18 ديسمبر، 2024 7:36 م

مقتدى الصدر والعابه النارية

مقتدى الصدر والعابه النارية

أعلن مقتدى، مساء يوم الخميس الماضي، انسحابه والكتلة الصدرية من مفاوضات انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة، وفسح المجال أمام خصمه نوري المالكي، للتفاوض مع القوى السياسية في هذا الشأن، في مدة أقصاها أربعين يوما. وبذلك يرفع مقتدى سقف الصراعات التي تدور بين الطرفين، وليس كما ادعى بانه أراد وضع حد لهذه الصراعات وتشكيل الحكومة التي طال انتظارها من قبل العراقيين. حيث يعلم أي متابع بسيط، بان هذه الصراعات لا تدور من اجل صالح العراقيين، لا من قريب ولا من بعيد، وانما تدور من اجل تقاسم الوزارات والمناصب العليا وسرقة المال العام وتخريب البلاد.
لقد أراد مقتدى من هذه التغريدة، الظهور امام العراقيين، بصورة الوطني والزاهد عن السلطة ومغانم الدنيا كما يردد دائما. ونسي في زحمة اوهامه، قدرة العراقي على كشف مثل هذه الألعاب النارية، التي أصبحت ملازمة لشخصيته الهزيلة. حيث يمتلك كل منهما العدد الكافي من النواب، او ما يسمونه الثلث المعطل، تمكنه من افشال الاخر. بمعنى اوضح فان مقتدى سيستخدم هذه الطريقة لتعطيل النصاب لانتخاب رئيس الجمهورية، الذي من دونه لا يمكن لخصومه تشكيل الحكومة. ان هذا السلوك الشائن، ان دل على شيء، فإنما يدل على ان مقتدى وزملاؤه الاشرار، قد فقدوا اخر ذرة من الوطنية والشرف والأخلاق، حين جعلوا من العراق الجريح لعبة لاستعراض القوة فيما بينهم.
لكن، هل وصل مقتدى الى درجة من الغباء تدفعه لان يجازف بالدخول في هذه اللعبة، التي قد تنتهي بخسارته، جراء انتقال حلفائه الى معسكر خصمه؟ خاصة وان حلفائه هم من خريجي المدرسة نفسها التي تخرج منها مقتدى، والتي من اهم تعاليمها العمالة والسرقة والقتل من اجل المال والسلطة.

 

لم يكن مقتدى الصدر غبيا الى هذه الدرجة، ليدخل في لعبة خطرة قد تفقده السلطة الى الابد، لولا قناعته بتلقي الدعم والاسناد من قبل أمريكا وحلفائها في المنطقة وفي مقدمتهم امارات الخليج وعلى وجه الخصوص المملكة العربية السعودية. ومرد ذلك يعود الى اعتقاد أمريكا بانه الأكثر قدرة من بقية زملائه الاشرار على اخراج عمليتها السياسية من مازقها الحاد، الذي بات ينذر بسقوطها، لما يمتلكه من قوة جماهيرية، وميليشيات مسلحة ودعم ديني من مرجعية النجف. إضافة الى استعداده اللامحدود لارتكاب عمليات القتل والخطف، ضد اية انتفاضة شعبية تسعى لأسقاط العملية السياسية. استنادا الى سجله الأسود في هذا الخصوص، حيث قامت ميليشياته المسلحة، بقتل ثوار تشرين، في ساحة التحرير والسنك وجسر الاحرار في بغداد وكذلك المدن الأخرى. خاصة في مدينة الناصرية التي مثلت عاصمة ثورة تشرين.
لكن هذا ليس كل شيء، فأمريكا، ترى في مقتدى الرجل المناسب، لقيادة مشروع التطبيع بين العراق والكيان الصهيوني، إذا ما تمكن من ان يصبح الرجل الأقوى في العراق، اعتقادا منها، وهو اعتقاد صحيح الى حد ما، بان التطبيع مع الكيان الصهيوني، لا يمكن تمريره دون تأصيله من الجهات الدينية التي تحكم العراق، لما تتمتع به من تأثير على فئات واسعة من العراقيين، وخاصة الذين حرموا من التعليم حتى بحدوده الدنيا. وهذا ما يفسر الحملة الإعلامية للأمريكان ودول الخليج العربي، تصوير مقتدى، بانه الرجل الأول المدعوم من المرجعيات الدينية، وخاصة مرجعية النجف، التي يقودها محمد علي السيستاني. خاصة وان السيستاني قد التقى مؤخرا ببابا الفاتيكان، خلال زيارته للعراق، والتي كان من أبرز مهماتها التطبيع مع إسرائيل، تحت ستار توحيد الديانات الابراهيمية. وبالتالي ليست صدفة ان يعلن قيادي سابق في التيار الصدري المدعو بهاء الاعرجي بعد هذه الزيارة، بان التطبيع مع إسرائيل والاعتراف بها يأتي من النجف الاشرف.

