22 نوفمبر، 2024 6:44 م
Search
Close this search box.

مقدمة في الديانات الابراهيمية المرحلة الثانية

مقدمة في الديانات الابراهيمية المرحلة الثانية

انّ المجتمع السابق على نوح لم يخلُ من المؤمنين الذين حفظوا عقائد السابقين , وهذا ما أفاده نص يشرح ايمان ( لامك ) ابي ( نوح ) النبي ) : (( وَعَاشَ لاَمَكُ مِئَةً وَاثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ ابْنًا. * وَدَعَا اسْمَهُ نُوحًا، قَائِلاً: « هذَا يُعَزِّينَا عَنْ عَمَلِنَا وَتَعَبِ أَيْدِينَا مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ الَّتِي لَعَنَهَا الرَّبُّ » ))[2] . لكنَّ نوحاً اوجد اولى المجتمعات الايمانية الجلية , والتي ظهر فيها ( التدين ) كجزء اساسي في الحياة , بل ترتبط به كافة النشاطات الاخرى , كما هو واضح في يوميات وقوانين واعراف المجتمع السومري التي ثبتت علميا .

ان القرآن الكريم يوضح لنا مدى التغير الجذري في مجتمع نوح ( بعد الطوفان ) , والذي جعل الله تعالى يباركهم ويجزل نعمته عليهم :} قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } (سورة هود: ٤٨) . وكانت النتيجة الطبيعية ان يكون هؤلاء هم ورثة المشروع الالهي الايماني : } فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ } (سورة يونس: ٧٣) .

لقد التزمت الأديان الإبراهيمية مسمى ( نوح ) لبطل قصة الطوفان التاريخية ، فيما اعتمدت النصوص الآثارية تسميات ( اوتو نبشتم ) و ( زيوسدرا ) ، لكن يبقى المعنون واحداً بحسب القراءة المقارنة للنصوص .

تأثيرات التكوين الفكري في ترجمة النص الآثاري

قراءة نقدية لنصوص الآثاري ( صموئيل نوح كريمر )[3]

الصراعات الايدلوجية بين معتنقي الاديان وكذلك بين معتنقي الافكار جعلت تزوير الحقائق التأريخية امراً مألوفا وخطيرا وشائعا , لا سيما ان معظم تأريخ البعثات التنقيبية في العراق ادارته الماكنة اليهودية منذ القرن الثاني عشر على يد احد الحاخامات ( بنيامين بن يونس[4] ) وحتى القرن العشرين ( صموئيل نوح كريمر ) , لذلك كان من اللازم على الباحث ان يتحلى بذوق وحس خاصين لتمييز الحقيقي عن غيره , او على الاقل لرسم ملامح عامة للحقيقة . ولعل تبني اليهود منذ قرون دراسة الآثار العراقية شكل تهديدا واقعيا لتأريخ وحضارة هذا البلد .

ان المؤسسات والمراكز التي أشرفت على بعثات التنقيب في العراق ومصر أخفت الكثير من المكتشفات الآثارية , وربما غيبت المهم من الحقائق . فيما الاثاريون الغربيون ترجموا النصوص السومرية والمصرية بشكل متأثر باعتقاداتهم وتصوراتهم الشخصية وبيئتهم المحيطة يهودية او مسيحية في أحسن الأحوال . وربما ان هؤلاء العلماء لم يكشفوا الا اقل القليل مما وجدوا . لذلك هم قاموا بتشويه الحقيقة التي لم ادرك انا شخصيا الا بعض ملامحها .

المكتشفات الاثرية اليوم مساهم كبير وخطير في قراءة التاريخ ، الا انها تعاني عدة سلبيات أيضاً ، منها الاحتكار لهذه الكنوز من قبل دول ومؤسسات لها سياسات واهداف ، ومنها ايضا الترجمة المختلفة والمضطربة لتلك النصوص والرموز الآثارية ، حيث انّ الأغلب منها ترجمته مؤسسات غربية تفتقد للرؤية الشرقية التي كتبت تلك النصوص ، ولا تملك العقل الفلسفي للإنسان الشرق أوسطي المُتَرجَم له ، كما انها تنطلق في ترجمتها من احكام وقناعات مسبقة أسقطتها على جوهر النص .

لذلك كله كان من الضروري ان ينطلق الباحث وهو يدرك كل ذلك ، محاولاً إيجاد الحلول لهذه الاشكالات ، ولعلّي رأيت انّ المقارنة على عدة ابعاد هي الحلّ الأمثل لترتيب الملامح في الصورة التاريخية ، كما يكون التوافق بين النص الآثاري والنص الديني عاملاً مساعداً في دعم الأفكار ، فيما تكون الروايات الشعبية في حال توافقها مع احد النصين الآثاري او الديني او كليهما أمراً معززاً للقناعة ودليلاً شبه حاسم .

من هنا كنت أفضِّل دائماً كتابة التاريخ بما يشبه القصة الواحدة – وهو كذلك فعلا – ، او اعادة جمع اجزاء الصورة لتشكيل اللوحة الانسانية . حيث لم تستسغ طبيعتي الفكرية العزل الذي يمارسه الباحثون لتاريخ الحضارات ، وقرّرت انّ هذا المنهج سيسلب جوهر الحركة التاريخية .

كان هناك على الدوام تعمّد واضح في إفقاد بعض الشعوب لهويتها ، من خلال قطعها عن ماضيها الحضاري ، وكانت الى جانب ذلك رغبة غير موضوعية في إيجاد تاريخ له ملامح تمّ تخليقها في مختبرات خاصة ، لإيهام البشرية انّ هناك جنساً واحداً متفوقا .

ان هدف هذه القراءة المساهمة في اعادة قراءة المشهد التاريخي لحضارتنا ، وتنقية الموروث الآثاري من شوائب الترجمات – وبالتالي التصورات – الخاطئة او المشكوك في صحتها ، بما يمكّن القارئ من فهم واقعي ومنطقي للمعتقد السومري بصورة خاصة ، بعد تناولي للمعتقدات المصرية القديمة في مؤلف اخر تحت عنوان ( صراع الحضارتين )[5] .

انني كباحث اعتمد الربط المنطقي للحدث وأجمع بين المصادر ، وأحاول قراءة الموروث التاريخي من خلال آليتين ، الاولى علمية فكرية ، والأخرى خيالية تصورية ، بمعنى أني حاولت مراراً ان أعيش زمان الحدث وموقفه ، وان أفكّر بذهنية كل شعب وكل قرن ، لأنّ قراءة الحدث التاريخي بعقلنا المعاصر خطأ كبير ، فربّما لم يُرِد إنسان ذلك العصر المعنى الذي نفهمه اليوم .

انّ المادة الآثارية واحدة من حيث الأصل ، والمنهج العلمي كذلك متفق عليه عند استعراضها ، لكنّ المختلف فيه هو ( الترجمة ) ، التي تتأثر في البيئة العلمية بالخلفية الثقافية والتكوينية لعقل الباحث ، لهذا ما نحاول نقده وإعادة صياغته ليست المادة الآثارية ، بل الترجمات الشخصية لها .

