لا أعتقد أن محمد حسنين هيكل قد بالغ عندما أكد في كتابه ” أوهام القوة والنصر ” على مقولة أن القرن العشرين كان قرنا امريكيا ، واذا كات امام بترول المنطقة ما بين 50 الى 70 أو 80 قادمة ( بالاضافة لاحتواء باطنها على ما بين 60-65% من الاحتياطي العالمي للنفط)، فانه من غير المبالغة القول أيضا ان نصف القرن الحالي سيكون ربما أمريكيا ، اذا ما لاحظنا سرعة انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية وتحول معظم دولها لدول حليفة لأمريكا ، كما يمكن الاستدلال بالحربين التي قادتهما امريكا بالتحالف مع الناتو على كل من افغانستان والعراق ! وتكمن مشكلة عالمنا في سعي هذه القوة العظمى بالتحالف مع الدول الغربية الكبرى وحلف الناتو واسرائيل للهيمنة اقتصاديا وعسكريا وثقافيا على العالم ، وفي السعي للسيطرة على الموارد الطبيعية ومنابع النفط والغاز ، وفي تطبيق برامج ومخططات لقهر الشعوب وابتزازها والتضييق عليها وافقارها ، كما انها لا تكتفي بالمكاسب التي حققتها ، بل تسعى جاهدة لوضع العراقيل أمام القوى الاقتصادية العالمية الصاعدة كالصين ومجموعة البريكس وألمانيا واليابان ، وتحاول خفية تخريب الوحدة الاوروبية المتصدعة ، وفي عالمنا العربي البائس سعت وما زالت مع حليفتها اسرائيل والدول الغربية الكبرى ، سعت لتدمير العراق والمشاركة الفاعلة في تدمير ليبيا وتغيير انظمة الحكم في دول الربيع العربي ، التي استغلت ثوراتها التلقائية وتم تغيير دفتها وبوصلتها باتجاه التحالف مع الغرب ، وبالتواطؤ مع الاسلام السياسي وتجار الأديان والأوطان ، مما أعاد هذه الدول لنسخ نفس أساليب الأنظمة القمعية السابقة (بشكل او بآخر) ، مع ضمان التأييد الشعبي –الجماهيري ، والسير قدما باتجاه التحالف الضمني مع امريكا واسرائيل ودول الناتو كعرفان للجميل ، وذلك لضمان المصالح الغربية واتفاقيات السلام مع اسرائيل ، ومن منطلق الحاجة للدعم الاقتصادي والتحالف السري التاريخي ما بين الاخوان وامريكا !
لكن يبدو أن الوضع السوري قد أيقظ الدب الروسي والمارد الصيني من غفوة طويلة لا مبرر لها ، وخاصة بعد الغدر الذي الحق الضرر بمصالحهما الاقتصادية والجيوسياسية بعد اقتسام الكعكة الليبية ، فأصبحت الأزمة السورية والمشروع النووي- الصاروخي الايراني هما الفتيل المحتمل لحرب عالمية ثالثة ، وخاصة في ظل الاحتقان والتحريض الاسرائيلي المتزايد ، ناهيك عن المشاركة التركية-النفطية المباشرة لتأجيج الصراع المحتدم في سوريا يتجهيز الملاذ لقيادة ما يسمى الجيش السوري الحر ، وارسال الدعم والأموال والأسلحة وتسهيل نقل الجهاديين والتكفيريين والسلفيين ، مع دعم استخباري-غربي سافر ومباشر ، وفي ظل النمو الهائل للقوة الاسرائيلية الغاشمة ، وتنامي العوائد النفطية الاسطورية التي تكرس لتخريب الدول القائمة ولاحداث فوضى “لاخلاقة” تنبأت بها كوندالينا رايس منذ سنوات ، بغرض تأجيج الفتن الطائفية والجهوية والاقليمية لتفتيت الدول العربية القائمة ضمانا لمصالح الغرب في المنطقة ، وتحقيقا لأمن وهيمنة اسرائيل ، وربما سيتحدد الوضع العالمي المقبل لعقدين من الزمان كنتيجة لهذه المنازلة التاريخية التي تجري حاليا على أرض العرب !
لا نستطيع ان نتوقع استقرارا عالميا في المنظور القريب على الأقل ، ونحن نشهد هذا الصراع المحتدم ، ونكتوي بممارسات الهيمنة الأمريكية –الغربية الظالمة ، التي تشجع سؤ توزيع الثروات ، وتثير الفتن والاضطرابات الطائفية والعرقية والاقليمية ، ناهيك عن الاحتقان الكبير التي تتسبب به اسرائيل في المنطقة كورم سرطاني مزمن ، وخاصة ببمارسات الاحتلال الاستيطانية والقمعية والاستخبارية التخريبية !