لا تستغربوا من ذلك، فمشروع التطبيع الذي تفكر به أمريكا لم يكن وليد الصدفة. فقد سبقته خطوات بدأت بعد احتلال العراق مباشرة عام 2003. حيث روج له المدعو مثال الالوسي، الذي سافر الى تل ابيب، ليمهد لزيارة نواب ووزراء عراقيين فاق عددهم العشرات حسب قوله، في مداخلة مشهورة في مجلس النواب، ثم مرت بجهود اسرائيلية للتقارب مع العراق في يناير/كانون الثاني 2019، اعقبتها زيارات سرية قامت بها ثلاثة وفود عراقية إلى تل أبيب، ضمت 15 شخصية سياسية ودينية وادبية، التقت بمسؤولين حكوميين وأكاديميين إسرائيليين، كما زارت هذه الوفود العراقية النصب التذكاري لضحايا الهولوكوست. لتنتهي الى عقد مؤتمر علني في أربيل في الرابع والعشرين من سبتمبر/أيلول 2021، الذي اداره أحد الناشطين من حملة الجنسية الأميركية، والذي قاتل مع المحتل وهرب الاختام الاسطوانية القديمة التي نهبت من المتحف العراقي. وقد حشد لهذا المؤتمر المخزي أكثر من 300 شخصية عراقية، حيث دعا البيان الختامي للمؤتمر الى التطبيع مع الكيان الصهيوني علانية.
اما مبررات التطبيع بين العراق وإسرائيل، فقد قدمها للعراقيين تقرير امريكي ذكر فيه، بان التطبيع “سيلبي حاجة بغداد إلى استثمارات وأموال لتعويض الانخفاض الحاد في ميزانية الدولة جراء النهب وتبديد الثروات”، إضافة الى انهاء معاناة العراق من نقص السيولة. ومن جهة أخرى ذكر التقرير الأمريكي، ان التطبيع “سيحد من ارتفاع نِسَب البطالة التي وصلت الى 36%، فيما يعيش ثلث الشعب العراقي تحت خط الفقر”. وذكر ايضا، “بان مجموع هذه الأسباب هي التي دفعت الشباب العراقي في أكتوبر/تشرين الأول 2019 إلى الخروج والتنديد بحال الاقتصاد المزرى والفساد المُستشري، وهي تطورات تُغري البعض للاعتقاد أن التطبيع مع إسرائيل سيجلب منافع اقتصادية من إسرائيل وواشنطن والخليج، ويساعد في تقليص الدور الإيراني من جهة