ان العالِمَين ( صموئيل نوح كريمر [6]) و ( ياروسلاف تشيرني [7]) من اهم وأشهر الآثاريين الذين اشرفوا على البعثات التنقيبية في العراق ومصر ، وكانت منتجاتهما البحثية أساساً لمن جاء بعدهما ، خصوصاً ان ( كريمر ) قد أسس لقسم السومريات ( الاشوريات ) في جامعة بنسلفانيا الامريكية ، التي تبنت ترجمة العديد من النصوص السومرية ، فيما وجّه ( تشيرني ) بوصلة التفاسير الخاصة بالمعتقد المصري . لذلك اخترت كتابيهما ( السومريون[8] ) و ( الديانة المصرية القديمة [9]) نموذجاً للبحث والتحليل .

انّ الحضارة السومرية هي لاشك اقدم الحضارات البشرية واصلها ، لهذا كان من المناسب أولاً تناول كتاب ( السومريون ) بالنقد والتحليل ، لكنّي تناولت مسبقاً مباحث من كتاب ( الديانة المصرية القديمة ) لأسباب عديدة ، منها انني رغبت بضم ترجمات عراقية للألواح السومرية ، وهذا ما احتاج الى وقت وإعداد . وهنا سنأخذ كتاب ( كريمر ) الموسوم ب ( السومريون ، تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم ) مادة للقراءة والبحث ، توخياً لنتائج تناسب ما نعتقده من وعي سومري مميز ، اقرّ به ( كريمر ) ، لكنّه حين الترجمة كان ينطلق من زوايا تحصر العقل السومري في نطاق البدائية .

الكوسمولوجيا[10] السومرية والترسبات السوسيولوجيّة[11] لدى كريمر :

انّ كتاب ( السومريون ) كبير من حيث المادة ، ومتنوع من حيث المواضيع ، لذلك ارتأيت – لأنني في إطار بيان المعتقدات – تناول الفصلين الرابع والخامس منه ، الخاصين بالديانة والأدب .

وقد ابتدأ كريمر اول قصيدته كفراً ، حيث افترض مسبقاً انّ النظريتين ( الكونية ) و ( اللاهوتية ) ليستا سوى استنباط فكري من قبل العقل البشري السومري . وهو – رغم اعجابه الواضح واعترافه باشتراك هذه النظريات مع عقائد الأديان الإبراهيمية – الّا انه يرى أصلهما ناشئاً عن تأملات السومريين للطبيعة والكون وطريقة عملهما . فيقول : ( لقد طوّر السومريون خلال الألف الثالث قبل الميلاد افكاراً دينية ومفاهيم روحية تركت في العالم الحديث أثراً لا يمكن محوه ، وخاصة ما منها عن طريق الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام . فعلى المستوى العقلي استنبط المفكرون والحكماء السومريون ، كنتيجة لتأملاتهم في اصل وطبيعة الكون وطريقة عمله ، نظرية كونية واُخرى لاهوتية كانتا تنطويان على ايمان راسخ قوي بحيث أنهما اصبحتا العقيدة والمبدأ الاساسيين في اغلب أقطار الشرق الأدنى القديم )[12] .

انّ عبارة ( … كنتيجة لتأملاتهم في اصل وطبيعة الكون وطريقة عمله … ) ليست جزءاً من المادة الوثائقية الآثارية كما هو واضح ، إنما هي وجهة نظر شخصية من العلامة كريمر ، ناشئة عن تصوّر خاص انطلق منه في رؤيته للنص الآثاري ، وهو ما سنناقشه في الغالب ضمن البحث ، وسنتعامل مع التصوّرات المستندة الى الأسس العلمية الحديثة ، كما سنعتمد – كشرقيين اقرب الى الذهنية السومرية – الفلسفة الأكثر توافقاً مع ما ترسمه الوثيقة السومرية ، لاسيما حين نعي انّ المجتمع السومري كان متحضراً جداً ومتقدماً في المجال الفكري .

فكريمر – كنتيجة متوقعة لخلفيته الثقافية – لم يشأ ان يفترض – في احتمال معتد به وله ما يقويه من الاستدلالات – انّ هذه النظرية الكونية اللاهوتية السومرية الإبراهيمية المشتركة قادمة من اصل واحد ، هو الأصل السماوي ، بمعنى انّ كريمر انطلق في توصيفه من الارض ، في حين كان يُفترض ايضاً ان يجرِّب الانطلاق من السماء .

انّ ما يضعف التصور الافتراضي لكريمر هو انه لم يكشف لنا عن الالية التي انتقلت بها هذه العقائد من السومريين الى الديانات الإبراهيمية ، هل تم هذا الانتقال عن طريق اكتشاف مؤسسي هذه الديانات الكبرى لآثار السومريين والواحهم المكتوبة ، وهذا ما لا اعتقد ان كريمر يراه مناسباً ، او ان هذا الانتقال كان ذهنياً يسري عن طريق الاعتقاد الاجتماعي المتسلسل ، وهنا يمكننا الافتراض ايضاً بأنّ السومريين اخذوا معتقداتهم هذه عن طريق طرف ثالث سبقهم ولم نعرف حضارته بعد ، او انه السماء التي خاطبتهم جميعا .

ومن اجل مثال عملي لمدى تأثير الخلفية المعرفية المحدودة لكريمر جهة فهمه للنص السومري يمكننا استقطاع بعض من تفسيره لوجود المادة ( ليل = lil) في القاموس السماوي للسومريين : ( وكانوا – السومريون – يقرون بوجود مادة بين السماء والأرض أطلقوا عليها ” ليل = lil” وهي كلمة معناها التقريبي ، ريح ، هواء ، نفس ، روح ، ويبدو انّ اكثر خصائصها أهمية هي الحركة والامتداد ، ولذلك يضاهي بوجه التقريب كلمتنا ” الجو ” . وكان يعتقد ان الشمس والقمر والكواكب والنجوم مكونة من نفس مادة ” الجو ” الّا انها علاوة على ذلك وهبت قدرة على الإشراق . ويحيط بال ” سماء – ارض [13]” من جميع الجوانب ، بما في ذلك من الأعلى والأسفل ، البحر اللامتناهي الذي يظل فيه الكون ، بطريقة ما ، ثابتاً وبلا حركة )[14] .

لكن ماذا لو اعطينا هذه الصورة السومرية للكون الى فيزيائي مثل ( ستيفن هوكينج [15]) ، ماذا سيتبادر الى ذهنه حينها ، يمكننا معرفة ذلك من خلال احدى اعتقاداته القريبة جداً للرؤية السومرية : ( فلابد ان تشمل مجرتنا والمجرات الاخرى على كميات كبيرة من ” مادة داكنة ” لا يمكننا رؤيتها مباشرة لكننا نعلم انها لابد ان تكون هناك بناءً على التأثير الذي تمارسه قوى جاذبيتها على مدارات النجوم في المجرات الحلزونية ، مثل مجرتنا درب اللبانة ، فهذه النجوم تدور حول مجراتها بسرعة اكبر مما لو بقيت تظل في مداراتها تحت تأثير قوى جاذبية النجوم المرئية في المجرات فحسب . والى جانب ذلك فان معظم النجوم تشكل تجمعات ، الامر الذي يمكننا من التنبؤ بوجود كثير من ” المادة الداكنة ” فيما بين المجرات في هذه التجمعات ، وذلك بدراسة تأثيرها في حركة بعضها بعضا )[16] .

