يقول مثل صيني قديم وحكيم : (( الحب والعطر لا يختبئان )) , حقيقة تلامس الروح , وما أصدقها من كلمات تلامس جوهر التجربة الإنسانية , فمثلما تفضح رائحة العطر وجودها وتعلن عن نفسها , كذلك يفعل الحب , إنه يتسرب من العيون نظراتٍ , ومن الشفاه بسماتٍ , ومن القلب دقاتٍ متسارعة , لا يمكن للقلب أن يحمل كل هذا الشغف وكل هذا الحنين ويستمر في التظاهر باللامبالاة , ففي كل حركة , وفي كل كلمة , بل وحتى في الصمت , تجد أثراً خفياً للحب الذي يعتمل بداخلك , تخيل معي للحظة , هل يمكنك إخفاء رائحة الياسمين حين تتفتح أزهارها في ليالي الربيع ؟ أو كتم عبير المسك عندما يفوح في الأجواء؟ بالطبع لا, وهكذا هو الحب , لا يمكنه أن يظل مخبأً بين طيات الروح , ولا حبيساً خلف أسوار الصمت.
بَيْنَ طَوْقِ الحَمامةِ , وفُصوصِ الحِكَمِ , وتَحْتَ ظِلالِ تَرْجُمانِ الأَشْواقِ , تُولدُ رائحة الحب كمَا يُولدُ السِّرُّ في غَفْلةٍ مِنَ الوُضوحِ , وَيُكْتبُ الحَنينُ بِنبْضٍ يُخْطئُ الجَسدَ لِيُصيبَ المَعْنى ,
هُنا , لا يُرْوى العِشْقُ مِنْ كُؤُوسِ الهَوى المُعْتادةِ , بَلْ يُرشُّ على القَلْبِ كالمَطرِ الَّذي ضَلَّ طَريقهُ , فَنزلَ في الدَّمِ , مِنْ طَوْقِ الحَمامةِ ذَاكَ الَّذي كَتبَهُ ابْنُ حَزْمٍ , كَفَقيهٍ عَاشِقٍ , إِلى فُصوصِ الحِكَمِ الَّتي فَتَقَ فيها ابْنُ عَرَبيٍّ أَسْرارَ الوُجودِ , إِلى تَرْجُمانِ الأَشْواقِ الَّذي جَعلهُ لِسانَ العَارِفينَ , إِذَا هَامُوا في تَجلِّياتِ الجَمالِ ,في ذَلِكَ الكِتابِ الأَخيرِ, نَحتَ ابْنُ عَرَبيٍّ رائحة تجلت كَمَبْدإٍ كَوْنيٍّ , كَاسْمٍ مِنْ أَسْماءِ الجَمالِ الإِلهيِّ , وحرَّرَ الشَّوْقَ مِنْ قَفصِ الجَسدِ إِلى مَيْدانِ المُطْلقِ.
كم من مرة حاولنا أن نكتم شعوراً جارفاً , أن ندفن لهفةً عميقة , أو أن نتجاهل انجذاباً قوياً ؟ ولكن هل نجحنا حقاً ؟ سرعان ما تجد هذا الشعور يتجلى بطرق غير متوقعة , ربما في ابتسامة غير مقصودة عند رؤية من تحب , أو في توتر الصوت عند الحديث معه , أو حتى في لهفة السؤال عنه من بعيد , الحب الصادق يجد دائماً طريقاً ليُعلن عن نفسه , لأن طبيعته هي الظهور, مثلما هي طبيعة العطر أن يفوح , إنه يتسرب كأشعة الشمس الذهبية من بين الغيوم , لا يمكن حجبها طويلاً , إنه قوة دافعة , إلهام لا يمكن إطفاؤه , ونبض حياة يرفض أن يُقمع , فلماذا نحاول إخفاء ما هو جميل وجوهري إلى هذا الحد؟ لماذا نخشى أن نُظهر هذا النور الذي بداخلنا؟
لَمْ أَسْمَعِ البَابَ , لكنِّي رأيتُ الضَّوءَ يَنسِجُني على كُرْسيٍّ مائِلٍ بَيْنَ النَّارِ والمَاءِ , قُلتُ: هذِهِ قَدم تَكْتُبُ خُطًى لا تُحاكَى , وتَعلَّقْتُ بخَنَسي كَأَنِّي لَمْ أُوعَدْ بَعدُ , كُلُّ الشُّرُفاتِ كَانَتْ تَنْظُرُ , كَأَنَّهَا تُحَاوِلُ فَهْمَ لِماذا يُغَيِّرُ العِطْرُرَسْمَ الفضاء حينَ الشروق ؟ لَمْ أَسْأَلْ: مَن أَنْت ؟ كُلُّ الأَجْوِبَةِ نَهَضَتْ مِنْ غَفْوَتِي , وَلَفَّتْني بلُغةٍ لَيْسَ لها نُطْقٌ إلَّا على الشَفَتيْن , ذاتَ لَيْلٍ , اسْتَحْملْتُ القَلقَ كَوِسَادةٍ يَنامُ عَلَيْها التَّعَب , كُنا نتنَفَّس نَجْمًا , وَنسْكُبَ جُرْحًا , وأنا , أَتَعلَّمُ كَيْفَ يَصيرُ اللَّمْسُ صَلَاةً , فلا تَوقيتَ للجُنُون , حينَ تَتَفتَّحُ (( فينوس)) , يَغيبُ الزَّمَنُ , ويَبْدَأُ شَيْءٌ لَيْسَ مِنْ هَذَا الكَوْنِ.
