23 ديسمبر، 2024 1:38 م

قصة

يدفعُ الرجل بمرديّه المشحوفَ، يجلسُ فيه صبيّ في الخامسة او السادسة، لعلـّه ابنُهُ الذي وجَدَه ذات يوم ملفوفاً في صُرّة تحملها امرأةٌ أرختِ الحطبَ الذي أدمَى ظهرَها الى الارضِ وتقف عليه ذبابة كلبٍ كبيرة زرقاء.
يسمعُ الصبي صراخَ فتاة تمدّ يدَها من اسفلِ المياه. يحاولُ انْ يمدّ يدَهُ كي ينتشلَها فيمنعه الرجلُ الذي يدفعُ المشحوف صائحاً به:
عُدْ الى مكانكَ. دعْها تغيبُ في المياه فهيَ محضُ جثة هامدة.
انظرْ الى وجهها الذي بلا عينين. لكنْ لا تُحدّق طويلا فيه، لئلا…
فقد بَلغـْنا مكاناً ليس فيه من احَدٍ حيّ سوانا. اظنني قد اضعْتُ الطريقَ ودخلنا بالخطأ مقبرة المياه.
فما تسمعه الان مجرد صيحات قديمة لميتين، وكل ما تراه انما هي اشباح ارواحهم. لوْ امسكتَ بيدها فستجركَ الى قاع المياه.
يقال انهم يظهرون في الليل علـّهم يجدونَ يداً حية يمسكون بها فتَبعثَ فيهم بعض الحياة، ولو لبرهة اقلّ من رَمشة عينٍ، على قدر ما يكفي لشهقة مِنْ هواء او لرمي آهة في الصدر ظلتْ محبوسة قبل موتهم بين الرئة والشفاه. ثم يهبطونَ الى القاع مع الفجرخشية ضوءُ الشمس الذي يجعلُهمْ غبارا.

بقوة يدفعُ الرجل بمرديّه الفتاة وقبلَ انْ تَغيبَ في المياه تـُلقي كلاماً غريباً يتذكّر الصبيّ نثاراً منه:
إيهٍ منكَ… انتَ يا مَنْ منعْتَ يدكَ عنـّي ولم… اذهبْ بعيدا… فلن تقدرَ على العيش معَ احدٍ بعد اليوم… لقد القيتُ نـُذري عليكَ… أنتَ الانَ وقـْفٌ لي مدى الحياة… الى ان تعود ذات يوم الى هنا وتمسك بيدي. واذا لامستَ او لامسكَ احداً… ستنمو الطحالبُ والديدانُ في يَديكَ وفي جلدكَ وفي عظامكَ وفي…
سيأكلُ الوجعُ والخوفُ والغثيانُ والحَيَرة والعَتـَه والنسيان وشيئ آخرُ من ذلك قلبكَ وعقلك وجسمك. ستعيشُ وحيداً. وتموتُ وحيداً. على سريرٍ حديديّ يجرّه حصانان احدُهما ابيضُ بغرة سوداءُ في جَبينه والآخرُ اسودُ بغرّة بيضاءُ… ثم ستَبحث… عن يدٍ تناولكَ قدحاً مِنَ الماء قبلْ انْ… تموت… لكنْ هيهاتَ لكَ وبيهاتَ… طالما امتنعتَ عن يديْ التي… واصغيتَ لصوتِ ابيكَ. ثم تلاشى الصوت بعد انْ حملتْ ضربات المردي المشحوف بعيدا.

حين وصل الصبي مع ابيه الى البيت، مدّ الاب يده كي يُعين الصبي على النزول من المشحوف فارتعدتْ يدُ الصبي واحمرتْ وبداتْ تظهرُ عليها تقشرات خضراء وسوداء وشَعرَ بلجده كله يتفلطح وينزّ قيحا ودما….
تكررَ الامر حين حاولتْ امه انْ تحضنه اليها …وتكرر ايضا مع افراد عائلته ومع كل يد يصافحها.