وفي الرؤية الدينية أورد القران الكريم ما نصّه ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ )[17] . وقد أورد المجلسي في بحار الأنوار ( ” بغير عمد ترونها ” قال الرازي : في قوله ” ترونها ” أقوال : … الثالث أن قوله ” ترونها ” صفة للعمد ، والمعنى : بغير عمد مرئية أي للسماوات عمد ولكنا لا نراها ، … وعندي فيه وجه آخر أحسن من الكل ، وهو أن العماد ما يعتمد عليه وقد دللنا على أن هذه الاجسام إنما بقيت واقفة في الجو العالي بقدرة الله فحينئذ يكون عمدها هو قدرة الله تعالى فصح أن يقال رفع السماوات بغير عمد ترونها أي لها عمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد هي إمساك الله تعالى وحفظه وتدبيره و إبقاؤه إياها في الجو العالي وأنتم لا ترون ذلك التدبير ولا تعرفون كيفية ذلك الامساك ” انتهى ” . واقول : هذا الوجه الاخير الذي يتبجح به ونسبه إلى نفسه أورده شيخنا الطبرسي ره في مجمع البيان راويا عن ابن عباس ومجاهد )[18] .

ولا نستغرب عدم استيعاب كريمر للرؤية العلمية السومرية للكون ، لأسباب منها : الافتراضات المسبقة التي ترى ان السومريين شعب بدائي ، وعدم استساغة ثبوت وجود نظريات علمية ضخمة في الازمان الغابرة ، وعدم معرفة كريمر لتنظيرات علم الفلك الحديث الذي انطلق في الفترة التي اعقبت إصداره لنصوصه .

ومن هنا نستطيع معرفة ان عبارة كريمر القائلة : ( لم يكن تحت تصرف الفلاسفة والمفكرين السومريين ، اذا تحدثنا من الناحية العملية سوى اكثر الأفكار بدائية وسطحية عن الطبيعة والكون وطريقة عمله )[19] تنطبق على كريمر وحده لا على الحكماء السومريين .

وهو لهذا لم يستطع حتماً تفسير نص سومري لم يحن اوان تفسيره في تلك الفترة من تاريخ المعرفة ، فكتب عن ( اصل وتركيب الكون ) عند السومريين قائلاً : ( ومن هذه الحقائق الاساسية المتعلقة بتركيب الكون – وهي حقائق كانت تبدو للمفكرين السومريين جلية لا جدال فيها – طوروا نظرية في اصل الكون تتلاءم معها . فقد استنتجوا بأنّ هناك أولاً ” البحر الاول ” . وتشير الدلائل الى انهم كانوا ينظرون الى ذلك البحر على انه اول سبب وأهم محرك ، ولم يسألوا أنفسهم قط عما قد سبق البحر في الزمان والمكان . وفي هذا ” البحر الاول ” ولد بطريقة ما الكون – اي ” السماء – ارض ” – المكون من قبة السماء التي وضعت فوق ارض منبسطة ومتصلة بها . الّا انه حلّ بينهما ” الجو [20]” المتحرك المتمدد الذي فصل السماء عن الارض وتولدت من هذا ” الجو ” المجموعة النيرة من الاجرام ، وهي القمر والشمس والكواكب والنجوم . وبعد فصل السماء عن الارض وخلق المجموعة النجمية المضيئة ظهرت الى الوجود الحياة النباتية والحيوانية والبشرية )[21] .

ومرة اخرى نرجع الى النظرية الكونية المعاصرة والقائمة على الأسس المعرفية الحديثة لنرى حكمها وتفسيرها للنص السومري : ( في الواقع تشترك جميع حلول معادلات أينشتاين التي تتضمن كمية المادة المرئية في الكون ، في شيء مهم واحد : في لحظة ما من الماضي ” منذ ١٣،٧ بليون سنة ” لابد ان تكون المسافة بين المجرات المتجاورة مساوية للصفر . وبعبارة اخرى كان العالم محصوراً في نقطة مفردة حجمها صفر ، مثل كرة نصف قطرها صفر ، في هذا الوقت كان لابد لكثافة العالم وتحدب الزمكان ان يكونا لانهائيين ، وهو الوقت الذي نطلق عليه ” الانفجار الكبير ” ” TheBigBang” )[22] .

فيما يقول ريتشارد موريس : ( وأود إذن ان اؤكد على ان البرهان على ان الكون قد بدأ بانفجار كبير منذ ما يقرب من خمسة عشر الف مليون سنة ، ما زال يبدو برهاناً ساحقا )[23] .

ومن هنا نرى ان السومريين كانوا اعرف من كريمر بقصة تشكّل الكون ونشأته ، وفقاً لشهادة العلم الحديث ، والتي تلت الحقبة العلمية التي عمل فيها هذا الباحث . وهو الامر الذي يتناسب مع عقيدة الأديان الإبراهيمية حول اصل الكون ، لهذا نجد ايضاً انّ ( البحر الاول ) كان له في الكتب السماوية المقدسة ذكر ايضاً : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ )[24].

وفي خطبة لعلي بن ابي طالب في نهج البلاغة ورد في وصف بدء الخلق : ( أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَلَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا وَلَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَلَا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا أَحَالَ الْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَلَأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وَغَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَأَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَانْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَأَحْنَائِهَا ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الْأَجْوَاءِ وَشَقَّ الْأَرْجَاءِ وَسَكَائِكَ الْهَوَاءِ فَأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلَاطِماً تَيَّارُهُ مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ وَالزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ وَسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَقَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ وَالْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا وَأَدَامَ مُرَبَّهَا وَأَعْصَفَ مَجْرَاهَا وَأَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ وَإِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ وَعَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ تَرُدُّ أَوَّلَهُ إِلَى آخِرِهِ وَسَاجِيَهُ إِلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ وَرَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَجَوٍّ مُنْفَهِقٍ فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ جَعَلَ سُفْلَاهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً وَعُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَسَمْكاً مَرْفُوعاً بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَلَا دِسَارٍ يَنْظِمُهَا ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ وَضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ وَأَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَقَمَراً مُنِيراً فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَسَقْفٍ سَائِرٍ وَرَقِيمٍ مَائِرٍ )[25] .

والسومريون لم يسألوا أنفسهم ( عما قد سبق البحر في الزمان والمكان ) – كما عبّر كريمر – لأنهم ربما كانوا يحملون ذات العقيدة التي حملها المسلمون من وجود خالق واحد أفاض هذا الكون برمته . وهو ما أشار اليه القران الكريم في قوله : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ )[26] .

وبالتالي ليست هذه النظرية فريدة وحيدة في شعب سومر ، بل اتفقت مع الرؤية العلمية للقرن الواحد والعشرين كما أثبتنا ، وكذلك مع الاعتقاد الاسلامي المحض الذي مثَّله علي بن ابي طالب . ولا تجتمع هذه الرؤى الثلاث بمحض الصدفة طبعاً ، ولا يمكن القول ان المسلمين قد عثروا على الألواح السومرية قبل كريمر ، او انّ العلم الحديث أخذ عنهم جميعا ، بل من الواضح انّ السومريين والمسلمين اخذوا عن جهة عالمة ، فيما أخذ العلم الحديث بالأسباب الطبيعية للمعرفة ، فكانت المحصلة انّ نظرية السومريين حول نشأة الكون أسمى مما يعرفه مترجم حضارتهم العلّامة كريمر .

