يهمس صاحبنا الثمانيني في اذن من أحب : (( تسألين عن سقمي صحتي هي العجب )) , يترادى لوعة , ولا يتجرأ أن يسمي آلامه بمسمياتها , يطارده الشعور بالشيخوخة , رغم إرادته وبغير دعوة , لا يدري كيف يتناسى دنوّ النهاية , وهيمنة الوداع تحيةً للعمر الطويل الذي أمضاه في الهيامات , ويختار همسته من رائعة ابو نؤاس : (( حامِلُ الهَوى تَعِبُ يَستَخِفُّهُ الطَرَبُ , إِن بَكى يُحَقُّ لَهُ لَيسَ ما بِهِ لَعِبُ , تَضحَكينَ لاهِيَةً وَالمُحِبُّ يَنتَحِبُ ,تَعجَبينَ مِن سَقَمي صِحَّتي هِيَ العَجَبُ , كُلَّما اِنقَضى سَبَبٌ مِنكِ عادَ لي سَبَبُ )) , ولا يزال يؤمن ان كل شيء ينتظر وقته , لا وردة تتفتح قبل وقتها, ولا شمس تشرق قبل وقتها فقط انتظر, والذي لك سيأتيك , ويبقى الأصعب , أن تعرف ما هو الأغلى بالنسبة إليك , وأن تتوقّع أن تُغيّر الأشياء , مع العمر , ثمنها هبوطا أو صعودًا , عجيبة هي الحياة بمنطقها المعاكس , أنت تركض خلف الأشياء لاهثاً فتهرب الأشياء منك .
أود لو يفصح , فأختار له من اقوال جبران خليل جبران : (( من لا يشعل سراجه لا يرى في الظلام غير الظلام , سكوتي انشاد , وجوعي تخمة , وفي عطشي ماء , وفي صحوتي سكر , وفي لوعتي عرس , وفي غربتي لقاء , وفي باطني كشف , وفي مظهري ستر , نحن نعيش بضوء الشمس , ولكن من منا يستطيع الحياة في الشمس ؟ الحياة جزيرة صخورها الاماني , واشجارها االاحلام , وازهارها الوحدة , وينابيعها التعطش , وهي في بحر من الوحدة والانفراد )) , ويا عزيزي , قدر من الجنون ضرورة , قدر من الجنون لابد منه من أجل البوح , والانفتاح على الحرية, فكن كالفنان , كالسكران , كالعبقري الذي يتجول في مواضيعه , كن كأنك إله يرسم ويلون بحدود لا حدود لها , وتحرر من هذا القيد الذي قيدت أنفاسك وروحك فيه, حاول أن تتحرر من الأثقال الذي وضعوك فيها, انطلق إلى الحياة دون حمولات الماضي اللاسعيد.
يقول باولو كويلو : ((إذا كنت أهدأ مما يجب لم تعد حيا )) , وأذا كنت حياً عليك أن تهزّ ذراعيك , وتقفز وتصدر ضجيجاً,عليك أن تضحك وتتكلم مع الآخرين , ولا تبحث الا عن الحب و السند , عن مَن يحنُو مودةً , ويدنو رحمةً , عن ساتر العيوب , وعن الأمان الذي لا يعقبه خوف , عن الدفء الذي لا يتبعه برد, ابحث عمَّن تتخطى معه عتبات الحب إلىٰ منزلة المودة والرحمة , لأن الحياة هي نقيض الموت تماماً , فالموت هو أن تبقى في الوضع نفسه إلى الأبد , فاخرج إلى الدنيا ببوح دلوك الفارغ , وألقه في جُبِّ الأيام , ما أدراك , قد تعثر على الذي يجعلُ بقراتِ أيامك العجاف سمانا , ويحيل سنابل عمرك اليابسات خُضراً يانعات , ولعله يعبر بك مواسم قحطك , لأن أجمل ما نعثر عليه في هذه الدنيا , هي تلك الأشياء التي تسوقها إلينا دون تخطيط .
يقول أدهم شرقاوي : (( يا صاحبي , ليس نصراً أن تعيش , ولا هزيمة أن تموت , الفكرة في كيف تعيش , وعلى أي شيء تموت )) , وفي الصّمت , الكثيرُ من الكلام ﴿ فلن أُكلّم اليوم إنسيا ﴾ , وفي الشكوى , الكثير من الحب ﴿ وأيوب إذ نادى ربه ﴾ , وفي الكتمان , الكثير من الأشجان ﴿ ويضيق صدري ولا ينطلق لساني ﴾ , وفي اختلاس النظرات , الكثير من الشّوق ﴿ فبصرت به عن جُنُبٍ ﴾ , وها أنتَ الآن منهكٌ مجددًا , حتى أنكَ عاجزٌ عن النومِ رغم شدَّة التعب , تدور في رأسكَ ألف فكرة , حتى ليُخيّل إليكَ أنَّ العالم الذي في رأسكَ أكبرُ من العالم الذي رأسكَ فيه , وحيدٌ رغم كل هذا الزّحام حولكَ , وكلهم يرون صلابتكَ , تلكَ القشرة السميكة التي تُغلفُ بها نفسكَ , كثمرة الجوز , صلبة جدًا من الخارج , ولكنها من الداخل هشَّة , لا أحد منهم يرى هذه الهشاشة التي أنتَ فيها , كلهم يرون ابتسامتكَ , تلك التي تعلو محيَّاكَ دومًا , ولا أحد منهم يعلمُ أنك تنتظرُ أن تنفرد بنفسكَ لتبكي .
يقول صاحبك عبد الرحمن منيف : (( الحياة ياصديقي شيء جدي أكثر مما يتصور الناس , ومن يريد أن يحيا عليه أن يغامر كثيرا , أن يكون شجاعا , وإذا رأيت رجلا ليس في قلبه امرأة , فتأكّد أن ما تراه ليس رجلا, إنه جثّة تريد قبراً )) , وأنت تعرف ان الرجال مهما بلغوا من العمر , أطفال بحاجة دائمة إلى النصح والرعاية , و الحبّ يا صديقي شيء خاص تماماً , وعدم البوح هو الشيء الذي يتسع ويكبر في حياتنا , وهو السجن , فقلب الرجل لا يخلو من امرأة , قد تكون امرأة حية أو ميتة, قد تكون زوجة أو صديقة, وقد تكون شيئاً آخر , وهناك لحظات شديدة الغموض , ولا يعرف الإنسان كيف تأتي , أو متى , لكن إحساسا غامضا , حدسا مفاجئا , ينبئ بحسرة ولوعة تطول , و الذاكرة لعنة الإنسان المشتهاة ولعبته الخطرة , إذ بمقدار ما تتيح له سفرا نحو الحرية فإنها تصبح سجنه .
على أصداء همستك , أهمس لك بشعر النواب مظفر : (( شأكلك وأنته هلمايع , وآنه من الحركة زهديه , جثير أكزازك بروحي , وأكولن هاي حنية )) .