يظهر علينا كل حين منظرون جدد، يعيدون كتابة التاريخ على هواهم، ومن الباب الطائفي الضيق. وفي هذا فهم ليسوا نسّابين، ولا مؤرخين حقيقيين، بل مزورون، مشوهون للمشاعر الإنسانية النبيلة القائمة على الصدق والكرامة. ولا غرو أن نرى رئيساً في أكبر دولة عربية يقول في أول يوم من تسلمه المنصب إن الخطر الحقيقي على الأمة هو الشيعة. لكن أحداً لم يلجمه، وها هو يسير اليوم إلى ملقي الفتن، لعله ينصره على الشيعة أولاً، وليذهب الأمن القومي إلى الجحيم. وآخر ما وجدته في هذا الباب ما جاء به مقداد الحمداني في ذاكرته المصابة عن أبي الخصيب، فيقول إن هذه المدينة سنيّة بامتياز. ولأول مرة في حياتي أرى من العراقيين من يجرؤ على تقسيم شعبه تقسيماً طائفياً، وعلى هواه، ولا ندري إن كانت لدى هذا إحصائية رسمية بذلك، لكننا قد نسأله على هوية من أورد من الأسماء، فهل الفراهيدي سنيٌّ حقاً، وهل ابن الجوزي سنيٌّ، أم السني بدر شاكر السياب، أو سعدي يوسف؟ ثم يعود ليقول بأن الخصيبيين خليجيون بامتياز- ويبدو أنه مغرم بالامتيازات، يطرحها يميناً وشمالاً، وبلا حساب. ونسأل هنا: ما الصحيح تاريخياً، هل الخصيبيون خليجيون، أم الخليجيون عراقيون؟ من عاش على من؟ لكن أنظروا رجاءً إلى هذا التصريح الغريب. يقول إن الخصيبيين ريفيون، بينما السنة في المناطق الوسطى والغربية والشمالية هم مدينيون، أو بدو. فهل رأيتم من قبل مثل هذا التقسيم الطائفي الجديد؟ قولوا لنا، ما الفرق بين أبي الخصيب والخالص، أو حديثة، أو عانة؟ هل تجدون فرقاً بشرياً أو ديموغرافياً واضحاً؟ ومنذ متى دخلت العلوم الطائفية إلى كتبنا، ولماذا؟ سؤال نوجهه إلى السابقين واللاحقين، لا فرق. ثم يقول إن في الخصيبيين طيبة زائدة عن الحد الطبيعي، وبذلك لم يحصلوا من المناصب العليا ما حصل عليه أخوتهم العراقيون هناك. حسن، هل يروق لكم هذا الكلام غير المربوط؟ ومنذ متى كانت المناصب العليا في العراق رهناً على الطائفة؟ أوليست هي العشيرة أولاً، فلماذا نزور التاريخ؟ ثم يأتي هذا على ذكر أحداث طائفية معينة، فيقول إن بيت السلمان هم من السنة، لكن هذا خطأ، فالسلمانيون شأنهم شأن كل العائلات الخصيبية قسمان، سنة وشيعة. ثم يقول بأن انتهاك العرض عرف ثابت في الانتقام من السنة- ومعنى هذا إن المذكور آنفاً هو من دأب الشيعة، أليس كذلك؟ لكنه أمر وارد في مصراتة الليبية، كما هو في القاهرة الفاطمية، أو سربينيتسا، فهل من قام بذلك هم الشيعة، وما من شيعي هناك؟
يقول: بعد انتهاء الأحداث- ويقصد هنا الانتفاضة الشعبية بعد حرب الكويت، وهي أنبل الصفحات في تاريخ العراق الحديث، ولا يعرف حتى اليوم من أطلق شرارتها الأولى في ساحة سعد، سني هو، أم شيعي. ثم يقول إن الكثير من أهلنا في الكويت… من هم أهلوك، وكيف؟ هل هم المظلومون البدون هناك، أم هم الإقطاعيون الكبار الذين لا تهمهم غير المصالح أولاً؟ ثم يختم كلامه بالقول إن الخصيبيين جبناءٌ، أضعف من النساء..؟! لا حول ولا قوة إلاّ بالله.
لا نعتقد أن مثل هذه السفاسف تنطلي على العراقي الحر، لكن دعني أوضح للأخوة القراء الأمر، وأول ما يتبادر إلى الذهن إن كل الحركات الفكرية المتطرفة في الإسلام ظهرت من هنا، من البصرة، بل ومن أبي الخصيب عينها. يكفيكم ثورة الزنج، أو الخوارج، أو المعتزلة، أو الخ، وكلها دعوات إنسانية إلى العدل والحرية والعقل. هذا من ناحية التاريخ القديم أولاً، أما التاريخ الحديث فيخبرنا إن البصرة كلها مدينة يندر فيها النسابون، قامت على قوى المد والجزر اليومي. لكن ما أن جاءت الثورة البيضاء العظمى حتى قامت الحكومة بردم كل الأنهار والقنوات في البصرة، وعددها كما يقول صاحب التحفة في كتابه يتجاوز ربع المليون نهر ونهير. تم الأمر بتخطيط مدبر مدروس، وهذا ما أدى إلى صعود المياه الجوفية على سطح المدينة، ففسدت. غادر الإقطاعيون الكبار فرادا وجماعات، وبتخطيط مدبر مدروس أيضاً. تركوا الفلاحين أجراء في بساتينهم، بلا ضمانة ولا كفالة، فتفرق هؤلاء بين الناس، ثم جاءت القادسية المجيدة، فأصبحت أبو الخصيب بالذات ساحة معارك طاحنة. ذبحت الحرب كل نخيل أبي الخصيب، أما ما تبقى منه من النخل البرحي النادر، فيطلب الأمراء من الجنود الصعود إلى قلب النخلة وقطع الجمار العزيز لسيدات بيوتهم هناك- ماذا نفعل والغواني يحببن الجمار؟ أوليس هذا ما حدث، أم نسينا؟
آخر الكلام، لا تصدق يا هذا إن الطائفية يمكن أن تثمر يوماً في العراق، ولا تظنن يوماً إن تشريحك الطائفي يمكن أن يجد صدى في أذهان العراقيين، وكل ما نرجوه أن تذهب بكلامك الطائفي هذا إلى ناحية أخرى غير أبي الخصيب، وغير العراق كله.