بقي انّ الماء هو الأصل الذي انبثقت عنه معالم الكون في عقيدة السومريين والمسلمين ( وروح الله يرفّ على وجه المياه )[27] ، لكنّ وجوده وماهيته وكيفية كونه أصلاً لم تثبت الى الان من جهة العلم الحديث ، وهو امر ليس بالمشكل كثيراً ، فالعلم الحديث لم يكن يعرف وجوداً لنظرية الانفجار العظيم ذاتها قبل عام ١٩٢٧ حين قدّم الكاهن الكاثوليكي البلجيكي ( جورج لومتر ) فرضيته الى المحافل العلمية ، لتعزز لاحقاً باكتشافات العالم ( إدوين هابل[28] )[29] ، وبالتالي قد نجد العلم مستقبلاً موافقاً للسومريين والمسلمين في نظرية ( الأصل المائي ) .

بانثيون[30] الأصنَمة الكريمرية لوجودات الولاية التكوينية والملائكة في العقيدة السومرية :

لم نكن نتوقع من الخلفية الثقافية للعلامة كريمر الناشئة على أساسين عقيديين هما الانتماء اليهودي[31] والتنشئة الغربية ذات الجذور الوثنية والحس المادي ان تستوعب الرؤية الدينية السومرية للنظام الكوني وانسجامه ، التي عبّر عنها كريمر بالنص الآتي : ( وكان رجال الدين السومريون يفترضون ان تشغيل وإدارة الكون ومراقبته يقوم بها مجمع الهة يتألف من مجموعة من الكائنات الحية تشبه الانسان شكلا ولكنها فوق البشر وخالدة ، وهي على الرغم من انها لا ترى بعين الانسان الفاني ، كانت تسير الكون وتسيطر عليه وفقا لخطط وضعت بدقة وبقوانين معينة . ان عوالم السماء والأرض والبحر والهواء العظيمة والعناصر النجمية الكبرى ، والشمس والقمر والكواكب ، والقوى الجوية كالريح والعاصفة والزوبعة ، وأخيرا على الارض ، والذاتيات الحضارية كالمدينة والدولة والسد و الخندق والحقل والمزرعة، وحتى الأدوات كالفأس وقالب الآجر والمحراث – كان كل واحد منها على ما يعتقد برعاية احد من تلك الكائنات المتخيلة على انها فوق البشر ، وكان هذا الكائن الراعى يوجه فعالياته وفقا للقواعد والانظمة الثابتة )[32] .

لذلك كان من الطبيعي ان يرى كريمر هذه العقيدة السومرية بنحو اخر ، غير الذي تراه العين العراقية التي ورثت الفكر السومري ، فنجده يقول : ( ويكمن وراء فرضية العالم اللاهوتي السومري البديهية هذه ، بلا شك ، استنتاج منطقي ، وان لم يكن قد وضع بوضوح ، لان ذلك اللاهوتي لم ير أياً من الكائنات الشبيهة بالبشر . ولعل عالمنا اللاهوتي أخذ دلالة من المجتمع البشري كما كان يعرفه وسار في استنتاجه من المعلوم الى المجهول ، فقد لاحظ ان البلدان والمدن والقصور والمعابد والحقول والمزارع ، وباختصار ، جميع ما يمكن تصوره من المؤسسات والمشاريع ، انما ترعى شؤونها وتشرف عليها وتسيرها وتسيطر عليها كائنات حية من البشر ، ولولا هذه الكائنات المسيطرة لأقفرت البلدان والمدن ، ولتداعت المعابد والقصور وتحولت الحقول والمزارع الى صحراء وقفر . وعلى هذا كان من المؤكد بالنسبة لهم ان يكون للكون ومظاهره المتعددة ايضا كائنات حية على هيئة البشر تسيرها وتسيطر عليها . ولكن لما كان الكون اكبر جدا من جميع مواطن البشر ، وتنظيمه اكثر تعقيدا فإنّه يجب كما هو واضح ان تكون هذه الكائنات الحية أقوى كثيرا من البشر العاديين وأكثر فعالية منهم ، ويجب فوق كل شيىء ، ان تكون خالدة ، والّا فان الكون سيؤول الى فوضى عند وفاتها وتحل عندئذ نهاية العالم ، وهذان بديلان لا يستسيغهما لأسباب واضحة عالم ما وراء الطبيعة السومري )[33] .

انّ هذه القراءة الكريمرية شأن شخصي ، خاص به وحده ، وليست مرتبطة بحقيقة الوثائق الآثارية السومرية ، لأن هذه الوثائق تعاني اثار الاضطراب العالمي العام في ترجمة مختلف النصوص ، من حيث ان فهم النصوص الآثارية ظنِّي ، مبني على التصور الخاص بالباحث ، في إجادته لقراءة النص ، وفي المعيته التي تمكنه من جمع أطراف النص الواحد ، ومن ثم أطراف العقيدة المبثوثة في نصوص متفرقة زمانياً ومكانياً ، وفي خلفيته الثقافية التي تساعده في ادراك المعنى الحقيقي الذي اراده كاتب او مدون الوثيقة الآثارية . لذا نحن كعراقيين لنا قراءة اخرى ، اكثر تقدماً ومنطقية ، من القراءة الكريمرية للنص الآثاري .

وَمِمَّا يزيدنا قناعة بضعف الدلالات التي دونها كريمر قوله في صفحة ١٥١ من كتابه : ( لقد عبر السومري عن كل كائن من هذه الكائنات غير المرئية والشبيهة بالإنسان ، التي كانت في الوقت نفسه فوق البشر وخالدة ، بكلمة ” دنجير = dingir ” التي نترجمها الى كلمة ” اله ” ) . وهي عبارة واضحة الارتباك ، حيث قال انه ( يترجمها ) لا انها الترجمة الناشئة عن حقيقة معرفية . وبالتأكيد فإنّ هذه الترجمة غير منطقية اذا اخذنا عبارة آثارية مثل ( ثم صعد ” انليل ” الى السفينة ومسكني من يدي واركبني معه في السفينة ، وأركب معي ايضاً زوجي وجعلها تسجد بجانبي ، ثم وقف ما بيننا ولمس ناصيتينا وباركنا قائلاً : لم يكن ” اوتو – نبشتم ” قبل الان سوى بشر ، ولكن منذ الان سيكون ” اوتو – نبشتم ” وزوجه مثلنا نحن الآلهة )[34] ، حيث ان ( اوتو – نبشتم ) امّا يكون إلهاً ابتداءً او لا يكون مطلقاً ، وبالتالي فترجمة هذه الكلمة – التي جعلت حضارة كاملة وثنية بسبب الخطأ في ترجمتها – لا يعدو معنى ( القداسة ) او ( النبوة ) او ( الولاية ) .

انّ هذه الرؤى العقائدية السومرية ليست الّا نسخة متقدمة في التاريخ لعقيدة ( الولاية التكوينية ) الاسلامية ، التي يؤمن بها ( الشيعة ) في العالم وفي العراق خاصة ، كما انّ هذه المخلوقات القائمة على كل مظهر مادي في الكون ليست سوى ( الملائكة ) في المعتقدات الخاصة بالديانات الإبراهيمية .