أخرى، والأخير يُعَدُّ هدفا رئيسيا على أجندة الحكومة العراقية الحالية المرتقبة”.
ضمن هذا السياق يمكن تفسير تمرد مقتدى على البيت الشيعي، والتحالف مع حزب مسعود البرزاني ومنحه المكانة الأولى في الإقليم، بعد ان كان صمام امان هذا البيت والمدافع الأمين عنه. فحزب مسعود بالذات يرتبط بعلاقات تاريخية مع الكيان الصهيوني. كما يصبح واضحا سبب مساندة مقتدى القوية والمستميتة من اجل تمرير ريبار احمد البرزاني لأشغال منصب رئيس الجمهورية. فالرجل يتمتع بعلاقات جيدة جدا مع الكيان الصهيوني وتدرب في معاهد تل ابيب. وهذا ما يفسر ابتهاج الصحف الإسرائيلية برجلها ريبار البرزاني.
كما يصبح واضحا أيضا، تحالف مقتدى مع محمد الحلبوسي وخميس الخنجر. فبالإضافة الى تمثيلهما “للمكون السني” في العراق، فانهما يتمتعان بعلاقات جيدة جدا مع المحتل الأمريكي وحلفائه في المنطقة، وخاصة امارات الخليج العربي، التي يرتبط معظمها باتفاقيات ومعاهدات وعهود مع الكيان الصهيوني. بعبارة أخرى، فان مهمة مقتدى من خلال هذا الدور الذي رسمته أمريكا، لا يقتصر على التفرد بتشكيل الحكومة او نيل حصة الأسد منها، وانما تتعداها ليكون رجلها الأول في العراق، والمؤهل في نفس الوقت، لإنجاز مهمة التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي طال انتظاره بالنسبة للتحالف الأمريكي الصهيوني.
لكن أمريكا تناست، بان لا مقتدى ولا غيره قادر على انقاذ عمليتها السياسية من السقوط، وتمرير مشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني في جنح الظلام. فعملية المحتل السياسية وصلت الى الحضيض، الامر الذي رسخ القناعة بان لا خلاص للعراق الا بأسقاط هذه العملية المقيتة. وقد أكد على هذه الحالة المزرية التي تعاني منها العملية السياسية، التقرير السياسي الذي نشره “معهد كارنيجي” الأمريكي للأبحاث قبل عدة ايام. حيث ذكر في جانب منه، “بأن طريق الإصلاح في العراق ما زال وعراً. و

“أن العراق يتجه نحو الفشل بدولة هشة”. وبيّن التقرير “أن الإصلاحات ستواجه تحديات ومعركة شاقة تتطلب جهدا هائلاً وعقوداً لتنجز، جراء افتقاد البلاد لنخبة سياسية مسؤولة ومستعدة لتنحية خلافاتها جانباً من أجل المصلحة العامة”. وذكر التقرير أيضا أن “العراق لا زال دولة هشة ويتجه نحو الفشل جراء مشكلاته المتفاقمة، جراء إصرار الاحزاب الممثلة للطوائف والاعراق والديانات، على تقاسم الغنائم”. في حين أشار التقرير الى جانب اخر لا يقل أهمية بالقول، “الى جانب هذه العقبات، هناك ايضا مشكلة التضخم في القطاع العام. حيث اعتمدت الحكومات المتعاقبة على سياسة التوظيف في القطاع العام ما ادى الى تضخم البيروقراطية، حيث تستحوذ الحكومة على 40 % من الوظائف في العراق، وهي نسبة عالية بدرجة كبيرة مقارنة بالدول الأخرى، فيما تصل نسبة البطالة بين الشباب أكثر من 25%، إضافة الى استمرار تردي مستوى التعليم في البلاد حيث ان العراق يأتي في أسفل قائمة دول الشرق الأوسط من حيث الاستثمار في التعليم”.
اذن ليس هناك من بديل سوى مواصلة ثورة تشرين الشعبية، واسقاط العملية السياسية برمتها. خاصة وان نيران الثورة مازالت نيرانها تحت الرماد، وان العراقي أصبح مؤمنا بها، انطلاقا من قوتها وانتشار افكارها من جهة، وشعوره الوطني واحساسه العميق بالتفاؤل من جهة اخرى. وانطلاقا من هذه الرؤية التي لا تحتاج الكثير من الجدل، فان هذه الثورة العظيمة ستنتصر، وإذا تراجعتَ خطوة، فأنها تستطيع اجبار اعدائها على التراجع خطوات. الامر الذي يؤدي حتما الى اشتراك عموم العراقيين في الثورة واسنادها وتقديم الدعم لها. خاصة وان هذه الثورة تستعد لأطلاق موجتها الثالثة الوشيكة.