منذ تأسيسه في الخامس عشر من شهر ايار-مايو من عام 1948، خاض الكيان الصهيوني عدة حروب ومعارك مع العرب، وكانت مجمل تلك المعارك والحروب خاطفة وسريعة، لاتدوم سوى بضعة ايام او اسابيع قلائل، سواء كان ذلك الكيان رابحا فيها او خاسرا.
ولاسباب وعوامل وظروف جيوسياسية وامنية ومجتمعية مختلفة، لم يعرف عن الكيان الصهيوني قدرته على خوض حروب استنزافية طويلة الامد، وربما ادرك مؤسسوه واصحاب القرار فيه منذ وقت مبكر، ان الدخول في حروب ومعارك عسكرية طويلة، قد تشكل بدايات ومقدمات تفككه وتشظيه وانهياره، رغم الدعم والاسناد الهائل له من قبل العالم الغربي، والخنوع والخضوع والانهزام من اغلب العالم العربي.
وغالبا ما كان كبار ساسة وعسكر الكيان الصهيوني يبحثون عن الخيارات التفاوضية السلمية، حتى وان كانت زمام الامور في الميدان بأيديهم، لانهم على قناعة تامة بأن أي مطاولة عسكرية ستفرز عواقب وخيمة عليهم، ولن تؤدي في كل الاحوال الى هزيمة او استسلام او تراجع عدوهم، فلسطينيا كان ام لبنانيا، ولعل التجربة-او التجارب المتلاحقة-مع حركة المقاومة الاسلامية الفلسطينية(حماس)، وحركة الجهاد الاسلامي، وكذلك مع حزب الله اللبناني، خير شاهد ودليل.
ولكي تكون الصورة واضحة، والكلام دقيق وموضوعي، فإن التوقف عند حرب غزة، التي اندلعت شرارتها الاولى في السابع من تشرين الاول-اكتوبر من العام الماضي، يمكن ان تكون مثالا شاخصا على عمق مأزق الكيان الصهيوني. فتلك الحرب التي كان مفترضا ومخططا لها ان تحسم خلال وقت قصير لصالح تل ابيب، طالت اشهر واشهر، وباتت على ابواب ذكراها السنوية الاولى. ليس هذا فحسب، بل ان الكيان الغاصب وجد نفسه يقاتل على عدة جبهات في الجنوب والشمال، فضلا عن جبهات اخرى قد تبدو بعيدة نوعا ما، بيد انها فاعلة ومؤثرة، كالجبهة اليمينة، والجبهة العراقية.
خسائر الكيان الصهيوني وانكساراته العسكرية والسياسية والمجتمعية، تبدو في هذه المرحلة واضحة الى اقصى الحدود، ولم يعد هناك من يمتلك القدرة على التغطية على تلك الحقيقة المرّة والمرعبة لصناع القرار في تل ابيب وفي عواصم اخرى حليفة وصديقة، مثل واشنطن ولندن وباريس وغيرها.
الانقسامات السياسية الحادة بين كبار القادة السياسيين والعسكريين والامنيين، لم تعد محصورة في الغرفة المغلقة والكواليس السرية، بل انها باتت حديث الشارع ووسائل الاعلام في داخل الكيان وخارجه، والسجالات بين نتنياهو ووزير دفاعه اي اوف غالانت، وصلت الى ابعد الحدود.
والتشظي المجتمعي راح يتسع ويتمدد، خصوصا من بعض الجماعات الدينية كـ”الحريديم” التي وجدت ان نيران الحرب اصبحت قريبة جدا من اذيالها، ناهيك عن ذوي الرهائن والاسرى، الذين وصلوا الى قناعة تامة، بإن نتنياهو غير مهتم بمصير ابنائهم القابعين في سجون حركة حماس بقدر اهتمامه بمصيره وموقعه ومستقبله السياسي. ومن لم يفهم ويدرك حقيقة ومستوى التشظي المجتمعي داخل الكيان الصهيوني، ما عليه الا ان يشاهد ويراقب ويتأمل في التظاهرات الحاشدة في شوارع تل ابيب وحول مقر رئاسة الوزراء تحديدا، وما هي طبيعة الشعارات التي يرفعها المتظاهرون. ناهيك عن التظاهرات والاحتجاجات الطلابية العالمية التي اجتاحت مختلف الجامعات الاميركية والاوربية، وانطوت على رسائل بالغة الاهمية عن الحقائق والمعطيات الجديدة في مواقف الرأي العام الغربي حيال تل ابيب.
هذا من جانب، ومن جانب اخر، ربما لايعرف الكثيرون ان الكيان الصهيوني لم يتكبد طيلة ستة وسبعين عاما خسائر مالية كالتي تكبدها بصورة مباشرة وغير مباشرة جراء حرب غزة، فهناك متطلبات الحرب العسكرية من اسلحة واعتدة ومؤن مختلفة، وهناك تعطل حركة المطارات والموانيء، وهناك كساد الاسواق والبورصات، وجمود عمل مئات الشركات. وقد بلغ “الشيكل”- وهو عملة التداول الرئيسية في الكيان الصهيوني-ادنى مستوياته مؤخرا بفعل تبعات وتداعيات حرب غزة الكارثية.