بعد ذلك لم يقدر الصبي على ملامسة احد. حتى ولا حيوانا حتى ولا طيرا. كلّما لامسَ شيئا حيا نمَتِ الطحالبُ والديدانُ في يَديه وفي جلده وفي عظامه وفي…
وبدأ يأكَلُ الوجعُ والخوفُ والغثيانُ وشيئ آخر من ذلك قلبه وعقله ولم تنفعْ معه الادويةُ ولا الرقى ولا التعاويذُ.
بعد بضع سنين بدأت تظهر عليه علامات الهلوسة والجنون… يرى اشباحا ويتكلم بهوامات المجانين…ثم بدأ يطوف الازقة والشوارع يتبعه صبيان مشاكسون بعضهم يرميهم بحجر وبعضهم بعظام وبعضهم بفواكه متعفنة. ثم اختفى من المدينة تماما وظن اهله انه ربما ماتَ او اكلته ذئاب القرية المجاورة.

لكنه لم يمت ولم يأكله اي ذئب، بل انتقل للعيش في مدينة اخرى لا يعرفه احد فيها ولا يلامس احدا بالتاكيد. مارس مهنا كثيرة وزارَ مدنا عديدة لكنه كان يعيش لوحده مثل سامريّ ملعون يقول “للناس لا مساس”. قضى كل عمره على هذا المنوال التعيس حتى صار الان كهلا. لكنه، لاسباب غامضة لم يفكر ابدا بالعودة الى البيت، الى اهله الذين يئسوا من البحث عنه بعد سنوات طويلة وقرروا نصبَ فاتحة على روحه.

ذات يوم، في بيته الذي لا احدَ فيه سواه. احسّ بمرض شديد بقي على اثره في الفراش لعدة ايام دون ان يتفقده او يزوره أحد. ادركَ حينها انّ اجله باتَ وشيكا. ثم رأى كما يرى النائم كأنّ جسده مطروحا لعدة ايام على سريرٍ حديديّ يجرّه حصانان احدهما ابيض والاخر اسود… فتذكر بخوف وفزع قول فتاة المياه تلك التي… وقبلْ انْ يموت التفتَ باحثاً عن يدٍ تـناولُه قدحاً مِنَ الماء فلم يجد… ثم رأى حُلما آخر كأنه يقف على ضفة مياه ويقف امامه عصفور على غصن يتكلم اليه لغة البشر ويسأله: انْ يَركبُ المشحوف ويمضي به اوّل الليل الى تلك المياه…

وحين بلغَ المكانَ، رآى الفتاة ذاتَها على الحال ذاتِها، فقالَ بشيء من الخوف والغضب: وَيْ… اما تزالينَ ها هنا ولمْ تهلكي بعدُ… وقبلَ انْ تقول شيئاً ما، مَدّتْ يدَها اليه فمدّ يده هو الاخر وحين حاولُ رفـْعَها الى المشحوف انقطعتْ يدها في يده لتصيرَ رشة ماء تندلقُ على ثيابه، ثم نظرُ في الماء فلم ير سوى وجه بعينين سوداوين يتماوج مع الماء فصاحَ مذعورا:
هَيْ… لقد كنتِ بلا عينينِ ذلكَ اليومَ الذي… فقالتْ: نعم، لكنّ لمسة من يديكَ اعادتْ لوجهي هذين العينين. شكرا جزيلا لك وحمدا لله الذي بعثكَ اليّ….. لقد نلتُ اليومَ مُرادي. كان هذا في الحقيقة كل ما اردته منكَ ذلك اليوم.
الآنَ، وقد أبْريتَ نـُذركَ وأوفيتَ دَيْنـَكَ، مَرحى لكَ وسَرحى… وهنيئا لك حياتك. سأمضي انا الآن “راضية مرضية” تحتَ المياه الى مكانٍ بعيد لاعودة منه. أمّا انتَ، فستمضي فوق الارض. اذهبِ الآنَ وعدْ الى بيتك، الى ابيكَ وامكَ والى حياتك. ستعود صبياً في الخامسة او السادسة … أمامَكَ الكثير من الحياة.

وقبل انْ يختفي الوجه تماما في المياه، سَمعَ صوتَ ابيه وهو يلكزهُ بالمردي قائلا: هَيْ… يا ولدْ… قلتُ لك لا تحدّقْ طويلاً في وجهها.

انتهت