ومصطلح ( الولاية التكوينية ) مركّب من مفردتين : الولاية ، والتكوينية ، فإما مفردة التكوينية فهي مأخوذة ومشتقة من الكون . والكون معناه اللغوي هو الحدث[35] . تقول : كوّنه فتكوّن ، اي : احدثه فحدث . وهذا يعني بأنّ مفردة ( التكوين ) مساوقة لمفردة ( الإحداث والإيجاد ) ، وهذا المعنى اللغوي هو مقصود القائلين بالولاية التكوينية اصطلاحاً : لانها تعني عندهم قدرة المعصوم على الإحداث في الكون [36] . انّ الولاية التكوينية بحسب المعنى اللغوي تعني انّ للمعصوم جهة قرب من القضايا والأمور الكونية ، بحيث تكون له السلطنة على إحداثها وتكوينها[37] .

كما انّ هذا التعدد الهائل في ( المخلوقات ) المشرفة على كل شيء وكل حدث في الكون افراط واضح يزيد عن التصورات الذهنية القائمة على الحاجات النفسية للشعوب الوثنية ، التي افترض كريمر انّ السومريين منهم ، حيث يكاد يكون لا نهائي ، وهو امر يصعب تصديق انّ السومري المتحضر يؤمن به .

لكن الحقيقة انّ المعتقد السومري كان يؤمن ويفكر بما تؤمن وتفكر به الديانات الإبراهيمية من نظام ( الملائكة ) .

و الملائكة مفهوم ديني مصداقه القوانين التي تتحكم في مجريات الكون ، فالعقلية التي نزل القران في زمانها لم تكن لتستسيغ مفهوم القانون الفيزيائي ، كما انّ العقلية المعاصرة لا تزال بعيدة عن فهم حقيقة وكنه القوانين الحاكمة في الكون المنسجم والمترابط ، ولم يستطع العلم سوى توصيف العلاقات على هذه القوانين .

لقد رُبط وجود الملائكة بالعرش ، والعرش هو أصل كل شيء أنار بنور الله . قال علي بن ابي طالب : ( إن العرش خلقه الله تعالى من أنوار أربعة: نور أحمر، منه احمرت الحمرة، ونور أخضر منه اخضرت الخضرة، ونور أصفر منه اصفرت الصفرة، ونور أبيض منه [ ابيض ] البياض، وهو العلم الذي حمله الله الحملة وذلك نور من عظمته، فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة، بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة، فكل محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فكل شيء محمول والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما من شيء، وهو حياة كل شيء ونور كل شيء، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً )[38] .

والعرش هو المقترن بتدبير الامر ، حيث يقول تعالى ( ان ربكم الله الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والارضَ في ستةِ ايامٍ ثمّ استوى على العرش يُدبّرُ الامرَ )[39] . وقرن الله تعالى عمل الملائكة بتدبير الامر ، وقد أشار جلّ جلاله الى ذلك حين قال ( فالمقسمات أمرا )[40] ، حيث قال صاحب تفسير ( الميزان ) : ( وقوله : ” فالمقسمات أمرا ” عطف على ما سبقه وإقسام بالملائكة الذين يعملون بأمره فيقسمونه باختلاف مقاماتهم فان امر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد فإذا حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الامر وتقسم بتقسمهم ثم اذا حمله طائفة هي دون الطائفة الاولى تقسم ثانيا بتقسمهم وهكذا حتى ينتهي الى الملائكة المباشرين للحوادث الكونية الجزئية فينقسم بانقسامها ويتكثر بتكثرها )[41] . ويمكن ادراج قوله تعالى ( فالمدبرات أمرا )[42] في هذا المعنى ، حيث ذكر صاحب الميزان انها في الملائكة ايضا ، ( تَنَزَّل الملائكة والروح فيها بأذن ربهم من كلّ امر ) .

وَمِمَّا يؤيد هذا الدور العملي في الخلق للملائكة ان الله تعالى جعل انقضاء الامر مقرونا بهم ، حيث قال تعالى ( ما نُنزّلُ الملائكةَ الا بالحقِّ وما كانوا إذاً مُنظَرين )[43] ، و قال ايضا جلّ شأنه ( يوم يَرَوْن الملائكةَ لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا )[44] ، و ( ويوم تشقق السماءُ بالغمام ونُزّلَ الملائكةُ تنزيلا ) ، و ( هل ينظرون الا ان يأتيهم الله في ظُلَلٍ من الغمامِ والملائكةُ وقُضِيَ الامر والى الله تُرجعُ الأمور )[45] .

ومن لطيف التعبير القرآني عن عمل الملائكة هو قوله تعالى ( له مُعقّبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من امر الله إِنّ اللَّهَ لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم وإذا أراد اللهُ بقومٍ سوءاً فلا مَردّ له وما لهم من دونه من وال )[46] ، حيث اقرت الآية ما نريد من كون الملائكة يعملون كقوانين تحفظ الانسان من الأوامر الكونية لله .

انّ المقصود من مفردة ( أمر ) في هذه الآيات هو ذاته الذي ورد في آية ( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وأوحى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ )[47] بمعنى ( قانونها ) .

لقد كانت التسمية التي أطلقها العلامة كريمر على الموجودات المقدسة عند السومرية ( مجمع الآلهة = البانثيون ) محض انعكاس لصورة الديانة الرومانية الوثنية في عقله ، فهذه الصورة كانت الوحيدة التي تتوفر في ذهنه ، لأنه لم يكن مطلقاً مستوعباً او قارئاً لعقيدة ورثة المجتمع السومري من شيعة العراق . اذ لولا ما يختزنه العراقيون من ذاكرة عقائدية تقرّ بالولاية التكوينية لما اختار علي بن ابي طالب ارضهم مقراً لعقيدة ( الإمامة ) .

من هنا لم يكن الرأي التفسيري عند كريمر متجاوزاً ما يختزنه من معرفة سطحية محدودة في مجال العقائد ، لهذا نجده يقول : ( ورب سائل يسأل ، كيف كان يعمل هذا المجمع الالهي ؟ أولاً : كان يبدو من المعقول بالنسبة للسومري ان يفترض بان الآلهة التي تؤلف المجمع الالهي ” البانثيون ” لم تكن جميعها بنفس الأهمية او من منزلة متساوية . فلم يكن من المنتظر ان يقارن الاله الموكل بالفأس او قالب الاجر مع الاله الموكل بالشمس ، كما لم يكن متوقعا ان يكون الاله الموكل بالسدود والجداول مساويا في المنزلة للإله الموكل بالأرض كلها ، ومن ثم ، بالقياس على التنظيم السياسي في الدولة البشرية ، كان طبيعيا ايضا الافتراض بانه كان على راس المجمع الالهي اله اعترفت به جميع الآلهة الاخرى كملك وحاكم عليها. وعلى هذا كان يتصور بان مجمع الآلهة السومري يعمل على هيئة مجلس يقوم على رأسه ملك )[48] .

