لا يبدو أن المفاوضات بين النظام والمعارضة، الجارية في جنيف هذه الأيام، ستصل إلى خواتيمها المرجوّة بالنسبة إلى جميــع الســوريين إذا لم تحسم الدول الكبرى أمرها، لجهة فرض إنهاء الصراع الدامي والمدمر، والتمكين من تحقيق التغييـــر السيــاسي في سوريـــة، بعد كـــل الأثمــان الباهــظة التي دُفعت. أيضاً، لا يبدو أن أياً من الطرفين المتصارعين قادر علـــى فرض إرادته على الطرف الآخر بقواه الذاتيـــة، لا النظام ولا المعارضة، في ظل هذه الظروف والمعطيات الصعبة والمعقدة.
بناء على ما تقدم، ربما تطلب هذا الوضع من وفد المعارضة السورية التصرّف على أساس إدراك مسألتين: الأولى، أن النظام الذي فعل كل ما فعله بشعب سورية، وبعمرانها، طوال السنوات الست الماضية، لا يمكن أن يرضخ بالحوار، أو أن يقتنع بحجج المفاوضين المعارضين ومطالبهم، مهما كانت بليغة ومحقّة. أي أن الحوار أو المفاوضة هنا لا تجرى مع النظام تحديداً، حتى وهو يقف في المقابل مباشرة أو مداورة عبر الوسيط الدولي. والثانية تتمثل بضرورة اعتبار الصراع التفاوضي، الحاصل في جنيف، جزءاً من الصراع على الرواية والصورة، وعلى مكانة المعارضة، إزاء شعبها وفي العالم، لا أكثر، ومن دون أية أوهام.
لذا، وبمقتضى هذا وذاك، كان يجدر بالمعارضة أن تذهب إلى المفاوضات بوفد مصغّر مسلّح بالخطوط التفاوضية، التي يفترض أنه تم التوافق عليها، بدلاً من هذا الحشد الكبير الذي لا يفيدها (22 مفاوضاً إليهم منصتا القاهرة وموسكو)، بقدر ما يظهر ضعف صدقيتها وتصرفها بطريقة مزاجية وغير مسؤولة، فضلاً عن إظهارها مشتتة التوجهات والإرادات والارتهانات.
على أساس إدراك كل ما تقدم، وضمنه حدود «اللعبة» التفاوضية في هذه الظروف، يمكن وفد المعارضة أن يطرح مبادرات كثيرة، لتوضيح موقفه وتعزيز مكانته إزاء السوريين والعالم، عبر إيجاد تقاطعات بين تصوراته لمستقبل سورية وتصورات المجتمع الدولي، أو الأطراف الدولية الفاعلة، باعتبار أنها أضحت عاملاً فاعلاً في الصراع السوري، وأيضاً لكسب تعاطفها كقوة مضافة بالنسبة له، في هذه المعركة السياسية.
في هذا الإطار يمكن المعارضة طرح عدة مبادرات أو أفكار تفاوضية، من خارج الصناديق الجاهزة، ضمنها، مثلاً، اقتراح فكرة التحوّل من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني، أو المختلط (على الطريقة الفرنسية مثلاً)، على قاعدة لا طائفية ولا إثنية، أي على أساس دولة المواطنين المتساوين.
حقاً لا أعرف لماذا لم تطرح المعارضة مثل هذا الأمر حتى الآن، ولا ما الذي تتوهمه بتمسكها بالنظام الرئاسي. أهمية هذا الطرح أنه يقلب المعادلات التفاوضية، إذ ظـــل النقاش حول مكانة الرئيس يشكل عقدة استعصاء في المفاوضات، وفي خصوص الحل السوري. فضلاً عن أن القطع مع النظام الرئاسي يفيد بخلق واقع لا يسمح بإعادة إنتاج النظام الاستبدادي. وبديهي أن طرحاً كهذا يمكن أن يربك النظام. هذا أولاً.