لَوْزُالحب مُرٌّ, عِنْدَمَا يَبْقَى عِطْرُك مَا بَقِيَ عَلَيْكِ مِنِّه , أَدْمَنْتُه , لِلشِّفَاءِ مِنْه , وخِضَابُ الكَفَّيْن دَمِ , أَثْمِدُ الكُحْلِ , لأتشهى رَمَادُ الأَحْلَام , مبعثرة سِنِينُ العُمْر , وفي فَجِيعَةُ التَّجَلِّي
يَشْتَدُّ الرَّمَادُ , وَيَتكَثَّفُ المَجَازُ: طُوفانَاتٌ , سْبَارْتاكُوس , تَكيَّةُ أَلْفِ لَيْلةٍ , شِعَابٌ , انْتِظارَاتٌ ,أَرْخَبيلُ صَمْتٍ , وَالخِتَامُ لا يُغْلِقُ الجُرْحَ , بَلْ يَتْرُكُهُ مَفْتُوحًا , حَيْثُ لا فِدَاءَ إِلَّا في السُّقُوطِ الأَخيرِ: (( سَبَحْتُ فِي عُقَابيلِ الغَمْرَةِ , وَسَلَّمْتُ بِقَدَرِي , فَخَلَاصي : هَذَا السَّحِيقُ الدِّيْجُورِيُّ )) , هَا أَنَا , أُغْلِقُ الكِتَاب , والانْتِظَارُ: مُتَلَازِمَةُ الشَّوْق , وَالغِيَابُ : مَرَادِفٌ لِلنِّسْيَان , أَطْلِقُوا الفَرَاشَات , ستقتفي رائحة سَمَاءِ الله وتُفْتَحُ أُصُصُ الزُّهُور, لقد قَرَشَتْ أَنْسَامُ عِطْرِنا , قَمَّطْناهَا بِطِينِ العَبْرَة , وَاسْتَوْدَعْناَها ضُحَى الحُلْم , فَلنتَوَكَّأ عَلَى الرُوح , لا على الظِلِّ ,
واللَّيْلُ طَوِيل , وَبِكِ مُعلَّقٌ , مُؤَرَّق , نَبتَ عَنِّي .
في النهاية , دع الحب ينبعث منك كما ينبعث العطر من زهرة , دعه يملأ الأجواء من حولك , ويصل إلى من يستحقه , فالحب , كالعطر, كلما انتشر, كلما زاد جماله وعمّ خيره , وعندما يَتَشابكُ الأَثرُ بِالمَأْثُورِ , وتَغْدُو المُرَاوَدةُ فِقْهًا شِعْرِيًّا في العُبورِ مِنَ الذَّاتِ إِلى الأُخْرَى , ومِنَ الأُخْرى إِلى التَّلاشي , التسريب لايغدو اسْتِعارَةً , كَأَنَّها الكَلِمةُ الأُولى الَّتي خُلِقتْ , والأَخيرَةُ الَّتي تُطْفِئُ النُّورَ , لِتُضيءَ بِالغيَابِ , فيسمو العطر , القَصِيدَةٌ التي لا تُقَالُ , بَلْ تُسَالُ مِنَ الجِرَاحِ , ولا تُفْهمُ , بَلْ تُعَاشُ وتُرَتَّلُ , وفي الِانْكِشافُ , هُناكَ تَوتُّرٌ نَاعِمٌ , وعِطْرٌ , ولَمَعانٌ في الأَصَابِعِ , ودَهْشةٌ فِي اسْتِقْبالِ الضَّوْءِ, كَأَنَّ الحَبيبَ نَزَلَ مِنْ نَصٍّ صُوفيٍّ , أَوْ مِنْ مِرْآةٍ مُعَلَّقةٍ بَيْنَ المَاءِ والنَّارِ.