وهذه التراتبية التي يقرأها كريمر خطأً منذ البدء – بترجمته للكلمة دنجير بمعنى اله وهي تعني الشيء المقدس واقعاً – ليست سوى تراتبية ( النور ) في عقيدة الشيعة الامامية ، بمعنى انه كان هناك نور رسول الله محمد في البدء ، وبه ومن خلاله الإفاضة ، ثم نور علي بن ابي طالب ، الذي كان كنفس رسول الله ، ثم نور الزهراء فاطمة وباقي الأئمة المعصومين .

في كتاب ( بحار الأنوار ) أورد : [ – الحاكم أحمد بن محمد بن عبدالرحمن المروزي ، عن محمد بن إبراهيم الجرجاني عن عبدالصمد بن يحيى الواسطي ، عن الحسن بن علي المدني ، عن عبدالله بن المبارك ، عن سفيان الثوري ، عن جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام أنه قال : إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد صلى الله عليه وآله قبل أن خلق السماوات والارض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار وقبل أن خلق آدم ونوحا وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وداود وسليمان عليهم السلام وكل من قال الله عزوجل في قوله : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب ) إلى قوله : ( وهديناهم إلى صراط مستقيم ) وقيل أن خلق الانبياء كلهم بأربع مائة ألف سنة وأربع وعشرين ألف سنة ، وخلق عز وجل معه اثني عشر حجابا : حجاب القدرة ، وحجاب العظمة ، وحجاب المنة ، و حجاب الرحمة ، وحجاب السعادة ، وحجاب الكرامة ، وحجاب المنزلة ، و حجاب الهداية ، وحجاب النبوة ، وحجاب الرفعة ، وحجاب الهيبة ، وحجاب الشفاعة . ثم حبس نور محمد صلى الله عليه وآله في حجاب القدرة اثني عشر ألف سنة ، وهو يقول : ( سبحان ربي الاعلى ) وفي حجاب العظمة إحدى عشر ألف سنة ، وهنو يقول : ( سبحان عالم السر ) وفي حجاب المنة عشرة آلاف سنة ، وهو يقول : ( سبحان من هو قائم لا يلهو ) وفي حجاب الرحمة تسعة آلاف سنة ، وهو يقول : ( سبحان الرفيع الاعلى ) وفي حجاب السعادة ثمانية آلاف سنة وهو يقول : ( سبحان من هو دائم لا يسهو ) وفي حجاب الكرامة سبعة آلاف سنة ، وهو يقول : ( سبحان من هو غني لا يفتقر ) وفي حجاب المنزلة ستة آلاف سنة ، وهو يقول : ( سبحان العليم الكريم وفي حجاب الهداية خمسة آلاف سنة ، وهو يقول : ( سبحان ذي العرش العظيم ) وفي حجاب النبوة أربعة آلاف سنة وهو يقول : ( سبحان رب العزة عما يصفون ) وفي حجاب الرفعة ثلاثة آلاف سنة ، وهو يقول : ( سبحان ذي الملك والملكوت ) وفي حجاب الهيبة ألفي سنة ، وهو يقول : ( سبحان الله وبحمده ) وفي حجاب الشفاعة ألف سنة ، وهو يقول : ( سبحان ربي العظيم وبحمده ) ثم أظهر اسمه على اللوح فكان على اللوح منورا أربعة آلاف سنة ، ثم أظهره على العرش فكان على ساق العرش مثبتا سبعة آلاف سنة ، إلى أن وضعه الله عزوجل في صلب آدم عليه السلام ، ثم نقله من صلب آدم عليه السلام إلى صلب نوح عليه السلام ، ثم من صلب إلى صلب حتى أخرجه الله عز وجل من صلب عبدالله بن عبدالمطلب ، فأكرمه بست كرامات : ألبسه قميص الرضا ، ورداه برداء الهيبة ، وتوّجه بتاج الهداية ، وألبسه سراويل المعرفة ، وجعل تكته تكة المحبة ، يشد بها سراويله ، وجعل نعله نعل الخوف ، وناوله عصا المنزلة . ثم قال : يا محمد اذهب إلى الناس فقل لهم : قولوا : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . وكان أصل ذلك القميص من ستة أشياء : قامته من الياقوت ، وكماه من اللؤلؤ ، ودخريصة من البلور الاصفر ، وإبطاه من الزبرجد ، وجربانه من المرجان الاحمر ، وجيبه من نور الرب جل جلاله ، فقبل الله عزوجل توبة آدم عليه السلام بذلك القميص ، ورد خاتم سليمان عليه السلام به ورد يوسف عليه السلام إلى يعقوب عليه السلام به ، ونجى يونس عليه السلام من بطن الحوت به ، وكذلك سائر الانبياء عليهم السلام أنجاهم من المحن به ، ولم يكن ذلك القميص إلا قميص محمد صلى الله عليه وآله .

– بيان : قوله : ( ثم حبس نور محمد صلى الله عليه وآله ) ليس الغرض ذكر جميع أحواله صلى الله عليه وآله في الذر لعدم موافقة العدد بل قد جرى على نوره أحوال قبل تلك الاحوال أو بعدها أو بينها لم تذكر في الخبر .

– عن جعفر بن محمد الفزاري بإسناده عن قبيصة بن يزيد الجعفي قال : دخلت على الصادق عليه السلام وعنده ابن ظبيان والقاسم الصيرفي ، فسلمت وجلست وقلت : يا ابن رسول الله أين كنتم قبل أن يخلق الله سماء مبنية ، وأرضا مدحية أو ظلمة أو نورا قال : كنا أشباح نور حول العرش ، نسبح الله قبل أن يخلق آدم عليه السلام بخمسة عشر ألف عام ، فلما خلق الله آدم عليه السلام فرغنا في صلبه ، فلم يزل ينقلنا من صلب طاهر إلى رحم مطهر حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله الخبر .

– جعفر بن محمد بن بشرويه القطان ، بإسناده عن الاوزاعي ، عن صعصعة بن صوحان والاحنف بن قيس ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : خلقني الله نورا تحت العرش قبل أن يخلق آدم عليه السلام باثني عشر ألف سنة ، فلما أن خلق الله آدم عليه السلام ألقى النور في صلب آدم عليه السلام فأقبل ينتقل ذلك النور من صلب إلى صلب حتى افترقنا في صلب عبدالله بن عبدالمطلب وأبي طالب ، فخلقني ربي من ذلك النور لكنه لا نبي بعدي .

– إبراهيم بن هارون ، عن محمد بن أحمد بن أبي الثلح ، عن عيسى بن مهران ، عن منذر الشراك ، عن إسماعيل بن علية ، عن أسلم بن ميسرة العجلي ، عن أنس بن مالك ، عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : إن الله خلقني وعليا و فاطمة والحسن والحسين من قبل أن يخلق الدنيا بسبعة آلاف عام ، قلت : فأين كنتم يا رسول الله ؟ قال : قدام العرش ، نسبح الله ونحمده ونقدسه ونمجد ، قلت : على أي مثال : قال : أشباح نور ، حتى إذا أراد الله عزوجل أن يخلق صورنا صيرنا عمود نور ، ثم قذفنا في صلب آدم ، ثم أخرجنا إلى اصلاب الآباء وأرحام الامهات ، ولا يصيبنا نجس الشرك ، ولا سفاح الكفر ، يسعد بنا قوم ويشقى بنا آخرون ، فلما صيرنا إلى صلب عبد المطلب أخرج ذلك النور فشقه نصفين ، فجعل نصفه في عبدالله ، ونصفه في أبي طالب ، ثم أخرج الذي لي إلى آمنة ، والنصف إلى فاطمة بنت أسد ، فأخرجتني آمنة ، وأخرجت فاطمة عليا ، ثم أعاد عزوجل العود إلي فخرجت مني فاطمة ، ثم أعاد عز وجل العمود إلى علي فخرج منه الحسن والحسين يعني من النصفين جميعا فما كان من نور علي فصار في ولد الحسن ، وما كان من نوري صار في ولد الحسين ، فهو ينتقل في الائمة من ولده إلى يوم القيامة .

