مقامة معادن غريبة

مقامة معادن غريبة

نشر الدكتور باسم البزاز : (( في برنامج إذاعي سألت الصحفية الدكتورة هدى عبد الناصر عن حصتها من ميراث أبيها فأجابتها : 200 جنيه , ما زلتُ أحتفظ بصورة للشيك بالمبلغ , لكنّنا – أضافت- ورثنا ما هو أهمّ من المال : حب الناس واحترامهم , أينما ذهبنا داخل مصر وخارجها )) , ثم يتسائل الدكتور : (( سيقول قائل : حب؟ احترام؟ وما قيمة هذين المعدنين الغريبين في سوق هذا الزمن؟ )) , ذلك هو الزمن ألأميركي , , هو زمن التفاهة الذي ساد  , زمن الثقافة المادية المعولمة المعادية لقيم الرجولة , عبد الناصر وآخرون من القادة الذين نذروا أنفسهم للوطن وللقضية لم يسرقوا , لأنهم كانوا رجالا , وليس كل ذكرٍ رجلاً , فالذكورة تُولد , أما الرجولة فتُربّى, والرجولة ليست في غلظة الصوت أو كثافة اللحية , بل في صدق الوعد , وغضّ الطرف , واحترام المرأة , وتحمل المسؤولية , والصبر عند الشدائد , فالرجل الحق لا يصرخ ليُطاع , ولا يضرب ليُقنع , ولا يتكبر ليُهاب , وما أعظم قول الله : (﴿ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) , هؤلاء هم الرجال , من رُبّوا على الحق , لا من وُلدوا عليه.

هذه الرجولة , التي هي تربية لا ولادة , هي ذاتها الأرض الخصبة التي أنجبت القامات السامقة في جيل سبقنا , ففي زمن الأمية وندرة التعليمأنجب العراق عبد الحبار عبدالله , علي الوردي ,حسين علي محفوظ , طه باقر , زها حديد ,فاضل السامرائي , السياب , سعد الوتري , كمال السامرائي , وغيرهم من خيرة علماء العراق في مختلف الاختصاصات , فهل تجد مثل تلك المعادن الغريبة على هذا الزمان المتوحش ,ومتى ستستطيع الدراسات العليا أن تكرر مثل هذه الشخصيات ؟ ليمكننا القول اننا قد جنينا ثمار التعليم العالي , وليتم استخراج لآلئ الأفكار والأحلام والرؤى من صدفات المحار, فعندما ينجدل عقل عِماده الخيال بالعلم والعمل الجاد , ينتج أفكارًا نابهةً (( شعارFailure is Not an Option)) .

يقول أحمد فؤاد نجم : والواطي لما اعتلى اجرله كم طبال, الشحط والبلطجي واللص والمحتال , والكوديا لبست شنب واتحزمت بعقال , ومين يحب النبي , سقفه كمان ياعيال والرقص دار ف البلد عمال على بطال , واللحم لما انكشف غطى علي اللي اتقال , لاسمعنا صوت ف النغم ولا كلمه في الموال , قتلوا الكلام في الغنا والرنه ف الخلخال )) , وعليه، فإنني أنصح كل طيب أن يتمسك بمعدنه الأصيل , ويتحصن بقيمه لأنه على الأغلب سوف يتعب , إلا أن الصمود هو مفتاحه , , لأن مايجري منازعة بين الوجود ألأميركي المقيت , والإنقراضي الجميل البهيج , ونبقى آمنين بمعطيات التأريخ ومنطق الأكوان , فالغثيث سينتهي  ,والجيّد سيتواصل , والإنسان ولد حرا , وخلق حرا , ولا يمكن لأية قوة أن تسرق منه حقه الطبيعي , لأن قدرات وقوى الأكوان تسانده وتتفاعل معه بإيجابية عالية , فهل من صحوة ووعي وتواصل إدراكي مع واقع الحياة , وأنوار المستقبل والحاضر المتوهج بالأفكار؟ ومتى ؟

من مذكرات أنديرا غاندي (( من لة أذان للسمع فليسمع)) : أنها سألت والدها :ماذا يحدث في الحرب ؟ رد والدها عليها : ينهار التعليم و الاقتصاد , قالت : وماذا يحدث بعد إنهيار التعليم والإقتصاد؟ أجابها والدها : تنهار الأخلاق , قالت : وماذا يحدث أيضاً لو انهارت الأخلاق ؟ رد عليها بمنتهى الحكمة :و كيف يعيش الانسان في بلد انهارت أخلاقه ؟ يستطيع الإنسان أن يتعايش في أي مجتمع فيه بعض النقص الغذائي ,الإقتصادي , الترفيهي … إلخ , إلا انعدام الأخلاق , وقتها يسود اللئام و السفلة , وتذهب الأعراف و القوانين و الخير , و يتحول كل شيء إلى غابة , و بهذا تصبح الحياة الكريمة شبه مستحيلة.

وعزيزُ النفسِ كالخيل , يحزن ولا يبوح , يُخذل ولا ينكسِر , وكأنّهُ فارسٌ خُلِق لِيُحارب وحدهّ دائِما , نحن جيل نشأ وتربّى وترعرع على الحب , والتسامح والوفاء والاحترام وكل القِيَم النبيلة الجميلة , عاصرنا رجالاً ونساء لم يعرفوا القراءة والكتابة ولكنهم اتَّقنوا عِلم الكلام , لم يدرسوا الأدب ولكنهم علّمونا الأدب , لم يدرسوا قوانين الطبيعة وعلوم الأحياء ولكنهم علمونا فن الحياء , لم يقرؤوا كتابا واحداً عن العلاقات , ولكنهم علمونا حسن المعاملة والاحترام , لم يدرسوا الدين ولكنهم علمونا معنى الإيمان وعلمونا الحلال والحرام , لم يدرسوا التخطيط ولكنهم علمونا بُعد النظر في كل شيء , لم يجرؤ أحد منا على الكلام بصوت عالي في البيت , كنا نحترم الجار والجار السابع , لِمَن عاش تلك اللحظات الجميلة , وإلى الجيل الذي ربّانا وهذّبنا , حفظ الله مَن كان منهم حَيّاً والرحمة والمغفرة لمن غادر دنيانا .