يتضور صاحبنا الثمانيني حبا , وهاهو يصبحنا ببيتي شعر ولادة بنت المستكفي : (( اقلل عتابك فالبقاء قليل والدهر يعدل تارة ويميل .. ولعل ايام الصفاء قليلة فعلام يكثر عتبنا ويطول )) , ثم يتأوه قائلا : لن اكرر العبارة التي كنت اتلذذ بترديدها ( لخيبات مرت واخرى اتية على الطريق )سافتح صفحة جديدة لاسجل فيها بفرح شديد اسماء احبتي ان راسلوني وان احبوا وكانني اتعرف عليهم للمرة الاولى .
سبق ان نشرت مقامة بعنوان المقامة المطولة أوردت فيها قصة ولادة بنت المستكفي مع ابن زيدون , وهي من القصص الشائعة في العصر الأندلسي , حيث عاش ابن زيدون حياة رغدة , وكان أديبا وشاعرا وكان بمثابة وزير المعتضد بالله بن عباد في إشبيلية, وفي المقابل فإن ولاّدة بنت المستكفي أميرة أندلسية وشاعرة عربية من بيت الدولة الأموية في الأندلس , وهي ابنة الخليفة الأموي الأندلسي ( محمد بن عبد الرحمن ) , الملقب بـ ( المستكفي بالله ) , أحد أضعف حكام الأندلس في فترة انهيار العصر الأموي الذي قام على أنقاضه عصر الطوائف , وأمها هي جارية إسبانية اسمها ( سكرى ) , وقد ورثت منها بشرتها البيضاء وشعرها الأصهب وعينيها الزرقاوين , وقد قتل والدها في قرطبة , اشتهرت بالفصاحة والشعر , وكان لها مجلس في قرطبة يحضره الشعراء والأدباء ويتحدثوا في شؤون الشعر والأدب بعد زوال الخلافة الأموية في الأندلس , وقد كانت من الأديبات الشهيرات في زمانهن , وقد التقت بالعديد من الأدباء والشعراء لكن لم يلق أحدهم طريقا إلى قلبها سوى ابن زيدون , الذي بادلها الحب كذلك , وعاش الاثنان حياة حب لفترة ومن ثم كان الجفاء والممانعة من قبل ولادة , لكن بين الشد والجذب ولدت أقوى قصة حب في الأندلس دخلت التاريخ العربي , ومن أروع ما أنشده ابن زيدون قصيدته النونية التي جاء فيها عن الجفوة:
(( أضحى التنائي بديلا من تدانينا وناب عن طيبِ لُقيانا تجافينا
بِنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقا إليكم ولا جفّت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت سُودا وكانت بكم بيضا ليالينا
ليُسق عهدكم عهد السرور فما كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا من لو على البعد حيا كان يحيينا
عليك مني سلام الله ما بقيت صبابة بكِ نُخفيها فتخفينا )) .
كان الوزير العاشق ( أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي ) الشهير بـ (ابن زيدون) , يحظى بمكانة مرموقة في المجتمع , وسيماً وذكياً ومرهف القلب , وحباه الله بموهبة شعرية فذة وقدره أدبية متميزة , يحضر مجلسها , ونشأ بينهما حب جارف عبر لقاءات في مجلسها , فاشتعلت قريحته بأشعار ملتهبة , ومساجلات رائعة , كانت مفاجأة لرواد المجلس , وأضفى سجالهما الشعري بعدا جديدا على حركة الإبداع الأندلسي في نهاية العصر الأموي , وبداية عصر الطوائف , ووصل الحب الجارف بينهما حد أنها كانت تطلب اللقاء وتتعجله تحت جنح الظلام ونظمت أبياتاً من الشعر في ذلك :
(( ترقب إذا جن الظلام زيارتي فإني رأيت الليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح والبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر)) , ويصف ابن زيدون حرصه على سرها , وصونه لها وحنانه عليها بقوله :
(( أصونك من لحظات الظنون وأعليك من خطرات الفكر
وأحذر من لحظات الرقيب وقد يستدام الهوى بالحذر )) .
ويبدو أن ولادة متحركة القلب, فبعد ابن زيدون سعت إلى كسب قلب الوزير ( ابن عبدوس) الذي يقال أنه تزوجها فعلا , وسجن ابن زيدون لهجائه له بعد أن شعر باليأس , وبقيت ولادة في المقابل خالدة رغم كل شيء بسبب ابن زيدون , لكن للقصة وجه آخر حيث ورد أن ابن زيدون تعلق بإحدى جواري ولادة , ليثير غيرتها , أو أن ذلك حدث وهي تتغالى عليه , ما أثار غضب ولادة وقد أوردته شعرا, بعد الفراق :
(( لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا…..لم تهوَ جاريتي ولم تتخيَّرِ
وتركت غصناً مثمراً بجماله ………وجنحت للغصن الذي لم يثمرِ
ولقد علمت بأنني بدر السما ……….لكن ولعت لشقوتي بالمشتري)) .
ومن شعر ولادة على قلته قولها في بيتين مشهورين لها :
(( أنا والله أصلح للمعالي …..وأَمشي مشيتي وأتيهُ تيها
أمكنُ عاشقي من صحن خدّي …..وأعطي قُبلتي مَن يشتهيها )) , وكذلك قالت عن نفسها: (( إني وإن نظر الأنام لبهجتي كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الكلام فواحشا ويصدهن عن الخنا الإسلام )) .
قال بعض المؤرخين ان ( ولادة بنت المستكفي) لم تتزوج من أي رجل , وقيل إن السبب في ذلك أنها متطلبة كامرأة وكأميرة شديدة الكبرياء والفخر بنسبها وأنوثتها وحبها , فكانت تريد رجلاً كامل الصفات , وفيًا لا ينظر لغيرها , ولا يرى سواها في الكون كله , وفي عصرها لم تجد رجلاً كهذا , فآثرت البقاء على عرش الشعر والعزة بدون رجل غير مناسب قد يهز ما تملكه من نسب رفيع , ولسان شعري فصيح , ومكانة رفيعة في قرطبة .