء وبمشقة بالغة وافق القاص محمد خضير على المشاركة في نشاط المركز الثقافي للجامعة والحديث عن تجربته القصصية. كان الحضور كثيفاً جداً والقاعة ممتلئة تماماً، لم يكن القاص محمد خضير قد أصدر “المملكة السوداء” بعد، لكنه كان معروفاً بموهبته وقدراته القصصية الرفيعة من خلال ما نشره في المجلات العراقية والعربية.رحب مقدم الجلسة الدكتور زاهد العزي بالحضور، شاكراً الأستاذ خضير على تلبية هذه  الدعوة،كما وصفها نصاً “بالـ” شاقة “. ثم دعاه للصعود إلى جانبه للتفضل بالحديث عن تجربته القصصية ، وبحسب معرفتي وعلاقتي بمحمد خضير كانت هذه هي المرة الأولى التي يواجه جمهوراً بتلك الكثافة. دهشنا جميعاً كون محمد خضير صعد المنصة من دون أوراق. شكر محمد الجميع والمركز ، ثم قال:” بدأت برسم دائرة صغيرة حولي ووضعت نفسي في منتصفها وأخذت أوسع تلك الدائرة بتأنٍ شيئاً فشيئاً ، أحاول جاهداً أن لا تتسع الدائرة بحيث أضيع في مساحتها وان لا تضيق عليّ كي لا أصبح خارجها “. ثم سكت قليلاً، وأضاف:” هذا كل ما لديَّ”!؟. صمتنا جميعاً ،وصعق رئيس الجلسة تماماً، وران السكون على القاعة ومَنْ فيها. صمت وحيرة تواصلا لدقائق، حتى مزق ذلك الصمت الناقد” شجاع العاني”، ولم يكن قد حصل على الدكتوراه بل الماجستير عن أطروحته” المرأة في القصة العراقية” ويعمل مدرساً في كلية آداب جامعة البصرة ، وكان حينها يجلس في الصف الأول بالقاعة. رفع الناقد شجاع العاني يده مستأذناً بالحديث ، وقال بهدوء تامٍ : من غير المعقول أن تكون الأمور هكذا يا محمد وهذا الجمهور الكثيف حضر ليستمع إليكَ !؟. عندها رد محمد بتواضع وأدب جم معروف عنه : لا أرغب بالحديث عن تجربتي، فهي كما أتصور بسيطة حتى الآن ، لكني أفسح المجال للجمهور الكريم في أن يسأل وأنا سأجيب. وأضاف: لا أريد أن أكون محاضراً هنا ، بل محاوراً عن ما يتفضل به مَنْ يرغب من الحاضرين الكرام بالسؤال أو محاورتي.عندها انفتحت أسارير رئيس الجلسة محيياً الناقد شجاع العاني ومرحباً بما قاله محمد بشرط أن يتم تسجيل الأسماء وسيكون الحضور بالتعاقب إلى الميكرفون الموجود في القاعة. تم ذلك وسجل عدد كثير من الحاضرين أسماءهم. ومنهم أغلب قصاصي البصرة ومثقفيها، لكن القلة جداً حاول النيل من قصص محمد خضير، وعلاقة قصصه بالواقع في الراهن في العراق. ورد محمد بوضوح وتمكن حول ذلك مؤكداً إن كتابة قصة واقعية تتطلب فهماً أعمق للواقع، واستقصاءً  جوهرياً له وللدوافع التي تكمن  وراء  أو تحت السلوك الإنساني وهو يعيش في هذا الواقع وشروطه المفروضة عليه لأسباب وعوامل وفواعل شتى ، ولكتابة قصة واقعية ,كما ذكر القاص محمد،  انه ينبغي النفاذ إلى مستويات عدة من الواقع ، وان مجتمعنا يغلف حقيقته بجلد سميك من العلاقات والأوهام  الحضارية المزيفة  و ما يكمن أسفل السطح ، لا وعي جمعي  عامٍ  و عميق الجذور ، وما تحت السطح الاجتماعي مخاوف عدة  وهو في حالة من التشكل الدائم ، وان العمل الفني الذي يتناول الواقع الآخر الذي وصفه (بواقع الأعماق) ، سيحتوي تلك الحركة الدائمة المبهمة بين الماضي والمستقبل ، و كل ذلك يجري تحت سطح الواقع – الراهن. ثم أضاف: لغرض تصعيد الواقع  لابد أن نلجأ إلى عزل أجزاء وقطعات من الواقع المادي وان ننقلها  بابتكار إلى واقع القصة  المبتكرة كذلك ، كي تنمو في محيط العلاقات الجديدة ومعها شخصيات القصة ذاتها. وحاوره طويلاً عدد كثير من الحاضرين منهم عبد الكريم كاصد وكاظم الأحمدي وعبد الجليل المياح، ومصطفى عبد الله ، ومن الصعب تذكرهم جميعاً فمعذرة لهم. أما أنا فذكّرته