ذات مرة قال الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين ” إن المنصب لدينا لا يعني شيئا مهما، فنحن ننقل المحكوم بالإعدام من حبل المشنقة إلى كرسي الوزارة ” وحقيقة لم أدرك في وقتها من كان يقصد الرجل بكلامه هذا، لكنني استعدت سير حياة معظم مَن تسنموا مناصبا ومواقعا في عهده، فتأكدت إنما كان يقصد الولاء المطلق له ولحزبه، خاصة مرحلة ما بعد الرئيس احمد حسن البكر التي اعتمدت أسسا ومعاييرا أكثر كفاءة وتكنوقراط مما حدث لاحقا، حيث اختلط الحابل بالنابل، بعد تسلم صدام حسين مقاليد السلطة في العراق، اثر استقالة البكر المفاجئة، والتغييرات الحادة التي حصلت بعد ذلك في تصفية معظم القيادات الرئيسية لحزب البعث، وعلى رأسهم عبد الخالق السامرائي من التنظيم القطري ومنيف الرزاز من التنظيم القومي، مرورا بالعشرات من القيادات القطرية المفصلية للحزب وللإدارة، والتي تعرضت معظمها للإعدام، وتولت بعدها العشرات بل المئات من القيادات مناصبا ومواقع لا للتشريف أو التكليف بل لسلطة للبطش والاستبداد والولاء المطلق للقائد.
وفي ما مضى من التاريخ كان المنصب أو العنوان الوظيفي ذو أبعاد مهنية واجتماعية وأخلاقية رفيعة، تتحكم فيها مجموعة من الضوابط والقيم، وترسم حدودها ومستويات أداء صاحبها ومهنيته وكيفية التعامل مع موظفيه أو بقية الأهالي، سواء كان في الحياة المدنية أو المجال العسكري أو الأمني، خطوطا حمراء تحددها مجموعة القيم الخلاقة للمجتمع وفي مقدمتها ما يعرف بالإنسان المناسب في المكان المناسب، ونتذكر جميعا في هذا الصدد الآليات والكيفية التي كان بموجبها يتم قبول المنتسبين في أجهزة الدفاع ومؤسساتها وأكاديمياتها، والشرطة وأقسامها، بل إن أصعب ما كان يواجه المتقدمين حينذاك إلى كليات الشرطة والعسكر هي تلك الاختبارات التي تتضمن حقول كثيرة في مقدمتها السمعة والأصالة والنزاهة والقيمة الاجتماعية والمؤهل العلمي والثقافي.
وللتاريخ اذكر هنا حادثة رواها لي الشيخ عبود الهيمص رحمه الله، وهو واحد من كبار شيوخ العشائر في الفرات الأوسط، ومن المقربين في
الحقبة الملكية للبلاط ولرئيس الوزراء نوري السعيد، حيث كان يتمتع بعلاقة وطيدة معهما، وقد حدثني ذات يوم من أيام سبعينيات القرن الماضي عن رجل من عامة الناس في عشيرته طلب منه التوسط لدى الباشا نوري السعيد لقبول ابنه في الكلية العسكرية آنذاك، خاصة وان نوري السعيد والملك يزورانه في الشتاء بمحل إقامته سنويا، وكلامه محترم جدا لديهم، ووعده خيرا في توصية الباشا لقبول ابن ذلك الشخص، وبعد أشهر عاود والد الرجل السؤال عن النتيجة، فذهب الشيخ الهيمص إلى الباشا مذكرا إياه بالتوصية، أجابه الباشا لم أنسَ وصيتك، وقد استفسرنا كثيرا عن الشخص وأهليته الاجتماعية للقبول في الكلية فتبين بأنه غير مؤهل لاعتبارات اجتماعية، وحينما ألح الشيخ في معرفة الأسباب قال الباشا لا استطيع البوح بها لأنهم سيحاسبونني ويقصد الجهات المختصة، حفاظا على أسرار الناس وسمعتهم، لكنني استطيع القول بأنه غير جدير لعدة أسباب، أهمها انه سيصبح بعد عشر سنوات أو أكثر ذي منصب عال، يؤهله لحكم رقاب الأهالي ويكون مسؤولا عن حمايتهم وكرامتهم وشرفهم وحياتهم، وفي أسرته وسلوكها ما يتناقض مع هذه المواصفات!