أما الواقع الأخلاقي المتردي الذي وصل له عالمنا المسكين المنكوب بالنفاق والازدواجية وكافة أنواع الصراعات الحضارية والاثنية والعرقية والدينية وحتى الاستعمارية الخفية ، فنكاد نشعر انه يتجه بلا هوادة لقعر الهاوية ! ولناخذ مثالا جليا : فالغرب وامريكا تحديدا استخدمت مقولة حقوق الانسان لكي تهاجم منظومة
دول المعسكر الاشتراكي سابقا في القرن الفائت ، ونجحت في فضح كثير من الممارسات القمعية وفي ابتزاز هذه الدول ، بل وفي حدوث انشقاقات خطيرة لمبدعين ومفكرين وسياسيين ساعدت تدريجيا مع عوامل اخرى جوهرية على انهيار هذا المعسكر في تسعينات القرن الماضي !مازال الغرب اللأخلاقي المنافق يستخدم هذه الحجة ضد خصومه السياسيين وبانتقائية فاضحة مكشوفة ، والفرق هنا أصبح جليا في وعي الشعوب المتنامي وفي وسائل الاتصالات والدور الهائل للانترنت والفضائيات ، وأصبحت اللعبة مكشوفة وفاضحة تتمثل في ازدواجية المعايير ، والسكوت على ممارسات الدول الصديقة والحليفة وفضح الدول المارقة ! يكفي السكوت على ممارسات الدولة المغتصبة اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني كمثال جلي معبر
وقد كشفت عبقرية ابن خلدون مبكرا عن ذلك عندما قال ” العدل أساس العمران ، ولا بد للبشر من وازع او رادع يدفع بعضهم عن يعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم ” : فأين هو الوازع الانساني لدى ساسة العالم الجدد؟ أما الانتحار” المأساوي ” الذي يمارسه العرب الأثرياء بسلوكياتهم ” النقطية-المالية” ! ولا يجب أن نغفل كذلك عن ضعف مساهمتنا العالمية في خلق الثروات والقيم المضافة، بالرغم من وجود طاقات بشرية مبدعة وغنى الأرض العربية واحتواءها على العديد من الخامات والمعادن والفلزات والمواد الولية والبترول، ولكن عناصر “الواسطة والمحسوبية والفساد والطغيان والتسلط” تعمل معا كطاقة معطلة، وكثقب أسود كاسح يمتص كل الطاقات والإمكانات والثروات.
كما سأترك الفقرة التالية (للكاتب نايبول ) لتعبر عن الممارسات “العربية ” للعرب خارج بلدانهم : …لقد أعطانا العرب واعطوا نصف العالم الدين الاسلامي ، لكنني لا استطيع ان اقاوم الاحساس انه في حالة قيام بعض العرب بمغادرة بلادهم ، فان اشياء رهيبة تعتبر وشيكة الوقوع في العالم ! لم يوضح الكاتب ” المنافق ” قصده وتركه غامضا ، ولكني سأجتهد واقدر أنه ربما قصد ممارسات الثراء الفاحش والارهاب والتآمر ، ولو طبقنا مقولته مجازا على الوضع الراهن في تداعيات ما يسمى الربيع العربي ، فنرى كيف يترك الأثرياء العرب أوطانهم لممارسات الفحش الانفاقي – الاستهلاكي في بلاد الغرب (بالانفاق على العاهرات ودعم النوادي الليلية والرياضية و”المؤسسات التعليمية الغربية” وحدائق الحيوان هنا وهناك !) ، وكيف يسعون خفية (وبعض المثقفين والمفكرين العرب المهاجرين والمقيمين في عواصم الغرب ) للتآمر على كيانات دولهم و مستقبل أمتهم ، كما يسعى التكفيريون العرب لمغادرة أوطانهم للتجمع حاليا في سوريا للقتل والتدمير وحز الرقاب ، والسؤال الوجيه هنا لماذا “لم و لا يتم” دعمهم وتوجيهم للقتال في اسرائيل ” العدو التاريخي للعرب والفلسطينيين “؟!
ان العرب الأثرياء يضخون البترول ثم يمتصه المال بعد ذلك ، يضخون البترول لكي يجعلوا نظام العالم يستمر ، ثم يمتصون المال ثم يرسلونه لكي يتحطم ! انهم يحتاجون لأمريكا والغرب ( كمؤسسات ) ، فهم يريدون البضائع الاستهلاكية والمشاريع الضخمة (وترسانات الأسلحة الحديثة التي لا تستخدم ابدا !) والعقارات الباذخة ، كما يحتاجون لمكان آمن لأموالهم الطائلة ( حيث انهم يتوهمون ان بنوك الغرب ومؤسساته المالية هي الملاذ الآمن ، وثبت أنها ليس كذلك بطريقة تعاملها مع اموال الطغاة الطائلة –المسروقة حيث تم تجميدها أو الاستيلاء عليها فور سقوطهم ! )
، لكنهم من جهة اخرى فهم يدمرون المال ويقتلون الوزة التي تبيض ذهبا ! ولكن العالم صعب المراس كما قال كاسترو ، وما زالت البشرية تحتفظ بحس أخلاقي خير رفيع كامن ، وبتوق كبير للحرية والكرامة الانسانية ، وها هو ابن خلدون يعود فيبشرنا بالتغيير الاجتماهي الحتمي فيقول : ” ان احوال العالم والامم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر ، انما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال الى حال ، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار ، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول ” !