بقصته التي نشرها في مجلة الآداب ، وكانت بعنوان  “جامعو الجثث” التي مسرحها مدينة (القدس) وكيف تسنى له أن يلم بالخارطة الجغرافية وتفاصيل مدينة(القدس) الدقيقة وشوارعها الحجرية ، التي كانت الجثث متناثرة عليها ، وأزقتها الضيقة جداً و حاراتها وحتى عمارتها بحيث انه قدم صورة(بانورامية) موسعة عنها وكأنه قد عاش فيها سنوات ، والمعروف عنه انه لم يغادر البصرة إلا إلى عمله في قضاء (الرميثة) وأحياناً يذهب إلى بغداد؟. فكان جوابه: انه قرأ عشرات الكتب المتنوعة عن مدينة القدس وتاريخها، ودراسات (انثربولوجية) خاصة بها، ونظر في خرائط عدة لجغرافيتها وشاهد ما يفوق المئات من صور نادرة للمدينة ، واستطاع أن يرسم القدس بالطريقة التي تحدثت عنها ، وانه كان يرى نفسه أحياناً يتجول في شوارعها وأزقتها مع انه يسير في مدينته. وفي ختام تلك الجلسة وحواراتها الباذخة ، والتي تواصلت حتى ما بعد المساء، ذهب محمد إلى أن التواشج والالتحام بين الإبداع في الفن عموماً والحياة الإنسانية لا يتولد فقط من كون العنصرين من ذات المادة بل من خلال تعبيرهما عن نفس ردود الأفعال.
3
انحسر نشاط المركز الثقافي لجامعة البصرة بعد السبعينيات ، وخلال سنوات الحروب المتواصلة والحصار،تبخر ذلك الجمهور واختفى بين الموت في زنازين السلطة ،ومَنْ نجا افلح في الهروب خارج العراق بوسائل  شخصية شتى ، ومن بقي مرغماً لظروف خاصة تمزقت روحه تماماً أو أصابه اليأس ، ولم تعد تلك الاهتمامات  تشغله و شعر بالهزيمة الشخصية ، أو أكلته الحروب الخاسرة المتواصلة ، و الهجرة الاَضطرارية ، ومكابدات الحياة اليومية القاسية جداً زمن الحصار. في التسعينيات شهد المركز الثقافي للجامعة بعض المهرجانات والملتقيات ذات الصبغة والدوافع الإعلامية الدعائية ،أكثر مما هي ثقافية- أدبية ، وبعضها أقيم بدعم وولائم رؤساء العشائر و عقدت بعض القراءات الشعرية في مضايفهم ، خاصة أولئك الذين يملكون حظوة ما من قبل السلطة.. فالعراق تغير وجهه ، وغارت ملامحه، ولم يعد هو، بل :
” بلاد شوه الدم وجهها
لم تعد إلا ركاماً من آلام وجراح
سوقاً حاوطتها الرياح وأمطرها البرد
أنقاضاً تمرس الموت بأشلائها.
     ………….
بلاد يسلخها الجزارون
وارى منها الأعصاب والأحشاء والعظام
وارى أخشابها تحترق مثل المشاعل
والنار تلتهم السنابل، فوقها طير يفر
  ……….
كلما تغنى الناس بالرياح أو بالورود
تحطم طربها واستحال إلى أنين “. (أراكون)
بعد 9 نيسان 2003 دمر و(حوسم)المركز الثقافي لجامعة البصرة ، ومعه كل البنى التحتية الثقافية في المدينة ، و ما زال بهو الإدارة المحلية خَرِباً ، وتم تهديم المجمع الإعلامي الكبير والفخم ومعه قاعة السياب للعروض المسرحية و السينمائية ليكون مقراً دائماً لـ”مجلس المحافظة”، وثمة   قوات عسكرية عراقية تحتل مبنى نقابة الفنانين ، كما أكل الجراد الفتاك الذي عاث فساداً وتهشيماً وتنكيلاً بمقر اتحاد أدباء وكتاب البصرة وقاعته الكبيرة ، وكذلك المبنى الفخم لنقابة المعلمين ، سوي بالأرض بعد ذلك تماماً ، الذي عقد أدباء وكتاب البصرة اجتماعهم الأول في قاعته الفارهة ، وأسقطت الهيئة العامة في صباح 23 / 5 / 2003 ، شرعية الهيئة الإدارية السابقة، ثم انتخبت هيئة إدارية جديدة لقيادة الاتحاد ، و تحت أصوات المعاول والمطارق ، التي بدأت تهديم البناية ،  تم عقد أولى الجلسات الثقافية – الأدبية فيها ، حتى تم طردنا منها بقوة وإصرار نشامى وتوجهات وأفكار حواسم ولصوص وقتلة عراق ما بعد ظهر 9 نيسان 2003، بكل الأشكال والألوان والمهمات والتوجهات العلنية أو الخفية.