واستمرت تلك المواصفات إلى أن بدأت حقبة الانقلابات ليس في العراق وحده بل في معظم البلاد العربية من مصر إلى اليمن مرورا بالجزائر وتونس وسوريا والسودان، وفي العراق حيث انقلب عبدا لكريم قاسم الضابط العسكري على الملكية كنظام سياسي، وقبلها في مصر وتوالت سلسلة الانقلابات وظهور عصر جديد للمناصب والمواقع ( الثورية ) بعيدا عن الشرعية القانونية والدستورية، معتمدة شرعية أخرى اسمها الشرعية الثورية التي أباحت إشغال أكثر المناصب خطورة وحساسية بأيدي أشخاص لا علاقة لهم بأصل المنصب إلا من خلال الولاء المطلق للرئيس أو الحزب القائد.
وهكذا بدأت مقصلة تلك البلدان تصفي كل الكفاءات العلمية والمهنية والسياسية والاقتصادية، لكي تسود طبقة أخرى يتولى فيها أشخاص مؤهلهم الوحيد هو الولاء المطلق للنظام الجديد، حيث يتم التعيين فيها للمناصب على أساس القرب والبعد من الرئيس أو الحزب، بغض النظر عن المؤهل العلمي أو الاجتماعي والمهني، وقد شهدنا آلاف النكرات تتبوأ مناصبا ومواقعا، وتتحكم في مصائر الأهالي وحياتهم ومستقبلهم، ابتداء من عنصر الأمن ووصولا إلى قمة الهرم، حيث رافقت هذه الخطيئة كل المناصب التي
أنتجتها الانقلابات، وما رافقها حتى يومنا هذا من تدهور مريع في كل المعايير والمستويات والقيم الخاصة بتلك المواقع والمناصب والرتب، حتى أدركنا عمداء وألوية وما فوق وهم دون مستوى ملازم في الجيش أو ربما أقل من ذلك ممن أطلق عليهم في العراق بالدمج من الضباط الذين منحوا تلك الرتب خارج كل القيم العسكرية والأكاديمية معتمدة بذلك على ما يسمى بالجهاد الفائي أو التاريخ النضالي لصاحب الرتبة، وعلى المستوى المدني كانت مدرسة الجمهوريات الثلاث ( الأولى عبد الكريم قاسم والثانية حزب البعث والثالثة حزب الدعوة والمالكي ) في المناصب والرتب أسوء ما مر به العراق والعالم في إدارة الدولة، حيث تبوء أشخاص معروفين بمستوياتهم الاجتماعية والعلمية مواقع بفتاوى مذهبية أو قبلية أو بأموال الغسيل المعروفة بمشبوهيتها وفسادها، وأوصلت البلاد إلى مستويات متدنية في معظم مناحي الحياة، من خلال مجاميع من العناصر مؤهلها الوحيد هو خدمة القائد الضرورة وحزبه، حيث بدأ التدهور الكبير يعم معظم مفاصل الدولة على أيدي أولئك الأميين والنكرات الذين نخروا جسد الدولة وساهموا في إسقاطها وفرهدتها في ما سمي بالحواسم.
واليوم وبعد أكثر من عشر سنوات على إسقاط الولايات المتحدة لنظام صدام حسين، وبنظرة فاحصة لأغلبية من شغل كراسي البرلمان والسلطة التنفيذية سندرك الكارثة التي ألمت بالبلاد ومن تولى حكمها، والفوضى المقززة التي ما تزال تعم كل مفاصل الدولة، باستثناء القلة القليلة التي حافظت باستماتة على مجالها الحيوي وضوابطها، حيث تسلقت ذات المجاميع الانتهازية والأمية والقطيعية مواقع الدولة في شكلها الجديد، بفارق بسيط عن الأنظمة السابقة وهو شرعنة التسلق والتعيين بصناديق الاقتراع فيما سمي بالانتخابات الديمقراطية التي تتحكم في نتائجها فتاوى رجال الدين وشيوخ العشائر والسحت الحرام.
واليوم وبعد أكثر من عشر سنوات من إسقاط نظام صدام حسين، لو وجهنا سؤال بسيط لأي مواطن أو مواطنة عراقية عن تقييمها أو تعريفها للنائب أو الوزير نزولا للحكومات والمجالس المحلية، سنسمع فورا ودون تردد إنهم حرامية وفاسدين، وان صدى ما قاله صدام حسين عن المناصب يصدح في قاعات مجلس النواب والوزراء العراقي ويؤكد إن عار المناصب والمواقع التي أنتجتها ديمقراطية الفتاوى الطائفية والعقلية
العشائرية المقيتة والسحت الحرام دائمة وتتمدد تحت ظلال حكومة الأغلبية الدكتاتورية وان اختلفت العناوين والمسميات!