– جعفر بن محمد الاحمسي بإسناده عن أبي ذر الغفاري ، عن النبي صلى الله عليه وآله في خبر طويل في وصف المعراج ساقه إلى أن قال : قلت : يا ملائكة ربي هل تعرفونا حق معرفتنا ، فقالوا : يا نبي الله وكيف لا نعرفكم وأنتم أول ما خلق الله ؟ خلقكم أشباح نور من نوره في نور من سناء عزه ، ومن سناء ملكه ، ومن نور وجهه الكريم ، وجعل لكم مقاعد في ملكوت سلطانه ، وعرشه على الماء قبل أن تكون السماء مبنية ، والارض مدحية ، ثم خلق السماوات والارض في ستة أيام ، ثم رفع العرش إلى السماء السابعة فاستوى على عرشه وأنتم أمام عرشه تسبحون وتقدسون وتكبرون ، ثم خلق الملائكة من بدء ما أراد من أنوار شتى ، وكنا نمر بكم وأنتم تسبحون وتحمدون وتهللون وتكبرون وتمجدون و تقدسون ، فنسبح ونقدس ونمجد ونكبر ونهلل بتسبيحكم وتحميدكم وتهليلكم وتكبير كم وتقديسكم وتمجيدكم ، فما انزل من الله فإليكم وما صعد إلى الله فمن عندكم ، فلم لا نعرفكم ؟ اقرأ عليا منا السلام وساقه إلى أن قال : ثم عرج بي إلى السماء السابعة ، فسمعت الملائكة يقولون لما أن رأوني : الحمد لله الذي صدقنا وعده ، ثم تلقوني وسلموا علي ، وقالوا لي مثل مقالة أصحابهم ، فقلت : يا ملائكة ربي سمعتكم تقولون : الحمد لله الذي صدقنا وعده ،فما الذي صدقكم ؟ قالوا : يا نبي الله إن الله تبارك وتعالى لما أن خلقكم أشباح نور من سناء نوره ومن سناء عزه ، وجعل لكم مقاعد في ملكوت سلطانه عرض ولايتكم علينا ، ورسخت في قلوبنا ، فشكونا محبتك إلى الله ، فوعد ربنا أن يريناك في السماء معنا ، وقد صدقنا وعده .

– الحسين بن حمدان ، عن الحسين المقري الكوفي ، عن أحمد بن زياد الدهقان عن المخول بن إبراهيم ، عن رشدة بن عبدالله ، عن خالد المخزومي ، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه في حديث طويل قال : قال النبي صلى الله عليه وآله : يا سلمان فهل علمت من نقبائي ومن الاثنا عشر الذين اختارهم الله للإمامة بعدي ؟ فقلت : الله ورسوله أعلم ، قال : يا سلمان خلقني الله من صفوة نوره ودعاني فأطعت ، وخلق من نوري عليا فدعاه فأطاعه ، وخلق من نوري ونور علي فاطمة فدعاها فأطاعته ، وخلق مني ومن علي وفاطمة الحسن و الحسين فدعاهما فأطاعاه ، فسمانا بالخمسة الاسماء من اسمائه : الله المحمود وأنا محمد ، والله العلي وهذا علي ، والله الفاطر وهذه فاطمة ، والله ذو الاحسان وهذا الحسن ، والله المحسن وهذا الحسين ، ثم خلق منا من صلب الحسين تسعة أئمة فدعاهم فأطاعوه قبل أن يخلق الله سماء مبنية ، وأرضا مدحية ، أو هواء أو ماء أو ملكا أو بشرا ، وكنا بعلمه نورا نسبحه ونسمع ونطيع . ][49] .

وما يؤيد طرحنا هذا ما ذكره كريمر في كتابه من قوله : ( وكانت اهم مجموعات هذا المجلس هي المجموعة المؤلفة من الآلهة السبعة التي (( تقدر المصائر )) ، ثم مجموعة الخمسين إلهاً التي عرفت ب(( الآلهة العظيمة )) . ولكن اهم تقسيم وضعه رجال الدين السومريون داخل مجمع الهتهم هو ذلك التقسيم الذي يميز بين الآلهة الخلاقة وغير الخلاقة ، وهو تصور توصلوا اليه نتيجة لآرائهم في اصل الكون . فبموجب هذه الآراء كانت العناصر الاساسية التي تكون الكون ، هي السماء والأرض والبحر والجو ، وكل ظاهرة كونية اخرى لا توجد الّا ضمن هذه العوالم . وعلى هذا كان من المعقول ان يستنتجوا ان الآلهة التي تسيطر على السماء والأرض والبحر والجو كانت هي الآلهة الخالقة ، وان كل ظاهرة كونية اخرى خلقت من قبل احد الآلهة الأربعة وفقا لخطط وضعت بالأصل من قبلهم )[50] . حيث انّ تقسيم الموجودات المتحكمة في الكون الى قسمين أساسيين : الخلّاقة ، وغير الخلّاقة ، هو ذاته التقسيم الشيعي الإمامي من حيث الأئمة المعصومين وولايتهم التكوينية ، ومن حيث الملائكة العاملين كقوانين وحفظة .

عن تفسير القمي : ( سئل الصادق عليه السلام : هل الملائكة اكثر ، ام بنو آدم ؟ فقال : والذي نفسي بيده ، لملائكة الله في السماوات اكثر من عدد التراب في الارض ، وما في السماء موضع قدم الّا وفيه ملك يسبّحه ويقدّسه ، ولا في الارض شجرة ولا عودة الّا وفيها ملك موكل بها ، يأتي الله كل يوم بعملها ، والله اعلم بها ، وما منهم واحد الّا ويتقرب الى الله كل يوم بولايتنا أهل البيت ، ويستغفر لمحبينا ، ويلعن اعدائنا ، ويسألون الله ان يرسل عليهم العذاب إرسالا )[51].

وكما هو جلي من هذه الرواية انّ الملائكة تعمل كقوانين حاكمة في الموجودات ، وهي ذاتها تقوم في وجودها على ولاية الأئمة المعصومين ، بمعنى هو ذاته التقسيم السومري لتراتبية الموجودات العليا . فيما يكون للمعصومين ذاتهم تراتبية خاصة ، تبتدأ برسول الله ، ثم علي بن ابي طالب ، ثم باقي المعصومين .