ثانياً، طرح فكرة الفيديرالية، والفكرة هنا أن الفيديرالية تطرح على قاعدة خطوط جغرافية، وليس على أساس معايير إثنية أو طائفية، بحيث تخلق نوعاً من حكم محلي تمثيلي مناطقي، يعزز المشاركة الشعبية في الحكم، بدل المركزية المطلقة، ويعد بتنمية متوازنة، بدلاً من إبقاء الأطراف محرومة، وباعتبار أن النظام الفيديرالي يشكل عقبة أمام أية محاولة لإعادة إنتاج نظام الاستبداد، الذي ينجم عن النظام الشديد المركزية.
مفهوم أن ثمة تخوّفاً من فكرة الفيديرالية لدى قطاع واسع من السوريين، وهذا عائد إلى نمط الثقافة السياسية المشوّهة التي أشاعها النظام، والتي استفاد منها بوضع مكونات البلد في مواجهة بعضهم لتسهيل الهيمنة عليهم. وفي الواقع فإن الفيديرالية لا تعني التقسيم البتّة، لأن السلطات الأساسية تبقى بيد الحكومة الفيديرالية المركزية (المالية والخارجية والجيش)، في حين تبقى المسائل المتعلقة بخدمات التعليم والصحة والبناء والتنمية والأمن الداخلي خاضعة للحكم المحلي التمثيلي، الذي يأتي عبر الانتخابات أيضاً.
وطبعاً، لا تنطوي الفيديرالية على أية مؤامرة، على ما يدّعي البعض، إذ إن أهم الدول في العالم اليوم، وضمنها الولايات المتحدة وألمانيا والصين وروسيا انبنت على أساس فيديرالي. أما المخاوف في شأن استقلال أو انفصال هذه المنطقة أو تلك، على أساس إثني، فمجرد ادعاءات أو توهمات لأن الانفصال يحصل في دول ذات طبيعة مركزية أيضاً (اليمن والسودان وتشيكوسلوفاكيا)، وتبعاً للظروف الداخلية والدولية، ولأن الدول الفيديرالية التي تؤمن التنمية المستدامة والمتوازنة والحقوق المتساوية للمواطنين، هي الدول النماذج التي تبدو أكثر تحصيناً ضد اية دعوات انقسامية. ثم إن الدولة الفيديرالية، القائمة على المواطنة والديموقراطية، هي الأكثر مناسبة لظروف سورية، بتنوعها، ما يجعل من ذلك عامل حيوية وإغناء بدل أن يكون عامل شقاق أو انقسام.
ثالثاً، الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، والتأكيد في الدستور أن الرئيس (في النظام الرئاسي أو المختلط) أو رئيس الحكومة ينبغي أن يكون مسؤولاً فقط عن السلطة التنفيذية، ولا علاقة له بالسلطات الأخرى، التي ينبغي له أن يخضع لها، أو يلتزم بتوجهاتها. ومع أن هذه المسألة مطروحة في مختلف التصورات، إلا أنها لم تتحدد على النحو اللازم، إذ يتم إعطاء الرئيس صلاحيات تتيح له الهيمنة على السلطتين التشريعية أو القضائية، بالحل أو بالتعيين. وهذا ما ينبغي تأكيده في نصوص دستورية، لا يمكن التلاعب بها، ولا بأي شكل. ومفهوم أن الفصل بين السلطات أساس النظم الجمهورية، لا سيما الديموقراطية، التي تحيل السيادة في أية دولة للشعب، وليس للرئيس، أو لنظام الحكم، الذي ينبغي أن يخضع لإرادة الشعب.
هذه مجرد مقترحات للمفاوضين في جنيف 4 وفي غيرها، وهي تتلاءم مع مصالح غالبية السوريين في تحقيق التغيير السياسي في سورية، وتعزز التقاطع بين مصلحتهم الجمعية وبين الرؤى أو القيم السياسية السائدة في العالم، وضمنه ما يقترحه الفاعلون الدوليون.
يمكن استثمار المنصّة التفاوضية، بغضّ النظر عن جدواها في هذه الظروف… دعوا النظام يرفض…
نقلا عن الحياة