اضف الى ذلك، اخذ الكيان الصهيوني، شيئا فشيئا يفقد دعم حلفائه واصدقائه الاستراتيجيين، بعدما ادركوا ان سياسة نتنياهو وفريقه الحاكم، اصبحت تهدد مصالحهم وتحرجهم، وتظهر الكثير من عجزهم وفشلهم في ادارة الموقف بأقل قدر من الخسائر، وهذا ما ينطبق على الولايات المتحدة الاميركية بالدرجة الاساس. ناهيك عن ان مشاريع التطبيع امست في مهب الريح تقريبا، بحيث لم يعد بإمكان من كان يروج لها ويتبناها بالامس، ان يتحدث عنها اليوم. علما إن الكيان الصهيوني كان قد تلقى ضربات قاصمة في الساحة الدولية، من قبيل قرار محكمة العدل الدولية-اكبر هيئة قضائية تابعة لمنظمة الامم المتحدة-الذي صدر منتصف شهر ايار-مايو الماضي، والزم الكيان الصهيوني بإيقاف هجومه على مدينة رفح جنوب قطاع غزة، بناء على الدعوى التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا، واتهمت فيها تل أبيب بإرتكاب جرائم إبادة جماعية في القطاع.
وقبل ذلك بوقت قصير، كانت كل من النرويج وايرلندا واسبانيا قد أعلنت اعترافها بدولة فلسطين، في خطوة شكلت صدمة كبيرة جدا لتل ابيب، لاسيما وأنها جاءت من دول تعد جزءا من المنظومة الغربية التي غالبا ما عرف عنها تعاطفها مع “اسرائيل”، وصمتها عن الكثير من جرائمها وانتهاكاتها للقوانين والمواثيق الدولية، وفيما بعد، وتحديدا في الثامن عشر من شهر ايلول-سبتمبر الجاري، فأن الجمعية العامة للأمم المتحدة اصدرت قرارا بأغلبية اعضائها (128 دولة)، يلزم الكيان الصهيوني بإنهاء وجوده غير القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة خلال 12 شهرا، “بناء على فتوى طلبتها الجمعية العامة من محكمة العدل الدولية بشأن الآثار القانونية لسياسات إسرائيل وممارستها في فلسطين”.
ان الحديث عن خطورة الامور في الكيان الصهيوني، ومؤشرات انهياره وتفككه وتشظيه، بفعل العوامل والظروف المشار اليه وغيرها، لم يعد مقتصرا على وسائل الاعلام والمنابر السياسية المعادية له في ايران ولبنان وفلسطين وسوريا والعراق وغيرها، بل ان وسائل الاعلام الصهيونية الواسعة الانتشار، وكذلك الغربية، من صحف، وقنوات فضائية، ووكالات خبرية، ومراكز دراسات وابحاث، وشخصيات سياسية وامنية واكاديمية مهمة، اصبحت تتحدث بكل وضوح وصراحة عن حقيقة الواقع، وما يمكن ان تؤول اليه الاوضاع فيما اذا واصل ساسة تل ابيب نهجهم العدواني الدموي.
ولعل صحيفة “واشنطن بوست” الاميركية لم تذهب بعيدا، ان لم تكن قد شخصت الواقع بدقة، حينما قالت في احد اعدادها الصادرة قبل اربعة شهور، “ان اسرائيل وقياداتها السياسية، باتت معزولة ومحاصرة في الساحة العالمية، وان هذه العزلة، راحت تتعمق وسط تحديات قانونية مختلفة، وتحوّل في الرأي العام العالمي“.
والواضح انه بعد حوالي عام كامل على انطلاق معركة “طوفان الاقصى”، ان النهايات وان لم تكن قريبة، الا انها لن تأت كما يريد ويطمح بنيامين نتنياهو ورفاقه. فجزء من تلك النهايات قد تكون نهاية الاخير بصورة سيئة جدا بالنسبة له، وقد تكون مزيدا من التصدعات والاهتزازات والانقسامات السياسية والمجتمعية الكبيرة والخطيرة في الداخل الاسرائيلي، فضلا عن الانكفاء والانعزال في مساحات كان ساسة تل ابيب يعدونها في متناول اليد متى ما قرروا الوصول اليها واشغالها.
والحقيقة المحورية والمهمة، هي ان الكيان الصهيوني لم يعد يبحث عن انتصار بقدر ما يسعى جاهدا للخروج من المستنقع الذي سقط فيه بأي ثمن. ولكن كيف ومتى؟.. هذا ما قد تجيب عليه وتوضحه احداث ووقائع المستقبل القريب.