وما يؤكد قراءتنا هذه وجود ( نينخورساج = الام ) التي هي ( ننماخ = السيدة المجيدة ) , والتي يسميها السومريون ( ننتو = السيدة التي انجبت ) حيث والدة جميع ( الآلهة )[52] . وقطعا سيتبادر الى ذهن علماء وفلاسفة الامامية اليوم ( السيدة فاطمة الزهراء = سيدة نساء العالمين ) , والتي كانت مصدرا لانوار ( الائمة ) الموكلة اليهم ( الولاية التكوينية ) , ولعل ما جاء في ( الاسرار الفاطمية ) نقلاً عن ( البحار ٤٣ \ ١٠٥ ) مؤيداً لمذهبنا هذا : ( قال الصادق عليه السلام : وهي الصدّيقة الكبرى ، وعلى معرفتها دارت القرون الاولى ) , وبنفس المعنى بيت للشيخ المجتهد ( محمّد حسين الأصفهاني ) في قصيدته (الأنوار القدسيّة ) : ( وحــــبها مـــن الصفات العاليـة * عليــه دارت الـــــقرون الخاليـة ) .

وفي دليل اخر على المستوى المعرفي ( العلمي ) البسيط لدى كريمر ، وكذلك الرواسب السوسيولوجية الحاكمة على ذهنه ، نراه يتناول الإقرار السومري بانضباط وحاكمية القوانين الكونية بنحو من التكلف ، تجاوز فيه منطقية العبارة السومرية ، واحتكم الى مزاجه الخاص لتحميل الرؤية المعرفية السومرية ما لم تقل به ، فقال : ( وبأسلوب مماثل قدم رجال اللاهوت السومريون ما كان بالنسبة لهم استنتاجا غيبيا مقنعا لتوضيح السبب الذي كان يجعل الذاتيات الكونية والظواهر الحضارية بعد ان تخلق تعمل باستمرار وانسجام دون تصادم او اضطراب . لقد كانت هذه هي الفكرة التي عبرت عنها الكلمة السومرية (( مي )) (me) التي لا يزال معناها الدقيق مشكوكا فيه ، ولكنها تشير بوجه العموم على ما يبدو الى مجموعة من الأحكام والقواعد التي خصصت لكل ذاتية كونية وظاهرة حضارية للإبقاء عليها عاملة الى الأبد بمقتضى الخطط التي وضعت من قبل الاله الذي خلقها . وهذا باختصار جواب سطحي اخر ، ولكنه لم يكن ، كما هو واضح ، بلا تأثير مقنع عن مشكلة كونية مستعصية ، انه جواب لا يعنى سوى اخفاء المشاكل الاساسية عن الرؤية تحت طبقة من كلمات لا معنى لها على الأكثر ) . وهذا الهذر اللاعلمي من كريمر لا يستند أبداً الى نص وثائقي او معرفي يكشف عن مراد السومريين الحقيقي من هذه المفردة ، ولا عن واقع رؤيتهم لها ، التي ربما تكون – ولا نستطيع نحن او كريمر نفي هذا الاحتمال – قائمة على أسس علمية بحتة لم تصلنا منهم بعد .

انّ القوانين وانضباطها في الكون والطبيعة مثار إعجاب علماء ومتخصصي العصر الحديث ، والذين عاصروا او اعقبوا ( صموئيل نوح كريمر ) ، واعتقاد هؤلاء العلماء هو ذاته الذي اعتقده العلماء السومريون من انتظام وحاكمية للقوانين ، التي جعلوا لها رموزاً تختص بفهمهم ، ولم يفهمها العلامة كريمر فحمّلها ما لا تطيق من السطحية .

يقول عالم الطبيعة والفيلسوف ( ميريت ستانلي كونجدن[53] ) : ( نستطيع بطريقة الاستدلال والقياس بقدرة الانسان وذكائه ، في عالم يفيض بالأمور العقلية ، ان نصل الى وجوب وجود قوة مسيطرة مدبرة تدير هذا الكون وتدبر اموره وتعيننا على فهم ما يغمض علينا من امر منحنيات التوزيع ، ودورة الماء في الطبيعة ، ودورة ثاني أوكسيد الكاربون فيها ، وعمليات التكاثر العجيبة ، وعمليات التمثيل الضوئي ذات الأهمية البالغة في اختزان الطاقة الشمسية ومالها من أهمية بالغة في حياة الكائنات الحية ، وما لا يحصى من عجائب هذا الكون . اذ كيف يتسنى لنا ان نفسر هذه العمليات المعقدة المنظمة تفسيراً يقوم على أساس المصادفة والتخبط العشوائي ؟ وكيف نستطيع ان نفسر هذا الانتظام في ظواهر الكون والعلاقات السببية ، والتكامل ، والغرضية ، والتوافق ، والتوازن ، التي تنتظم سائر هذه الظواهر وتمتد اثارها من عصر الى عصر )[54] .

امّا عالم الكيمياء ( جون كليفلاند كوثران[55] ) فيقول : ( قال لورد كيلفي – وهو من علماء الطبيعة البارزين – هذه العبارة القيمة : ” اذا فكرت تفكيراً عميقاً فإنّ العلوم سوف تضطرك الى الاعتقاد في وجود الله ” ولابد ان أعلن موافقتي كل الموافقة على العبارة . ان ملاحظة الكون ملاحظة تقوم على الخبرة والذكاء وتدبر ما نعرفه عنه من جميع النواحي سوف تقودنا الى التسليم بوجود ثلاثة عوالم من الحقائق ، هي العالم المادي ” المادة ” ، والعالم الفكري ” العقل ” ، والعالم الروحي ” الروح ” )[56] .

ولزيادة الاطلاع على العلاقة الواسعة بين المعتقد السومري وبين المعتقد التوحيدي للأديان الإبراهيمية يمكن قراءة كتاب ( الأنبياء في العراق [57]) للدكتور ( رعد شمس الدين الگيلاني ) ، الذي يمكن عدّه خطوة متقدمة في هذا المجال ، مع التحفظ على بعض ما جاء فيه ، لأنه في النهاية جهد بشري قابل للتصويب . وَمِمَّا جاء في خاتمة هذه الدراسة الضخمة التي تضمنها الكتاب : ( لقد كان دور وادي الرافدين عظيماً عبر التاريخ ، فإنّ اول النبوات والرسالات كانت على ارضه ، وانّ اول الحضارات قامت على ارضه ، ولابد لهذا التاريخ الذي شغل الناس والمفكرين والفلاسفة من ان يكون إرهاصا من ارهاصات الدور القادم لهذا المكان من العالم في المستقبل القادم الذي لن يكون بعيدا )[58] .
[1] المرحلة الأولى تم نشرها بصفة مستقلة على شكل بحث بعنوان ( المجتمع السومري قبل وبُعيد الطوفان )

[2] سفر التكوين / الإصحاح الخامس / ٢٨ – ٢٩

[3] وهي صالحة لمناقشة جميع الأفكار المشابهة الواردة في مصادر اخرى ، حيث تناقش اصل الفهم الذي قام عليه النص التفسيري الاستشراقي

[4] حاخام يهودي من ( تيودلا – نافارا ) زار مدينة الموصل في القرن الثاني عشر لكن تقريره نُشر في القرن السادس عشر / السومريون ص ٨

[5] تم طبعه بواسطة مركز عين للدراسات ودار القارئ

[6] ولد في روسيا ١٨٩٧ وهاجر الى الولايات المتحدة ، درس اللغة السومرية في جامعة<

أحدث المقالات